الكاتب الذي طار في الهواء...

حسين محمود التلاوي
hussein.talawy@yahoo.com

2017 / 5 / 15

بدأ كتابة مقاله الأسبوعي. وعندما انتهى من أول جملة، لم يجد كلامًا مكتوبًا على الورقة البيضاء. فحص القلم، ولكنه كان سليمًا؛ فبدأ يكتب ثانيةً، ولكنه قرر في هذه المرة أن يكتب حرفًا واحدًا. وبالفعل، كتبه. ولكن هذا الحرف لم يظهر على الورقة... تمامًا مثل الجملة الأولى.
بدأ يشعر بالقلق... هل يكون مكروه قد أصاب عينيه؟! كلا؛ فهو يرى الموجودات حوله مثلما اعتاد أن يراها من قبل... المنضدة البنية، والعلبة الحمراء التي يضع فيها أقلامه، وكذلك دهان الحائط، والمصابيح، وغير ذلك من مفردات عالمه في تلك الحجرة التي اعتاد الكتابة فيها.
ماذا هناك؟!
تناول قلمًا آخر أسود اللون، وكذلك أخرج من درج مكتبه رزمة أوراق أخرى، وبدأ يكتب... ولكن الأمر لم يختلف؛ فالكتابة لم تظهر على الورق.
لم يجد بدًا من الاتصال بصديق له يعمل طبيبًا، وقص عليه الأمر. طلب من الطبيب أن يمهله قليلًا ليعرض الأمر على اختصاصي في أمراض العيون؛ لأنه مختص بأمراض القلب، ومن الواضح أن هذه الحالة تحتاج إلى طبيب متخصص؛ "لأنها تبدو عويصة"... هكذا قال له صديقه.
مرت اللحظات بطيئة للغاية. وعلى سبيل تمضية الوقت، أمسك ببضعة أوراق وقلمًا، وحاول الكتابة، لكن الأمر لم يختلف... لم يعد يرى الكتابة على الأوراق.
وفجأة، تحولت مشاعره من القلق إلى السخط؛ فانطلق يجرب كل الأقلام على كافة أنواع الورق المتوافرة لديه... بل راح يكتب على المنشفة، لكن النتيجة ظلت ثابتة؛ فأمسك الأورق بكلتا يديه، وراح يمزقها، ويكسِّر الأقلام في عنف حتى دخلت شظية من أحد الأقلام الرصاصية في سبابته اليمنى؛ فاندفعت نافورة صغيرة من الدم لتتناثر فوق مكتبه.
لم يكن الدم غزيرًا، ولكن تدفقه المفاجئ أثار ذعره؛ فأسرع إلى دورة المياه ليغسله ويضع فوقه من المستحضرات ما يكفي لإيقاف النزيف. ولم يكد ينتهي حتى سمع رنين هاتفه المحمول؛ فأسرع يلتقطه لم رأى اسم صديقه الطبيب على الشاشة. لكن الأنباء لم تكن طيبة على الإطلاق؛ فقد قال له صديقه إن أطباء العيون في المستشفى ينصحونه بتغيير نوع الحبر في الأقلام.
منع نفسه من سبِّهم إكرامًا لخاطر صديقه، ثم أغلق الهاتف بعد أن شكر صديقه الذي طلب منه أن يبلغه بأية تطورات.
نظر إلى ساعته؛ فوجد أن موعد إحدى الندوات الأدبية المقرر أن يحضرها قد اقترب بشدة؛ فقرر أن يؤجل كتابة المقال الأسبوعي إلى حين ذهابه إلى الجريدة نفسها، وارتدى ثيابه مسرعًا، وانطلق بسيارته نحو مقر الندوة.
مرت الندوة بهدوء دون أية مشكلات، ووقع في نهايتها في قائمة الشرف السنوية للدار التي أقامتها. وفور انتهاء الندوةـ، توجه إلى الجريدة ليملي مقاله الأسبوعي على سكرتيره. ولما وصل، اتصل به صديقه الطبيب ليسأله على تطورات الأمر؛ فأخبره بأنه لا يوجد أي جديد؛ فلم يفعل شيئًا سوى أن ذهب إلى الندوة، و... ماذا؟!
لقد تذكر أنه وقع في قائمة الشرف، وكان توقيعه واضحًا أمامه؛ فقد قرأه بوضوح، وقرأه المحيطون، وصفقوا له تقديرًا بعدما انتهى من التوقيع؛ بما يعني أن التوقيع كان واضحًا... واضحًا للآخرين... وله!
سُرَّ هو وصديقه لهذا الاكتشاف، وقال له صديقه الطبيب إن الأمر قد لا يكون سوى نوبة من عدم التركيز نتيجة الإرهاق، ونصحه بأن يستريح ولو ليوم واحد.
شكر صديقه، وأخبره أنه سوف يأخذ إجازة الأسبوع القادم بعد الانتهاء من كتابة مقاله الأسبوعي.
انتهت المكالمة، وصعد إلى مكتبه في الجريدة، وهناك أحضر رزمة من الورق، والتقط قلمًا أسود، وبدأ يكتب بكل ثقة، ولكن الحروف لم تظهر مجددًا على الورق.
لم يرهق نفسه بالتكرار هذه المرة، واستدعى سكرتيره، وأخبره أنه سوف يمليه المقال الأسبوعي. اندهش السكرتير من هذا الطلب، ولكنه المبرر كان بأنه يعاني من مشكلة في عينيه، ولا يجيد الكتابة على الحاسب الآلي كما يعرف الجميع. جلس السكرتير على المقعد المواجه لمكتبه، وبدأ يكتب ما يمليه عليه رئيسه. ولكن السكرتير قاطعه بعد أول جملة قائلًا له إن القلم تالف؛ لأن الكلام لا يظهر على الورق!
ومرة ثانية، لم يرهق الرجل نفسه بالمحاولة من جديد... لقد أدرك أن المشكلة تتعلق بالمقال لا بالكتابة في ذاتها. ولكن... هل المقال فقط؟!
صرف سكرتيره، وأسرع إلى أرشيفه، وكان ما توقع... لم يجد كلمة واحدة مكتوبة على الأوراق البيضاء... ولا كلمة. ودون عبارة سخط واحدة، عاد يجلس خلف مكتبه، وقد شبك يديه على مسند المقعد مريحًا رأسه عليهما، وأخذ يتطلع إلى السقف. ماذا يجري؟!
فكر في الاتصال مرة أخرى بصديقه الطبيب، ولكنه تراجع مفكرًا في أن الأمر يحتاج إلى تخصص آخر؛ فقرر أن يتصل بطبيب نفسي سبق له أن تعامل معه. استراح لهذا الاختيار؛ فأخذ يرتب أفكاره قبل الاتصال. وعندما وصل إلى تسلسل منطقي، مد يده ليمسك الهاتف. ولكن يده تصلبت في الهواء...
لم يرَ يده!
فرد يديه أمامه، لكنه لم يرهما؛ فأصابه الهلع، وانطلق خارجًا من مكتبه، ووقف أمام سكرتيره، وسأله عما إذا كان يراه. لكن السكرتير لم يعره أي انتباه، بل لم ينظر إليه من الأصل.
أصابه هذا بالهلع أكثر فأكثر فانقض على سكرتيره، وحاول أن يجذبه من ياقة قميصه، ولكنه عجز... جذبه من ياقة القميص لكن الياقة لم تتحرك قيد أنملة؛ فحاول أن يمسكه من كم سترته، لكنه فشل في تحريك الكم كذلك. هنا، اندفع محاولًا فتح باب حجرة السكرتير، لكن مقبض الباب لم يتحرك.
جن جنونه، ووقف في منتصف الحجرة يصرخ... ويصرخ... ويصرخ...
لكن سكرتيره لم يعره أي اهتمام...
ظل للحظات مذهولًا عاجزًا عن الاستيعاب... هل صار هواءً؟! خواءً؟!
وفجأة، اندفع نحو النافذة المفتوحة، وألقى بنفسه منها من على ارتفاع 10 طوابق.
لكنه لم يسقط لأسفل... بل طار مع تيار الهواء.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن