أيقونات

الاء محمد
loloromma@gmail.com

2017 / 5 / 22

"اعطني الناي وغنّي فالغنا سّر الوجودِ
وأنين الناي يبقى بعد أن يَفنى الوجودَ
هل فرشتَ العشب ليلا واحتضنت الفضا"
لم أكملْ المقطعَ حتىّ سمعتُ أحدا يقول لي : "الكلمة خطأ " , فالتفتُّ يميناً ويسارا وبدأتُ اشيرُ لنفسي .
_ "أنا ؟!!".
_"نعم أنتَ".
_"عن ماذا تتحدث؟".
رد ضاحكا : "ما تردده الآن بينك وبين نفسك , أيعقلُ أنِّ احداً مثلك يبدو ضليعا في الشعر والكلمات أن ينسى كلمات هذه القصيدة ؟! تلحفت يا أخي وليست احتضنت".
_ "ماذا!".
كان وجهي مصدوما كصدمتهِ عند انهيال الماء البارد, لم أعرف كيف أبدأ, فسألته: "هل أنت...هل أنت قارئ أيقونات مثلي ؟!! ,فأنا لم أعرف أحدا مثلي منذ عام أملي الذي انتهى بعد سنين من الخيبات."
_"ما أسمك؟" سألته. شاهدت ملامح وجهه التي تطوي بينها حروف عدة ناس قابلهم على الرغم من صغر سنه والذي ربما لا يتجاوز عدد الشيبات في مقدمة شعره الليلي المرفوع الى الخلف, ونزول بعض خصلات الشيب على وجهه كالشهب, لقد كان لون عينيه كلون الطين المحاط بسرب من نخيل.
فأجاب : "المشكلة أنًّ بأمكاني أنْ اقول لك كاذبا أي اسم أُريد, ولكنك تعرفه جيداً " بالفعل فقد كنت أرى حروف اسمه جيداً ! حاء وراء "حّر" وكأن الراء جاهدت كثيرا لابعاد الباء عنها.
فأجبت : "ولكني أردت أنْ اسمعك تقولها كجناحي طيرٍ !".
قال: "قم يا خُضر".
قالها بالضم على الخاء, ولطالما أردت أنْ أسمعها من أحدٍ ما, لأنهم كانوا دائما ما ينادوني "خِضر" بكسر أول حرف من أسمي, كأول كسر في قلبي. فقمت ماشيا معه, والأيقونات فوق رأس المّارين بقربنا, تمر كمرور اضواء السيارات في ليلة مظلمة كالحة, فبدأت أقرأ أحدها "مكتئب, اني أبحث عن شئ يفرحني, لكنَّ الفرحَ له ابوابٌ عدة والباب الذي عرفته شفافٌ".
فقلت له : "ربما أّنّك لست مكتئبا, ولكنك تنظر إلى الاشياء بواقعية, وتدقق كثيراً في التفاصيل, أطلق الفضول للفرح و دعه يأتيك, كن صديقا له".
فتفاجأ الرجلُ ورأيتُ خطاً من اللون الأبيض يرتسم على وجهه ,عندما أنفرجت شفتاه مبتسما, حتى استدرت ورأيت حُرّ ينظر و شفتاه ترددان :
"أبعدَ كلّ هذا الحب تهجرني
وتبعدني بسهم الغدر ترميني
قد لامني فيك من كان يحسبني له
قمرا فيطفئهم و يبقيني"
فقال حرُّ: "عد فأنت ما زلت قمرُها, وانسى قمرك الصناعي ذاك"
فالتفت الرجل ولم يقل أيَّ كلمة قط. كنا نسير غير منتبهين لطول المسافة التي قطعناها, فقد سرنا من جسر باب المعظم حتى ساحة التحرير, ولم نرَ شخصا ما حتى نقرأ أيقونته, ونهمس له بكلمات تساعده, أو تفرحه, أو ربما توقظه من سباته الطويل, فعادةً ما يحتاج البشر منّا لسماع كلمات تنسكب على قلبهِ الحائر وعقله المتعب وتخرجه من دواماته النفسية, كلمات يسمعها ليزهر. أشرت له بأن نجلس على أحد المصاطب في حديقة الأمة, حين مررنا من تحت نصب الحرية, تحته مباشرة حتى قالَ حرُّ: "ربما كان لجواد سليم رحلة طويلة و ممتعة ليمرّ على حروف هذه الكلمة ليبدع منها نصباً كهذا, شارحة له كل نقاط حروفها التي كونتها " سكت قليلا ثم قال:"لي الفخرُ أنْ أكون جزءا من اسم هذا النصب!!."
جلسنا على مصطبة بلون أخضر حُفرت عليها كلمات عدة, كان أبرزها " هل ألوم القدر, أم أمدح حظي", بعدها لم نتفوه بأي كلمة على الإطلاق, كنا ممتلئين بها ولكننا لم نجد بداية للفيضان الذي بداخلنا, فأحيانا قد تخجل الكلمات وترتبك أمام لحظات شاسعة الجمال كنت بانتظارها. حتى قاطع هذا الصمت صوت بلبلٍ مرَّ من قربنا فقال حرُّ:" رُبّما أنْ اسمي حرّ وأنا كذلك فعلا بكلماتي لإسعادِ الغير, ولكنّي دائماً ما كنت سجين الكلمات التي تعبرّ عنّي" ثم قال "أحب حروف اسمك الخضراء والتي دائما ما أرى الفراشات تداعبها برقة ".
فقلت:"أنا أرفض اليأس دائما, ربّما كان لأسمي الأثر الأكبر عليَّ, فكانوا دائما ما يرددون بأنّ الاسم يشكل جزءاً من صاحبه, أو يعكس جزءاً منه, وأنا كلمّا مررتُ بأمرٍ يجعلُ أوراقي صفراء, أتذكر اسمي فارجع شاباً بعمر الأخضر".
كنتُ أسبقُ حرًّ بسنين عمري ومحطاتي التي كنت أزورها لوحدي ودائما بصبري, وكان يسبقني بحزن لست أعرفه, حزن من نوع خاص أراه مطويا بين ضحكته المزيفة التي لم تفارقه منذ التقينا, فربّما كان مفهوما مشتركا بيننا, ما الفائدة من العبوس أمام أوجه الناس؟ ابتسم دائما فلعلَّ أحدهمُ رأى ابتسامتك وعادت له آماله, فالآمال ما زالت يافعة في هذا العالم, و لعلها ذكرته ببسمة أمهِ, أو صديقهِ, أو حبيبتهِ, فلا ذنبَ للناسِ في كونكَ مقطبا تقابلهم بوجه عديم الملامح. قطعَ حرّ استمرارية صمتنا قائلا :" كنت في احد الأيام مارّا قرب سوق شعبي, كان مزدحما كازدحام النحل في خليته, كان كل ما فيه طازجاً, باستثناء قلوب الناس التي كانت تَشبهُ بيتاً مهجوراً تتراكم فيه ذكريات لم تذق طعم الربيع بعد, حتى مررتُ ببائعِ اكياسٍ محنيّ الظهرِ, متكوراً كطفلٍ في رحم أمّهِ, والغريبُ أنّ كلمات إيقونتهِ قد لونها بلونٍ اخضر:
"حيل أدك وحدي...احجي وحدي
اّخذ المدرسة عرض بطول وحدي
أطفه وحدي بلاية أحد واشتعل
جرس مني وبيه وحدي اشتعل
كلت اكضي الظلّن من أيامي اتفرج
من الشباج عالدنيا وأهلها "
كان قد جسد كلمات النواب بتجاعيد وجهه التي ابتسمت عندما انحنيت لأضع بعض النقود, وقلت له "يا حاج انت خيمة ". فقال حرُّ:"خضر ألا تظنّ أنًّ همومَ الناس قد زادت من عمرنا عمراً, على العموم أنسَ ذلك فانا ممتن لهم أيضا "ثم سالني :" ألا تذكر طفولتك ؟ ما كان أبرز ما فيها ؟ لو كنت تذكرها فما الذي يمثلها ؟"
فأجبت: الخبز بصوته ورائحته والذي دائما ما يذكرني بأمي, كان له إيقاع في أذني,
"كان صوت الخبز، حاملا معنى الأغاني، حينما كنّا صغاراً، ينطوي ما بين حزن
وأمان باكتمال العمر بين جدران الفرح" ثم توالت الكلمات: فما الطفولةُ إلاّ القاطرة الأولى من قطارٍ طويل, فابتسم حرُّ رافعا حاجبيه الكثين: "إذاً أنتَ ما زلت في القطارِ حاملا سلّة خبزٍ تفوحُ من قلبك رائحته". بضحكةٍ عاليةٍ أجبتُ: "وصفك يعجبني يا رجل", وسألته: "إذا يا حرُّ منذُ متى وأنت تتنفس؟!"
حر: "منذ ان كنت في رحم امي ".
بتنا أناّ وحرّ أصدقاءً لا نفترق, نرى بعضنا كثيراً, وكان يومنا المفضل هو الجمعة، وكان ملتقانا الحرية نقطعها سيراً على الأقدام وصولاً إلى شارع المتنبي, كان يجمعنا هذا الشئ, فالمشي دون تحديد المسافة وتسليم حريتك لعقلك, ومنح اقدامك الحق لكي تكون بوصلتك فقط، لأنها هي من تتولى القيادة, وعندما عبرنا جسر الشهداء, بدأتُ أردّدُ:
"أتسمعُ صوتَ النوارس تغني لبغدادَ لحناً حزيناً
وترفرف جناحيها بهواء الخلود".
صرخَ حرًّ باسمي, وقد أصبحَ جُلد وجههِ قرمزي اللون "خضر يا خضر, أنا لا استطيع قراءة أيقونة هذه المرأة, ما الخبر؟ ما الذي حدث؟ هل اصابني شيء ما؟ لا يمكن لأيقونتها أنْ تفرغ هكذا فجأة ؟!"
- أنتَ على ما يرام يا حرُّ إنّها ليست مشكلتك.
- إذاً ما الخلل؟
- لقد انتهتْ حروفُ هذهِ المرأةِ وباتتْ تسيرُ ثلاثة حروف في جسدها, فهذه الحروف لها تعوذيتها الخاصة التي لا تشيخُ ولا تموتُ وهي آخر ثلاثة حروف ستزور كلُّ البشر, ولكن قد تختلف أحيانا كلا حسبَ طريقة كتابته ".
- يا إلهي إذاً أيّ شخصٍ لا أرى حروفا في أيقونته سيموت, ماذا أفعل الآن ؟ هل اخبرها ؟"
- لا يا حرُّ اتركها, أنتَ لن تغير شيئاً, وحتى إنْ فعلتَ ذلك فأنّها لن تصدقك, وتأكد أنّكَ لو قلتَ لها ذلك, ستظن بأنّكَ ستخطفها, أو تقتلها, أو ربّما أنّك انتحاري, فأتركها, القديرُ الذي خلقها, ألطفُ على روحها منا".
وظلَّ حرٌّ يراقبها جالسة، و وجهها كهالةِ الشمس, وبسمتُها كبسمةِ المولود الأول. حتى وقعَ رأسها على الطاولةِ، وبدأت إيقونتها بالتلاشي شيئا فشيئا, فالتفتُّ اليه و رأيت وجَهَ حرًّ, أصابهُ الكبر, وعيونُهُ ترفضُ الأقفال كمحطةِ قطار تنتظر الراكب الأخير أو مثل صبي يأبى إقفال دكانُهِ منتظراً لقمةَ عيشِ اخوانه الصغار. فقلت: "يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى رَّبك راضيةً مرضيةً".
فالتفتَ حرُّ إليّ :" لم أجرب الموتَ بهذا القربِ من قبل, لم أكن أعرفُ معناهُ ولا مفهومهُ ,لم أعرف أنًّ له طعماً مراً كهذا, ورائحةً تخنق وجودك بيديها, ولوناً يجمعُ كلّ الألوان, وأنّ له ألماً يجثو هكذا على عمرِك" .
بتنا أنا و حرُّ نبحث الآن أكثر من ذي قبل عن معنى لم نعرفه بعد, عن مفهومٍ يجمع معاني مشتركة, ألسنا نحنُ البشرُ نبحث جميعا عن مخرج للوصول إلى مفهوم ما، , ولكن هذا المفهوم لا يمكن الوصول إليه إلآ بالقفزِ بكل كياننا إلى لبهِ, وأن فعلنا فلن نخرج منه سالمين أبداً, أو ربما سنَصل الى أطرافهِ فقَط, ولكن لن نتمكن حتى من لمسه لأنهُ محاط بأسلاك قاتلة, لهذا سنختار الابتعاد. لأنّنا لا نريدُ فقدَ أرواحنا, ولأننا بتنا بعقولٍ تتبع نظام خطط ليجعل منّا جسد يهتم لجسد, إلا القلة هؤلاء النادرون والذين أملهم بالعيش ضئيل لأن ظنونهم, وأفكارهم, ومطالبهم ستقتلهم, أو ربّما ستقتلهم يد الجسدين. وأخيرا سيكون المجدُ إلى اللاشئ ,فهو القائد الان....., اللاشئ فقط , اللاشئ ابداً.
سألتُ حرّ: ما الطيبة إذا؟! هل تشابهنا نحنُ البشر؟!
حرّ: الطيبةُ تشبهُ ظهراً مطعوناً عدةَ مرات.
ثم عاد الصمتُ, صديقنا الثالث والذي كان لصوته أثرا في أعماقنا, حتّى يوقظنا ويذكرنا بأنّنا ما زلنا هنا. فنظرتُ لحرًّ, وكأنني أنظر لروحه التي بتُ أعرفها جيدا الآن, فسألني : مَنْ انتَ يا خُضر؟!!
"انا الظلُّ الذي لا ينتبه إليه أحد. أنا الكلماتُ المحشورةٌ في فمِ أخرس. أنا تعويذةُ حبًّ بطٌلَ مفعولُها. أنا الغضبُ الذي ينزعُ الجمالَ. أنا السطرُ الأعوج ُ في ورقةٍ فارغةٍ. أنا الكلماتُ التي ليسَ لها حروف على مقاسِها. أنا الغير مفهوم والمجهولُ والعدم. أنا الفراغُ الذي يحيطكَ بين يديهِ ويفَّرغُ بكَ حزنهُ".



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن