الماركسيون وعبدالناصر

راجي مهدي
ragymahdy@yahoo.com

2017 / 5 / 15

تحية الي شهداء الماركسية المصرية الذين استشهدوا بشرف تحت ايدي الجلاد ولم يساوموا او يتنازلوا، الي:
شهدي عطية الشافعي
وفريد حداد
وشعبان حافظ
ومصطفي شوقي
ومحمد عثمان
وعلي متولي الديب
ومحمد رشدي خليل
وسعد تركي، وآخرين
ذكراكم ستظل وصمة عار في جبين القاتل وعلامة مضيئة في كفاح الاشتراكيين المصريين
تتراوح مواقع الماركسيين من عبدالناصر بين موقفين، أولهما يرفض تقييم تجربته من واقع ما تعرض له الماركسيين تحت أيديه من تعذيب نازي لا مثيل له في تاريخهم كله، باعتبار أن هذا التقييم ان حدث قد يقع في فخ الذاتية، وأنه يجب تقييم التجربة من خلال نتائجها علي الصعيدين الاجتماعي والسياسي باعتبارها كان فترة فاصلة بين عصرين، وباعتبار ان مصر قبل وبعد التجربة الناصرية تختلف تماما عن مصر الفترة من 1952 الي 1970. هذا موقف له وجاهته. الموقف الآخر قد يبدو وجيها هو الآخر لأنه يستند بالأساس علي ما تعرض له الماركسيين من جرائم ضد الانسانية ادت الي سقوط العشرات شهداء تحت آلة تعذيب جهنمية لا تكل ولا تعرف الرحمة. هذا الموقف الذي يعتبر أن السلطة التي تعادي الماركسيين هي سلطة جديرة بالتحقير خاصة اذا كانت ترفع شعارات الاشتراكية والتحرر، ويصل هذا الموقف الي ذروته بوصم عبدالناصر بالفاشية.
في منتصف 1960 خلال إحدى حفلات التعذيب، فقد الماركسيين المصريين أحد نجومهم البارزين، اذ سقط شهدي عطية الشافعي شهيدا بعد سحله عاريا داخل سلخانة أوردي أبو زعبل بينما كان عبدالناصر في يوغوسلافيا. واذ تسرب الخبر وطار الي بلجراد، أعلن اليوغوسلاف الحداد علي روح الشهيد فأسقط في أيدي عبدالناصر وأوقف التعذيب الجسدي في المعتقلات. هذا أمر يعرفه الجميع. شهدي عطية الشافعي كان آخر شهيد فقده الماركسيون تحت التعذيب مباشرة وهو أشهر ضحايا اليسار المصري في الهولوكوست الناصري. لكنه لم يكن الأخير اذ سقط قبل وبعده العشرات كما قلت، منهم من مات اثناء التعذيب ومن مات بعده بفترة متأثرا به بالإضافة لمن سقطوا بسبب سوء التغذية وانعدام الرعاية الصحية. وصحيح ان وفاة شهدي وضعت حدا للإيذاء البدني او علي الاقل أوقفته بشكل كبير، لكن الضغوط النفسية اصبحت اكثر عنفا. كانت المحنة التي بدأت في يناير 1959 هي الأعنف في تاريخ الماركسية المصرية، وقد تركت أثرها علي تطور اليسار الماركسي المصري حتي الآن.
دخل الماركسيون الهولوكوست أو أُدخلوا الهولوكوست في وضع لا يسمح لهم بالنزال لا نظريا ولا تنظيميا. وقع انقلاب يوليو في ظل تفتت تام للماركسيين المصريين. ووحدها حدتو اشتركت في انقلاب الضباط ودعمته بأفرادها وجهازها الفني. بينما وقفت بقية التنظيمات معادية علي طول الخط لحركة الجيش بوصفها انقلابا أمريكيا. لكن في غضون عامين تحول موقف حدتو الي الحد الذي جعلها تدخل في تحالف مع الاخوان المسلمين والوفد ابان ازمة مارس. كانت تلك خطيئة تضاف الي سجل خطايا حدتو الطويل. هذا السجل الذي بدأ بالاعتراف بالكيان. منذ ازمة مارس حتي صفقة السلاح التشيكي، سيتحد الماركسيين علي مستوي الخطاب المعادي للسلطة وان كانت حدة هذا الخطاب مختلفة من مجموعة الي اخري. لكن الثابت تاريخيا أن الماركسيين فشلوا في تحديد موقف علمي صحيح من السلطة الجديدة. فشلوا في تحديد المضمون الوطني لسلطة الضباط.
قامت حركة يوليو، الانقلاب الذي صار ثورة، علي خلفية مد اجتماعي ووطني عنيف. هذا المد الذي كان عامل الحسم في تكوين الضباط الأحرار. هي مرحلة تاريخية كثيفة، منذ حل سعد زغلول أول تنظيم ماركسي مصري وضرب قواعده بعنف، الي حريق القاهرة. مرت خلالها مصر بعدة ظواهر لخصت أزمتها. خيانة الرأسمالية للكفاح الوطني المصري، والتهادن مع الاحتلال. فشلها في تخليص مصر من الطابع الزراعي للاقتصاد، وانسحاقها أمام ملاك الأراضي والقصر، وبالتالي رزحت مصر في وضع متخلف اقتصاديا واجتماعيا تحت نير الاحتلال الإنجليزي. من جهة أخري لم تستطع الجماهير المنضوية تحت لواء القيادة البرجوازية للوفد، تلك القيادة التي كانت تمثل جناحا من كبار ومتوسطي ملاك الأراضي، الضغط وتجذير الصراع، فقد كانت زعامة الوفد كاملة وعملت بشكل مستمر من ظهوره حتي انحلاله بعد الانقلاب علي اجهاض كل مبادرة ثورية لجماهير مصر الشعبية. وكانت حادثة فبراير 1942 المشينة تكليل لمسيرة الوفد الملطخة بالعار.
لكن الظروف كلها كانت تدفع نحو انفجار شعبي، حتي ما بدا انه انقطاع في مسيرة النضال المصري بعد انتفاضة 1935، لم يكن سوي فرصة للاختمار، وما أن انتهت الحرب العالمية الثانية حتي كانت أرض مصر تنزف تنظيمات ماركسية، وينمو في الوفد جناحا يساريا يتجه باضطراد نحو العمل المشترك مع الماركسيين. هذا العمل الذي تكلل بانتفاضة 1946 التي اجهضت محادثات صدقي-بيفن كاشفة عن الامكانيات الثورية للجماهير المصرية من جديد. لكن رغم كل الحراك الذي وسم الأربعينيات، لم يكن يسار الوفد قادرا علي الفكاك من الإرث البرجوازي للحزب. ولم يكن اليسار الماركسي تحت قيادة عناصر يهودية قادرا علي تجاوز أمراضه التي لازمته في الموجة الثانية من التأسيس. الانقسامية، التفكك التنظيمي، الضعف النظري، وما ان صدر قرار التقسيم، اسفرت سلالة كورييل عن وجهها كقنبلة انفجرت في وجه مستقبل الماركسية المصرية كلها. كانت الموافقة علي قرار التقسيم ضربة للأغلبية الوطنية داخل حدتو، ضربة عزلتها عن الشارع. ودفعت عملية التشرذم للتسارع بعد شهور قليلة من الوحدة. باختصار لم يكن في مصر تنظيم يمتلك الإمكانية للتغيير الثوري، لكن أيضا، اليسار الماركسي المصري كان الوحيد الذي يقدم رؤية شمولية لمأزق مصر وحله.
كان تكوين الضباط الأحرار نتيجة حتمية لفشل الماركسيين في القيام بدورهم، لفشلهم كطليعة في تنظيم الجماهير الشعبية لسحق النظام كله، القصر وملاك الأراضي والرأسمالية الصناعية والمصرفية المبتسرة الخائنة بحكم النشأة. لذا فلا أرجح صحة الاعتقاد القائل بأن حركة الجيش كانت مؤامرة لإجهاض التحرك الشعبي المنتظر. هذا التحرك الذي لو حدث لأتى علي شاكلة ثورة 1919 التي ذبحها الوفد في ذروتها. لم يكن اليسار قادرا، بل كان غارقا في مأساته الداخلية. والتشرذم أرهق الكل، و كورييل الذي تم ترحيله مع بني جلدته من الأجانب المتمصرين كانت اصابعه لازالت تلعب. حتي التنظيمات الناشئة خارج أيدي كورييل لم يكن وزنها الفعلي قادرا علي التأثير. ربما لو تمت وحدة جديدة علي اشلاء حدتو القديمة وبقيادة مصرية نظيفة، لكان الأمر اختلف لكن هذا لم يكن واردا في الأفق. بالتالي أنا أيضا أرفض رد بدء التحرك في الجيش الي خيانة المدنيين كما يحب البعض أن يقول. لأن الجماهير المدنية تحت قيادة الوفد لم يكن واردا أن تستطيع كسر النظام الذي يحيا الوفد في ظله. كان لدي العسكريين الصغار، أولاد البرجوازية الصغيرة، أسباب اضافية للانتفاض. وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة لهم هو ما تعرضوا اليه في حرب فلسطين من غدر علي أيدي السلالة الملكية والبرجوازية المصرية الكبيرة بكافة مشتقاتها وأوجه نشاطها.
كان مجلس القيادة غير متجانس أيديولوجيا، لكن عدم التجانس هذا ظهرت آخر ملامحه في أزمة مارس 1954، بعدها ظهر تطور الثورة مطابقا لخطاب عبدالناصر. فوجهات نظره التي عبر عنها في مجموعة خطاباته حكمت ممارسات الثورة الي حد كبير. تلك الخطابات التي جمعتها كريمته علي موقع الكتروني متاح للجميع ويتيح فرصة تتبع التطور النظري الذي مر به الزعيم عبر مراحل الثورة المختلفة. فمنذ البداية لم يكن لدي ناصر أيديولوجية محددة، فقط توجه وطني ساخط علي الإحتلال الانجليزي وعلي النظام الحزبي الفاسد العليل. لكنه لم يكن يمتلك أدني فكرة عما ينبغي فعله. كانت الوطنية من وجهة نظره في السنوات الأولي من الثورة مفهوما مجردا فوق الطبقات، وأن الشر كله في تلك الشريحة من كبار ملاك الأراضي التي كانت ظهير القصر ومطية الاستعمار. وكان صدور قانون الاصلاح الزراعي الأول يستهدف كسر نفوذ تلك الارستقراطية الزراعية. لكن أثر القانون علي الأرض كان محدودا. حيث تم توزيع 645.642 فدانا من مجموع 5.946.000 فدانا من الأراضي المزروعة علي 226.000 عائلة، أي 10 بالمئة من الأراضي علي 2.000.000 فلاح. أضف علي ذلك أن النظام قام بتعويض الملاك عما تم نزعه من أراضي. وهو السلوك الذي سوف يلازم سلطة يوليو في كل اجراء مشابه. فشل القانون في حل مسألة الأرض بالنسبة لفلاحي مصر الفقراء الذين لم يكونوا يعرفوا بعد ماهية الملكية الفردية للأرض. كان سبب فشل القانون في تحقيق أثر ملموس علي الأرض هو أنه فُرض من فوق. قرار إداري استطاع المُلاك التحايل عليه خاصة في ظل غياب التنظيم في الريف ما جعل الفلاحين يخوضون المعارك عُراة وحيدين في مواجهة السطوة التاريخية العتيقة لكبار المُلاك. وفوق ذلك جاء القرار في اطار التصالح بين الطبقات والتعاون الخير بين جميع أفراد المجتمع.
باضطراد، كان الماركسيون المصريون يتحولون من تشكيل راديكالي الي يسار سلطة، خاصة في الفترة من حرب السويس حتي الوحدة المصرية السورية. وبدلا من تقديم نقد بنيوي جذري للممارسات الديكتاتورية للسلطة، تلك الممارسات التي كانت تدفع بعشرات منهم في غياهب السجون من حين الي حين، بدأوا يفترضون أن هناك جبهة بينهم وبين النظام. تلك الجبهة المفترضة التي بدأت بالعمل في ايام العدوان الثلاثي حين نظم الماركسيون المقاومة في بورسعيد بالتعاون مع الجيش. لم تكن تلك جبهة حقيقية الا في خيال الماركسيين اما النظام فقد كان واضحا جدا أنه يرفع شعار : وحدي في الميدان. وكتب هيكل يقول أن الخطوط بين الماركسية والوطنية قد تداخلت في بورسعيد وان الماركسيون شاركوا في الجهد الوطني لكن بدافع الحصول علي الاعتراف.
أدي هذا التصور الخاطئ الي أنه في الفترة المذكورة عمل الماركسيون بلا أي احتياطات أمنية، كانت تلك فترة من فترات التماهي. تلاشت قواعد التنظيم واصبحوا اقرب الي تيار يساند النظام في معارك جماهيرية. وساهم في مضاعفة المأساة، أن الوحدة الاولي قد تمت وتكون الحزب الشيوعي المتحد. وجلبت حدتو امراضها الي الحزب الجديد. كانت الحركة الديمقراطية مشهورة بأن وعاء أمنها مثقوب. كان نشاطها مكشوفا للأمن، عناصرها بلا أي غطاء وبالتالي كان تاريخ حدتو عبارة عن فترة نشاط عارم تعقبها حملة أمنية تعصف بكل الكوادر فتتلاشي حدتو ثم تعود. وهذا ما حدث بالضبط في الوحدة الأولي والثانية، حتي تنظيم كالراية كان مشهورا بالحرص الذي يصل الي حد الحلقية التنظيمية انكشف كل عناصره بما فيهم سكرتيره العام. وبالتالي فور تشكل حزب 8 يناير عام 1958 كانت لدي الأمن قوائم بكل من يقوم بنشاط شيوعي في مصر لذا جاءت ضربة يناير 1959 مزلزلة.
لم يستطع الماركسيين تقديم نقد مبدئي للسلطة فيما يخص التحول الاجتماعي والديمقراطية. كان التصور انه مادام النظام وطنيا فكل شئ ثانوي. ورغم تلك الايماءات الدائمة والكلام عن سلطوية نظام عبدالناصر الا أن الموقف كان يقتضي صلابة لم تتوفر علي مستوي كافة القضايا. لم يكن ما بناه عبدالناصر اشتراكية، بل رأسمالية دولة كان الرابح منها هو الفئات البرجوازية الصغيرة والمتوسطة لكن الرابح الاكبر كان البرجوازية الكبيرة التي رغم ضربها في 1961 و 1963 لكنها استطاعت التحوصل في جهاز الدولة لتعود وتقود الثورة المضادة في 1971 حين طوح السادات بعنق المشروع الناصري. لم يستطع الماركسيين مواجهة الطابع البوليسي لنظام الحكم. لم يستطيعوا كشف التناقض الذي احتوي عليه خطاب عبدالناصر منذ مطلع الستينيات حين تكلم عن الديمقراطية الاجتماعية. ظن عبدالناصر ان تلك الديمقراطية يمكن تحقيقها بتواجد اثنين من العمال في مجالس ادارات الشركات المؤممة. لكنه لم يكن يدري أن الديمقراطية تعني قدرة العمال علي الرقابة علي المؤسسات الانتاجية وهو مالم يتح لهم لا بالتشريع ولا بواقع أن الكثير من المؤسسات المؤممة كانت ادارتها تبقي لأصحابها السابقين. كانت الديمقراطية تقتضي اقامة جبهة وطنية حقيقية في مواجهة الاستعمار، لكن عبدالناصر ظل دوما مصمما علي الشرط التالي: أي تحالف مع الماركسيين يجب أن يتم من خلال تنظيم الدولة وبعد أن يحلوا تنظيمهم. من جهة اخري كانت الطبيعة البرجماتية لعبدالناصر تمنعه من التقيد بتحالف. الرجل حتي عام 1961 كان لا يزال يأمل في أن الرأسمالية المصرية سوف تلعب الدور الكلاسيكي لبرجوازيات الغرب. وأنها سوف تشارك في تنمية تخططها الدولة وبالتالي فان التحالف مع الماركسيين كان سيعني بالضرورة اثارة ذعر برجوازيتنا وهو اخر ما كان يفكر فيه عبدالناصر.
التوفيق بين الطبقات بدل الصراع بين الطبقات، الرأسمالية الغير مستغلة، الحياد الإيجابي او عدم الانحياز. مفاهيم عديمة المعني في واقع الأمر. لكن الماركسيين المصريين بدافع الحفاظ علي الجبهة الوهمية كانوا يصدرون بيانات تليق بهيئة الاستعلامات. كان هذا سلوكهم في كل قضية كبيرة. وما ان بدأت قضية الوحدة مع سوريا حتي وضعت الأمور في نصابها، وجاد كل بما عنده، الحزب الشيوعي المصري اصدر بيانا لولا التوقيع لظننت أنه صادر عن حزب البعث او عن الاتحاد القومي، هذا التنظيم الخزعبلي الذي اسسه عبدالناصر من اجل الوحدة الوطنية. كان البيان نكتة لأنه بدت فيه رغبة عارمة لتقديم اساس نظري يخدم القضية حتي لو باختلاق هذا الاساس من العدم. تقديم تبرير نظري للخطوة التي رأي الشيوعيون السوريون انها لا يجب ان تتم بشكل اندماجي لان الاساس الموضوعي للوحدة ليس موجودا. لكن الجماعة لدينا قرروا قبل الوحدة الدعوة الي " خلق وحدة فيدرالية بين البلدان العربية التي نجحت في تحرير نفسها من السيطرة الاستعمارية". لكن ما ان تمت الوحدة حتي صدر بيانا عن المكتب السياسي كتبه محمود العالم وعبدالعظيم انيس يناقشان فيه مسألة وجود امة عربية من عدمه من خلال المحددات التي حددها ستالين في كتابه الهام جدا "عن الماركسية والمسألة القومية" ( اللغة المشتركة ووحدة الارض والتكوين الثقافي والنفسي والسوق المشتركة) ومن الواضح انه بخلاف غياب السوق فإن كلاما كثيرا يمكن قوله عن اللغة مثلا اذا تحدثنا فيما يخص النوبيين المصريين والجزائريين الذين اختلطت عربيتهم بالفرنسية. كما ان التكوين الثقافي والنفسي للشعب المصري لا يمكن ان يتشابه مع نظيره السعودي علي سبيل المثال. قفز البيان علي نقطة السوق المشتركة معلنا رغبة التنظيم كله في عدم التخلف عن الموجة الجماهيرية التي قادها عبدالناصر. لو كان أحدهم قد نظر الي الامام قليلا لكان رأي أن الجزر قادم.
ثم يتواصل عُهر الحزب حين يصدر بيانا آخر حول قرار حل الأحزاب في سوريا يقول فيه " ... ولكن هل تعني معارضتنا في حل الأحزاب أن مستقبل الديمقراطية مظلم في الجمهورية العربية المتحدة؟ كلا. لأنه لا يجب ان ننظر الي مستقبل التطور الديمقراطي من زاوية وجود الأحزاب وحدها، وانما يجب أن ننظر الي المسألة من زاوية 1- أن القوي الشعبية والوطنية ستلتقي في الدولة الواحدة وتتجمع وتناضل بكيفية فعالة من أجل توسيع الحريات الديمقراطية وتدعيمها. 2- أن السياسة الوطنية التحررية السائدة في الجمهورية العربية المتحدة موجهة لإضعاف النفوذ الاستعماري وتصفيته. ... ويجب علينا في الوقت نفسه ان نحذر من أن ننحرف بقضية الوحدة وتدعيمها الي وضع مسألة الأحزاب في مركز الأحداث؛ فان المهمة الرئيسية هي الدفاع عن الوحدة الوليدة وحمايتها ... " ليست الديمقراطية هي مجرد وجود أحزاب وهذا صحيح، لكن الأمر هو مصادرة العمل السياسي، هو توهم امكانية احلال العصا الامنية محل التفاعل الجدلي بين مكونات الجبهة الوطنية المفترضة. ان الكل يعلم أن حل الحزب الشيوعي المصري في 1965 لم يحرر العمل السياسي في مصر بل انه جعل الماركسيين الذي انضموا الي تنظيمات السلطة مجرد عرائس مسرح لا حول لها ولا قوة، وان عبدالناصر لم تكن لديه النية لأي نوع من العمل الجبهوي مع الماركسيين، ولم يكن لديه النية بالسماح لأي تحرك منظم وسط الجماهير كأنه يقول : تلك الجماهير لها قيادة واحدة هي أنا وفقط. وحين مات أتم السادات انقلابه بلا نقطة دم واحدة، دون ان يجد من يرفع في وجهه اصبعا حتي لأن عبدالناصر ظل وفيا لمبدأ واحد في تعامله مع الماركسيين: لا حديث قبل حل التنظيم.
ردا علي البيان السابق اصدر عدد من كوادر الحزب مذكرة اتهموا فيها القيادة بالانحراف اليميني فكان رد القيادة ان " القضية الكبرى هي ان تنجح الوحدة السورية المصرية وتنشأ قوة سلام في منطقة الشرق الأوسط .. افضحوا جميع المناورات التي تريد اظهار الشيوعيين بمظهر معادي للوحدة .. يجب منع عزل الحزب عن الجماهير الشعبية" كل هذا وكان تحالف الضباط مع الرأسمالية المصرية قائما ولا يوجد ما يعكر صفوه، هكذا تم التضحية بالحزب الشيوعي السوري لكي يقوم الاتحاد القومي وهكذا تنازل الماركسيون عن التحليل العلمي لأجل الا ينعزل الحزب عن الجماهير الشعبية، والحقيقة ان كل الاحداث التالية اثبتت فشل جميع الرهانات.
وكانت أحداث العراق هي التي سكبت براميل الدم، القوميين يضغطون لأجل الوحدة الثلاثية، ويرد الشيوعيين بمجزرة في الموصل، فيقرر عبدالناصر ان يرد علي ذبح رجاله هناك بالضرب هنا. آلاف المعتقلين في يناير ومارس 1959 يقعون تحت طائلة عذاب نازي الطابع في نفس الوقت الذي يوجه فيه هيكل خطابا لعبدالكريم قاسم علي صفحات الأهرام قائلا له " والآن نحب أن نقول للواء عبدالكريم قاسم ان شعب العراق كله معتقل، سجين الإرهاب والدم وحبال المشانق وحبال السحل " وكأن هيكل يصف الوضع في اوردي أبو زعبل او سجن الواحات او السجن الحربي. هكذا رد النظام المصري عنيفا رغم ان الماركسيين المصريين كانوا اكثر الفة بما لا يقارن بماركسيي العراق وسوريا. جاء رد عبدالناصر جريئا علي تعطيل ماركسيي العراق للوحدة ووقف علي المنابر يعربد، يهاجم الشيوعية والشيوعيين ويصفهم بالملاحدة العملاء، هم ذاتهم الذين تعاون معهم ابان الثورة وهم ذاتهم الذين سيضمهم الي الاتحاد الاشتراكي والتنظيم الطليعي بعد أن يحلوا حزبهم في 1965. وراح هيكل يتكلم بصراحة كعادته ويكتب قائلا " ولقد اتجه افراد من الحزب الشيوعي في بلادنا اتجاها يختلف مع ما نؤمن أنه مصلحة وطننا".
في سبيل خلق تيار داعم للوحدة في مصر، بدأ ربط القومية العربية بالتاريخ الاسلامي، جري التركيز علي فترة التاريخ الاسلامي لمصر مع اهمال شبه تام للتاريخ القبطي. جري الهجوم علي أعداء هذا الشكل من الوحدة الاندماجية باعتبارهم ملاحدة أعداء للدين والوطن. وقف رئيس الدولة ووزير دفاعه يخطبون في الناس ناعتين الماركسيين اعداء الوحدة بالملحدين المعادين لقيمنا وتقاليدنا. وعزف كمال الدين حسين وزير التعليم آنذاك علي نفس النغمة.
الغريب أن الوحدة تمت علي الشكل الذي اراده عبدالناصر لكن وما ان انهارت حتي اصبح الخطاب السائد هو انه تمت جرجرتنا الي فخ الوحدة، وان الظروف الموضوعية لم تكن تسمح، وكتب الهيكل يقول "ان فكرة الوحدة ما كان يجب لها ان تكون عملا بوليسيا"، بينما لم ينبث ببنت شفة حينما أذاب عبدالحميد السراج جثة فرج الله الحلو في الأسيد.
كان سقوط الوحدة طعنة دامية لمثالية عبدالناصر ومحدودية تصوراته، انتقل الآن خطوة جدية. من اتحاد قومي يضم الوطن بأسره، الي الاعتراف بالصراع الطبقي مع امكانية حله سلميا، ثم الاعتراف بالاشتراكية العلمية في الميثاق. كانت تلك رحلة عبدالناصر من 1952 الي 1961. تسع سنوات كاملة تأخرتها مصر حتي أتم الرجل تعليمه أو أنجز تعليما يؤهله ظل يلعب لعبته البرجماتية. التأرجح بين السوفييت والأمريكان. ظل المعسكران يساهمان بنفس النسبة في الخطة القومية حتي أوائل الستينيات. التردد حيال الرأسمال الكبير الذي خزله في النهاية فاضطر الي موجة التأميمات. حتي مع التأميمات كانت الدولة تدفع تعويضات لمن وقعوا تحت طائلة التأميم.
من جهتهم ارتكب الماركسيون خطايا لا تغتفر في تلك المعركة الأليمة. وظهر العجز والتشرذم. فلم يستطيعوا تحديد الهوية الطبقية للحكم. وراحوا يتطرفون يمينا ويسارا في تحليل طبيعة نظام كان في حالة حركة وتطور دائمين مع كل ما يتسم به قادته البرجوازيين الصغار من تردد وميوعة. فشلوا في بناء موقف متسق يربط بين القضايا الاساسية. الديمقراطية والتحول الاجتماعي والقومية العربية. كان سلوكهم هو الرغبة في عدم التصادم مع حليف كان يراهم أعداءا، ولا يستطيع النظر اليهم الا وراء القضبان. وفشلوا في بناء تنظيم حقيقي قبل وحدتهم او بعدها، فكان ان سقط الحزب كله في قبضة الامن. وتحت ضغط المحنة انفجرت التناقضات التي تم التغاضي عنها ابان التوحيد. الحزب الذي تفاوض انور السادات علي حله مع محمود امين العالم في اواخر 1958، هشمته القبضة الأمنية، ثم بصقته الدولة في شبه صفقة مشبوهة. حين خرجوا من المعتقل وقد اتخذت القيادة قرارا غير مسبوقا في تاريخ التنظيم الماركسي كله بحل الحزب باعتبار ان عبدالناصر بما حققه قد تجاوز برنامج الحزب نفسه. هكذا حلوا الحزب ودخلوا في تنظيم الدولة واهمين أن لهم دور حقا، كانت أغلبية من التحقوا بالاتحاد الاشتراكي الكرتوني الذي اقامته الدولة هي القيادات، وقد اتضح لهم أنهم مجرد دُمى لا دور لها اطلاقا. ولعلهم قد شعروا بالألم اكثر بعد الهزيمة في 1967 حين سقطت مصر صريعة مشلولة في مواجهة العدوان الاستعماري الصهيوني. سقطت مصر بفعل تناقضات النظام التي تقيحت وتعفنت وكان لزاما لها أن تري الشمس كي تبرأ.
لعل العمي وحده هو ما منع الماركسيين في مصر من رؤية كمية التناقضات الرهيبة في قلب نظام، يعتبر رأسمالية الدولة اشتراكية، ويتحدث عن الديمقراطية بمفهوم اجتماعي بينما حليفه الطبيعي تسحقه آلته الأمنية في المعتقلات. كانت مصر بلدا يسعي الي التحرر لكنها تحيا في جو من الارهاب الكامل. كأنه مكتوبا عليها أن تموت من الجوع أو تموت من الخوف ان لم يكن بكليهما.
العمي وحده هو ما منع الماركسيين من رؤية بيروقراطية الدولة والبرجوازية المؤممة تمص دم القطاع العام وتنخر عظام التجربة. والجيش يتحول الي عزبة يديرها المشير عامر ورجاله كجزء من املاكهم الخاصة. وملاك الاراضي يتحايلون علي قوانين الاصلاح في الريف.
كانت التجربة فريدة، طرد الانجليز، الاستعصاء علي الأمريكيين، توسيع قاعدة التعليم حتي مع كون المستفيدين الاكبر منها هم البرجوازية الصغيرة في المدن. انشاء قاعدة صناعية ضخمة، تجريد البرجوازيين من كثير من نفوذهم مؤقتا، محاولة الهجوم المنظم علي كبار ملاك الاراضي في الريف، دعم حركات التحرر. كل ذلك جعل مكانة عبدالناصر في قلوب المصريين لا تهتز. لكن القضية ليست حديث مشاعر، اننا نتكلم عن صراع سياسي بين طرفين ارتكبا خطايا انعكس اثرها بعد وفاة عبدالناصر مباشرة.
كان علي الماركسيين أن يبنوا تنظيما يقدم نفسه كبديل للنظام بدلا من ان يتذيل النظام. لأنه جاءت اللحظة التي احتاجت مصر فيها من يبصق دما في وجه السادات فلم تجد. كان علي الماركسيين ان يقدموا نقدا متسقا للنظام، ان كل تحالف هو ثنائية من الوحدة والصراع. كان عليهم أن يمنعوا اختلاط خطوطهم ومناطقهم بالترهات القومية، لأن ما ظنوه صيرورة حتمية الي الامام، الي الاشتراكية، توقف وارتد كابوسا تحياه مصر يوميا. فشلوا في التعاطي مع ما وصفه شهدي عطية الشافعي حين قال "انهم يحرقون شعارات الديمقراطية الشعبية تحت اقدامنا"، كان النظام يقدم نفسه باعتباره اشتراكيا ويكسب ارضا كل يوم، وبدلا من تحليل الموقف وتحديد الشعارات، راحوا يتذيلون السلطة في كل قضية.
جاءت الهزيمة لتقول ما كان علي الماركسيين قوله قبل ذلك بسنوات. البرجوازية وجدت مواقعا، حتي في داخل قيادة القوات المسلحة، ملاك الاراضي لازالوا نافذين في الريف والنظام لا شيء سوى عبدالناصر. سلطة برجوازية صغيرة لم تبرح عادتها في التردد، فشلت في الحسم علي كافة الأصعدة. سلطة وطنية وضعت حجر الأساس في مسيرة الفكاك من التبعية للمستعمر، لكنها لم تستطع تدعيم مواقعها ولا الثبات في المعركة. داخليا، استطاع الأعداء المفترضين النفاذ داخل اجهزة الدولة وتنظيمها السياسي، وبدلا من أن يتم توجيه الضربة الأمنية الرئيسية ضد قطاعات البرجوازية التي مستها اجراءات التأميم، وملاك الأراضي الذين اغضبهم الإصلاح، بدلا من سحق هؤلاء بلا شفقة ولا رحمة، تم سحق الحليف المفترض في حرب دموية استنزفت مصر لسنوات طويلة وألقت بظلالها علي المستقبل. بدلا من الحسم مع الغرب، ظل عبدالناصر وفيا لبرجماتيته، ظل محتفظا بالروابط مع الأمريكان وانغمس مع الألمان الغربيين في عمليات تبادل خبرات أمنية، ولعله ليس عجيبا أن اوشفتز قد تم استنساخه في اوردي ابو زعبل.
جاءت هزيمة التجربة تأكيدا لحكم تاريخي لا مناص منه، برجوازية المستعمرات غير قادرة علي لعب أي دور تاريخي في نهضة بلادها. مضي عهد البرجوازية قائدة النهضة القومية، هذا هو عصر تحطيم البرجوازية علي أسنة رماح الطبقات المُستغَلة. وبالتالي فان نقد هذه التجربة لا يمكن أن يتأتى من يمينها، ان نقدها جائز فقط من موقع يسار راديكالي يري ان النقص كان في عدم تطوير يوليو الي حرب جذرية ضد كل مواقع الرأسمال في مصر، و أن الحرب مورست بما يسمح للرأسمالية بالالتفاف واعادة التجميع في مواقع أكثر حصانة داخل جهاز الدولة والقوات المسلحة. ان افلاس يوليو حل بسبب سمتها الاصلاحية، ميوعتها، ترددها حيال المعارك الكبيرة.
ستظل يحكم علاقتنا بعبدالناصر تحديدا جانبين، كونه صاحب فضل لا يجحد، دور لا ينازع، كونه اول مصري يحكم مصر بعد قرون من الاحتلال الاجنبي ذاقت فيه بلادنا ويلات الضياع والاستعباد والذل، كونه خاض خلال 18 عاما من حكمه معركة عظيمة، لكننا نري انه خاضها بالطريقة الخاطئة، وانه اهدر علينا فرصة تاريخية لجعل انقلاب يوليو الثوري مرحلة فاصلة لا ارتداد علي دلالاتها الوطنية والاجتماعية. كونه باختياراته قد سمح لتناقضات رئيسية ان تتطور في قلب التجربة وكان انقلاب السادات تتويجا طبيعيا لما شاب المرحلة من عيوب قاتلة. نحن لا يمكننا ان نكره عبدالناصر، الجد، مؤسس جمهوريتنا، لكننا في ميزان التقييم السياسي لنا كامل الحق في تعرية المرض العضال الذي فت في عضد آخر تجارب التحرر الوطني في مصر.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن