هيغل والرياضيات - الجزء الأول

حاتم بشر
hatem.beshr81@gmail.com

2017 / 4 / 13

الكاتبـ/ـة: إرنست كولمان&سونيا يانوفسكايا

ترجمة: حـــــاتـــــم بشــــــــــر.

المصدر: مخطوطات ماركس الرياضية، منشورات "نيو بارك 1983". نُشِر لأول مرة في [تحت راية الماركسية 1931]. Unter dem Banner des Marxismus, 1931.

إنّ الإهتمام الكبير الذي يُبديه العلم في الإتحاد السوفياتي حيال دراسة هيغل، ليجد أفضل تفسير له ضِمْن وصيِّة لينين الفلسفية:
”سوف يَعْثُرُ علماء الطبيعة المحدثين_إذا ما اهتدوا إلى طريق البحث الصحيح، وإذا ما عرفنا كيف نساعدهم_سوف يعثرون طيِّ الدياليكتيك الهيغلي المُفَسَّر ماديِّاً، علىَ جُملةٍ من الإجابات عن المشكلات الفلسفية التي أثارتها الثورة في العلم الطبيعي“.
يتعيَّن علىَ الماديِّة، إذا ما أرادت أن تكون مادية مناضلة، أن تتصدَّىَ لهذه المهمة ، وأن تعمل على حلها على نحوٍ منهجيِّ، وإلاّ..
”فإنّ علماء الطبيعة المبرزين سوف يظلون، أغلب الظنّ، كما في وقتنا الراهن، عاجزين عن القيام بتعميماتهم واستنتاجاتهم الفلسفية. إذْ أنّ العِلم الطبيعي يتقدّمُ حثيثاً خائضاً غمار تلك الانقلابات الثورية العميقة ضمن شتَّىَ المجالات التي لا يسعها قَطّ الإستغناء عن الاستنتاجات الفلسفية“. [لينين،حول مغزىَ المادية المناضلة]

في الاتحاد السوفياتي يعكف العلم والرياضيات من دون انقطاع على توطيد وتوسيع ركائزهما الفلسفية عبر دراسة الدياليكتيك الهيغلي من مواقع المادية، بهدف استئناف كفاحها ضِدّ ضغط الأفكار البرجوازية، وضِدّ محاولة ابتعاث نظرة العالَم البرجوازي، بقوّةٍ ونجاح على نحو ما فَعَلَ حتّى الآن.
إنَّ الأعمال المُتَّصلة بالرياضيات التي يتمّ بحثها ههنا، (فيما عدا شتَّىَ المُقطَّعَات المأخوذة من الأعمال المتنوعة ومن مراسلات ماركس_انغلز، وبصفةٍ أخَصّ "ضد دوهرينغ" و"دياليكتيك الطبيعة" وأعمال لينين الفلسفية) ، وكذلك مخطوطات ماركَس التي لم تُنْشَر من قبل، تقع ضِمْن 865 ورقة مكتوبة بعناية من قطع الرُّبع [12x28 سم_المترجم] يحفظها معهد ماركس_انغلز في موسكو في نُسخةٍ مُصوَّرة. إنّ جزءٌ من هذا العمل، متعلق أساساً بطبيعة التفاضل ونظرية تايلور، قد جرى تحقيقه بالفعل.
إن طريقة تقييم المادية الجدلية لدور الفلسفة الهيغلية في الرياضيات الماركسية اللينينية تنبع من المبدأ القائل:
”إنّ التَّغْييب الذي يقاسيه الدياليكتيك على يدِّ هيغل، لايمنعه، على أي حال، من أن يكون أول من بسط الصورة الكاملة لحركته بطريقة شاملة وواعية. عِنْدهُ ينتصب الدياليكتيك على رأسه. ينبغي قلْبهُ تارة أخرى إلىَ وضعية مضبوطة من أجل الاهتداء إلى النّواة العقلية داخل القشرة الصُّوفيِّة. [ماركس، تذييل الطبعة الثانية لـ رأس المال ]
من هنا، نظر ماركس إلى فلسفة الرياضيات عند هيغل من وجهة نظر النّقْد الذي يُفرِّق، الذي يعرف كيف يَفْصِل النواة الإيجابية للموضوع مع ترجمتها الصحيحة وتحولها، عن القشرة السلبية للمثالية المُشوَّهَة بالصُّوفية. هكذا، نرى الإيجابي والسلبي منسوجان معاً في فلسفة الرياضيات عند هيغل. ولقد أخذنا على عاتقنا مهمة تخليص النواة العقلية من قشرة المثالية.
يمكن الإطلاع على موقف مؤسِّسا الماركسية حيال أفكار هيغل الرياضياتية عبر الإقتباس التالي من انغلز:
” لا أستطيع أن أتولّىَ من دون تعليق على هيغل العجوز، الذي يقولون عنه أنه لم يملك ثقافة علمية رياضياتية عميقة. لقد عرف هيغل الكثير عن الرياضيات، لكن أيّاً مِن تلاميذه ليس مؤهلاً لنشر المخطوطات الرياضية العديدة بين أوراقه. الرجل الوحيد، فى حدّ عِلمي، الذي يفهم عن الفلسفة والرياضيات ما يكفي لكي يكون مؤهلاً للإضطلاع بهذا، هو ماركس“[انغلز، رسالة إلى أ. لينغ، 29 مارس 1865]

نحن الماديين الجدليين نرى مأثرة الفلسفة الهيغلية في حقل الرياضيات في حقيقة أنّ هيغل:

1) كان أوّل من خمَّن ببراعة الأصل الموضوعي للكَمِّ، بوصفه نتيجة لدياليكتيك الكَيْفْ؛

2) قد حدَّدَ بصورة صحيحة موضوع الرياضيات، وكذا دورها في نظام العلوم في المقابل، وساقَ تحديداً مادياً أساسياً للرياضيات هاتكاً اطار نظرة العالَم البرجوازي ووَثَنِيِّة الكَمّ التي امتازت بها(كانط، والرياضياتية الشاملة)؛

3)سلّمَ بأن الحقل الخاص بحساب التفاضل والتكامل لم يعد مجرد حقل كَمّيِّ، بل إنه يشتمل بالفعل على لحظاتٍ وسماتٍ كيفية مما يمتاز به المفهوم العيانيِّ(وحدة اللحظات المتناقضة داخلياً )، وبالتالي؛

4)فإنَّ أيّ محاولة لحشر حساب التفاضل والتكامل في الرياضيات الابتدائية، لمُلاشاة الوثبة الكيفية بين الإثنين، يتعيِّن أن يُنظر إليها منذ البداية كمحاولة لا حظّ لها من التوفيق؛

5)الرياضيات، ضِمن أصولها الخاصة، مِن دون عون من الفكر الفلسفي النظري، لا تملك تبرير المناهج التي تستخدمها بالفعل؛

6)تَحدَّدَ أصل حساب التفاضل، ليس في متطلبات التطور الذاتي للرياضيات، بل إن أساسه ومصدره لا يمكن العثور عليهما إلاّ في متطلبات الممارسة(النواة المادية)؛

7)يشكل منهج حساب التفاضلِ تمثيلاً لعمليات طبيعية معينة، ومن ثم فلا يمكن ردّه إلى نفسه، بل إلىَ طبيعة ذلك الحقل الذي يجد فيه هذا المنهج تطبيقه.

إنّ مواطن الضعف، والأخطاء، والضلالات في فكرة هيغل عن الرياضيات، التي تتبع مذهبه المثالي بضرورة فولاذية، إنما تستند، من وجهة نظر المادية الجدلية، على حقيقة أن:

1) هيغل قد اعتبر منهج حساب التفاضل، كَكُل، كما لو كان منهجاً دخيلاً على الرياضيات، وحتّى أنه لا يمكن أن يوجد في الرياضيات، انتقال بين الرياضيات الأبتدائية والعليا. وبالتالي، فإن مفاهيم وطرائق هذه الأخيرة لا يمكن إيلاجها في الرياضيات بأي طريقة كانت اللَّهم إلا بطريقة خارجية وتعسفية من خلال التفكير الخارجي. وأنها لا تظهر من خلال التطور الدياليكتي بوصفها وحدةِ هوية واختلاف القديم والجديد؛

2)أنه يعتقد أنه لا سبيل إلى تصور مثل هذا الإنتقال إلا خارج الرياضيات في مذهبه الفلسفي، في حيم أنه أُرغم على أن يحيل الدياليكتيك الصحيح لتطور الرياضيات بصورة عامة على نسقه الفلسفي.

3)وهو غالباً ما يصنع هذا بطريقة شائهة وغامضة على أية حال. وهو إذْ يقومُ بهذا إنما يستبدل العلائق الحقيقية التي ما تزال مجهولة بالمثالية، بالعلائق الخيالية. وبالتالي، فهو يختلق حلاًّ ظاهرياً من حيث كان يتعين عليه أن يطرح بجلاء مشكلةً لم تُحلّ. ويأخذ على عاتقه مهمة البرهنة على هذا والذود عنه من خلال رياضيات عصره، التي كانت خاطئة تماماً.

4)أنه فَهَم التطور الواقعي للرياضيات على أنه انعكاس لتطور المقولات المنطقية، لتلك اللحظات من التطور الذاتي للفكرة. ونفىَ امكانية قيام الرياضيات التي سوف تُطَبِّق المنهج الدياليكتيكي تطبيقاً واعياً والتي، سيكون في طوعها، بالتالي، أن تكتشف الدياليكتيك الحقيقي لتطور مفاهيمها ومناهجها الخاصة، لا أن تقتصر على إستعارة لحظاتٍ كيفية ومتناقضة في نفسها بواسطة تفكير خارجي.

5)وبناء عليه، لم يكن هيغل في وضع يسمح له بانجاز مهمة إعادة بناء الرياضيات وفق طريقة المنهج الدياليكتيكي وحسب، بل إنه اضطر إلى اتّباع رياضيات عصره، على الرغم من انتقاده الصحيح لمفاهيمها وأساليبها الأساسية.

6)إنه يُؤْثِرُ مُبرهَنَة لاغرانجْ عن حساب التفاضل والتكامل ليس لأنها تميط اللثام عن العلائق الحقيقية بين الرياضيات المتناهية(الجبر) واللاّمتناهية(التحليل)، وإنما لأن لاغرانج يستجلب الحاصل التفاضلي في الرياضيات بطريقة خارجية وتعسفية بحتة، حيث توافق هيغل مع التفسير التقليدي الضحل له(أي لاغرانج) .

7)إنه ينكر امكانية الرياضيات الدياليكتيكية، وفي محاولاته للإنتقاص من أهمية الرياضيات بشكل مبالغ أكثر مما يجب، ينكر كلياً اللحظات الكيفية(الدياليكتيكية) في الرياضيات الإبتدائية(الحساب). على الرغم من حضورها الجلىِّ عند دياليكتيكيِّ كمثل هيغل. فبينما نبذها من موضع ما(فصل الكم). توجب عليه اثباتها في موضع اخر (القدر).

إنّ مأثرة هيغل في ادراكه لموضوع الرياضيات بصورة صحيحة إنما يستحق مرتبة رفيعة برأينا، لا سيما بالنظر إلى حقيقة أن هذه المسألة ما تزال حتى يومنا هذا تتسبب في أكبر الصعوبات عند أكثر الاتجاهات الفلسفية المثالية الإنتقائية تنوعاً لكون تلك الإتجاهات تعكس الواقع المادي بطريقة شوهاء.
وهكذا، فإن الحدسيين(ويلي، بروير) على أثرِ كانط، يتبنون الرأي القائل بأن الحدْس القبْليِّ الخالص هو ما يشكل موضوع الرياضيات. على حين أن المنطقيين، الذين منذ أدرج ليبنتز الرياضيات كجزءٍ من المنطق، يرون في البديهيات والنظريات قوانين العقل. الشكلانيين، مثل هيلبرت، ينكرون وجود موضوع معين خاص بالرياضيات من أصله، ما يجعل من هذه الأخيرة محض مجموعة من القواعد التي تسمح لنا بتشكيل توليفات وتحولات مختلفة. التجريبيين الميكانيكيين الذين يضعون الرياضيات كجزء من الفيزياء ينكرون طبيعتها الخاصة، ويعتقدون أن موضوعها هو المكان الفيزيائي والزمان الفيزيائي. آخرون، كمثل ماخ، يلتمسون موضوعها في علم النفس، الخ.
ومع ذلك، تقود تلك التعاريف جميعاً صوب صعوبات لا يسع أياً من هاته الأنساق الفلسفية تذليلها. لقد قُدِّر علىَ الكانطيين الجُدد(بيبرياش، نيلسون) ، كما نعلم، أن يُواجهوا قدراً من الصعوبات في سعيهم إلى التوفيق بين الحدْس القبْليِّ الخالص وبين الهندسة غير الإقليدية. واضطر المنطقيون(راسل، فريج) إلىَ تبنِّي وجهة النظر التي تذهب إلى اعتبار الرياضيات نَحْواً من دون فاعل، ومفعول به، وفعل، ومسند. نحو الرابطة "و"، "أو"، "إذا"، وما إلى ذلك. كيما تستحيل[أي الرياضيات] ، بالتالي، إلىَ حَشْوٍ ضخم ليس في طوعه توفير أدنى معرفة جديدة بالموضوع. لم يستطع التجريبيين الميكانيكيين تصنيف هندسةً عديدة الأبعاد في أنساقهم، وجُوبِهوا بإختيار تمييز هندسة ممكنة رياضياً لكن من دون سائر الرياضيات. الشكليّين الذين أحالوا الرياضيات إلى ضربٍ من لعبة الشطرنج ورموز فارغة، ليسوا بقادرين على شرح وظيفتها في مجالات التكنولوجيا، العلم، والإحصاءات. التّقْليديين(هنري بونكاريه) الذين لا تزيد المفاهيم والعمليات الرياضية عندهم عن مجرد تقاليد مريحة متقشفة عقلياً، قد قفزوا على السؤال المطروح، وقصّروا عن تقديم أي توضيح حول تطور تلكم المفاهيم.
ومن ثم، فليس بين تلكم المدارس الفلسفية، التي لا تعي إلاّ جانباً واحداً وواحداً لا غير من الواقع، مدرسة تستطيع فهم الرّابط بين الرياضيات والممارسة، وقوانين تطورها. وحدهُ هيغل منَحَ الرياضيات تعريفاً وعَى جوهر الموضوع. تعريفٌ، هو في واقع الأمر، وبمعزل عن آراء هيغل، ماديٌ عميق.
طِبْقاً لهيغل، الرياضيات هي علم الكَمّ. أي علم تحديد الأشياء الذي لا يصفها في حد ذاتها، على نحوٍ يجعلها، بالضبط، مائزة عن الأشياء الأخرى، وعن نفسها في طور آخر من تطورها، بل هو يصفها، فقط، من جانبها الخارجي، جانبها المحايد عن التغيُّر.
”تُعالِجُ الرياضيات البحتة الشكول المكانية والعلائق الكميِّة للعالم الواقعي، أي مادة حقيقية تماماً. وواقع أن هذه المادة تتخذ شكلاً مجرداً للغاية لا يمكن أن يطمس_إلاّ بصورة ضعيفة_منشأها في العالم الخارجيِّ. عدا أنه لكيِّ ما نتمكن من درْس تلكم الشكول والعلائق في وضعها الخالص، لا بد من فصلها الكامل عن مضمونها، وتنحية هذا المضمون جانباً كشيء لا أهمية له“. [انغلس، ضد دوهرينج، 1878،صفحات 51_ 52] .
إنّ هذا الرّابط بين الرياضيات والواقع المادي يعيد انتاج التفسير المادي لتحديد هيغل لموضوع الرياضيات. إن العلائق المكانية لمكاننا الفيزيائي تتوافق مع مقتضيات هذا التحديد. إن الشكول المكانية وفقا لهيغل هي، عن حق، موضوع الرياضيات، على الرغم من كونها لا تستنفده؛ بما أن أي علاقة قد توفِر امكانية تفاسير كمية متنوعة يمكن لها أن تغتدي موضوعاً للرياضيات. مثلما هو الحال بالقياس إلى الميكروديناميكا الكهربائية، التي لا تعني، مع هذا، أن الدوامات الرياضية هي نتاج للفكرة، بل أنها، تعكس، في ذاتها، العلائق الكمية للواقع، أي الواقع المادي.
وهكذا، فإن تحديد هيغل للرياضيات يقبض على الجوهر الحقيقي للرياضيات، ويتيح امكانية الإحاطة بإرتباطها مع الواقع، ويكشف، في آن معاً، حدود الرياضيات، مكانها ودورها في نظام العلم الذي، يعكس في تطوره ككل، الواقع الموضوعي(المادي). من وجهة نظر هذا التحديد فإن التعاريف المتقدم ذكرها أعلاه لا يمكن لها أن تكون مجرد منبوذة ابتداءً (من عند العتبة)، وإنما يمكن تجاوزها في الواقع. في كل تعريف منهم يمكن التعرف على لحظات من الحقيقة”ميزة، جانب، وجه من المعرفة، الذي قدْ بُولِغ فيه فتضخم فصار إلى مطلق، منفصل عن المادة، عن الطبيعة، مؤلّه“[لينين، حول مسألة الدياليكتيك. مجلد38، الأعمال الكاملة، ص 363] .


رابط المصدر المباشر:
https://www.marxists.org/reference/subject/philosophy/works/ru/kolman.htm



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن