مستوطنة جبل ريش الحمام : الجزء 8

ياسين لمقدم
say0330@hotmail.fr

2017 / 5 / 22

بِكرعٍ واحد ودون استرجاع للنفَس، أتى الشيخ على محتوى قارورة الماء الغازي. ثم ردّ بجفاء مفحما عمر الذي حاول أن يعطي بعض الشروح والتبريرات حول أسباب عزم صديقه على استيطان قمة الجبل.
كرر الشيخ قوله الأول، محاولا إعطاء كلامه نوعا من الجدية، بانتقائه للكلمات والتعابير التي تدخل في إطار التعاملات الإدارية الرسمية الجافة التي يبتغي منها الرسميون إرعاب وإخضاع المواطنين.
تململ سعيد في كرسيه، ثم وقف نصف وقفة ليتسنى له حمل الكرسي من مسنديه للمرفِقين، فتراجع به قليلا إلى الخلف، وقام بإمالته تجاه الشيخ، ثم قال :
ـــــ لا شيء في الدنيا سيمنعني من عزمي على العيش في قمة جبل لا ينتفع منها أحد. لا هي بالمرعى لجدبها، ولا هي بالشاسعة والمنبسطة فيطمع فيها المنتخبون سماسرة العقار، ولا أظن أنها كانت مبرمجة لمشروع ما.
وكمواطن ملتزم بالقوانين والأعراف، وذي جذور ضاربة في عمق أعماق هذه الأرض التي اختلطت تربتها بدماء وعرق أجدادنا وآبائنا في الذَّود عنها لحماية شرفها وعزتها وكرامتها من التدنيس الإستعماري عبر قرون خلت. لي كامل الحق والصلاحية أن أقوم بنقل بعض هذه الجذور وزرعها حيثما وأنّى أشاء.
والجبل مكان قفر، ليس فيه شجر، ولا يجري فيه نهر، وحتى الحمائم التي كانت تتخذ من جحوره أعشاشا لها، هجرته منذ عقود طويلة. إذن فأنا لن أزاحم أحدا بكوخي الصغير الذي سيكون ملجئي الأبدي بعيدا عن زحمة البشر وضجيج المركبات وتلوث الأجواء، ما دامت سلطتكم لم تمنع عن المدينة ما يشينها من أسباب الفوضى في كل شيء.
بالله عليك يا سيدي الشيخ، وأنت قد جاوزت في مهنتك الثلاثين سنة، هل رأيت أحدا من ساكنة المدينة الأصليين يحتج على أسباب تملك البعض للأراضي الشاسعة بالوراثة المشبوهة في عمق المدينة وهوامشها؟.
أم هل سمعت في سنين عمرك عن مواطن يطالب بحقه في شبر من أراضي الجموع، وبنفس الثمن البخس التي تباع به لسماسرة التراب وبطرق التوائية وإقصائية مقيتة؟.
إذن، فأخبر رؤساءك أن موعدنا في القمة الجبلية إن كانوا على تسلقها من القادرين.
استمر الجدال طويلا واحتدم بين الثلاثة، وفي اللحظات التي تهدأ فيها الكلمات لتستجمع نفسا عميقا يطيل زفرة الحوار، يتدخل بعض رواد المقهى في هذا السجال. ولم يستغرب سعيد تلون بعض الذين زعموا في السابق مساندتهم له، فهاهم الآن يقفون بوجه سافر في صفّ مبعوث السلطة المحلية، وربما إلى حين.
مع تمسك سعيد برأيه، صبَّ الشيخ جام غضبه على الفضوليين بغلظة ألجمت ألسنتهم في حلوقهم. ثم تغيرت لهجته أمام الصَّديقين، فركنت كلماته إلى التهدئة والمداهنة التي اكتسبها من خبرته الطويلة في عمله الذي يكاد أن يغير بشرة وجهه، فتصير خشنة ومتلونة كجلد الحرباء.
بهدوء ودون ضجر، كرر الشيخ المحاولة الأخيرة في إقناع سعيد بالعدول عن عزمه. وعندما لم يلتمس أي فتور في آراء مخاطبيه، همَّ بالمغادرة ماسدا على كرشه بعد أن عاوده ألمه الباطني، خاتما قوله أنه مجرد مرسول وقد بلَّغ...

يتبع...



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن