الانتخابات الرئاسيّة الفرنسيّة : الصراع حول دور الدولة ومكانة الوظيفة العمومية في المستقبل

لطفي الهمامي
hammami_l@yahoo.fr

2017 / 4 / 3


من بين المحاور الأساسية المطروحة من قبل المترشحين للانتخابات الرئاسية الفرنسية قضية دور الدولة في التنمية وتطوير الاقتصاد ودور الوظيفة العمومية بكافة تفرعاتها في المستقبل. وهو محور مهم بالنسبة لنا في تونس حتى نعمق النقاش حوله خاصة وان موضوع دور الدولة لا يزال مطروح لدينا بحده. ليس من باب المقارنة ولكن نطرح الموضوع لتبيان الوهم الإيديولوجي الذي يطال بعض لقوى السياسية التونسية وكذلك لكشف مغالطات بعض الاقتصاديين عندنا.
الوظيفة العمومية ودورها في الإصلاحات المطروحة
دأب العديد من الاقتصاديين والأحزاب السياسية والإعلام الذي يهيمن عليه المال على ترديد أن فرنسا تمثل أكثر الدول الأوروبية في عدد الموظفين المنتمين إلى القطاع العام.لكن إذا ما نظرا إلى الأرقام وبعض المعطيات الدقيقة يتبين عكس ذلك حيث تحتل فرنسا المرتبة السادسة من بين الدول الأوروبية في حجم التشغيل في القطاع العام سواء المشغل في أجهزة الدولة أو في المنشات الوطنية و الجهوية والإقليمية. فمثلا الدنمرك التي تعتبر دولة متقدمة على كافة الأصعدة ونسبة الرخاء نتيجة الخدمات تعتبر متقدمة جدا بفضل قطاعها العام، تحتل المرتبة الأولى في أوروبا حيث بلع عدد الموظفين بها 140 موظف على ألف مواطن. لقد بلغت نسبة النمو الاقتصادي الفرنسي خلال الثلاثية الأولى لسنة 2017 نسبة 0,3 ومن المتوقع أن تصل النسبة العامة خلال أخر السنة 2 بالمائة أما الأجر الأدنى فوقعت زيادته السنوية بعنوان 2017 ما قدره 0,93 أورو لتبلغ الساعة عمل بحساب الأجر الأدنى الخام 9,87 أورو .أما حجم الموظفين في القطاع العام فبلغ 5,64 مليون موظف وهو ما يعادل 13 بالمائة من الدخل الوطني الخام.أي حوالي 75 موظف على ألف ساكن. كما نلاحظ أن قطاع التعليم والصحة والدفاع والأمن والإدارة المحلية و الجهوية تشكوا من قلة الموظفين وهذا بشهادة كافة القوى السياسية والاجتماعية الفرنسية سواء من اليسار أو اليمين أو الوسط، لذلك اتخذت الحكومة الحالية خلال فترة حكمها إجراءات مستعجلة للانتداب. تطرح مسالة التشغيل في القطاع العام إذا من زاوية مدى تمكن الدولة من تقريب وتطوير وتحسين الخدمات الموجهة إلى المواطن وليس من زاوية نسبة حجم الكتلة المالية الموجهة للأجور من الدخل الوطني الخام علما وان اغلب الاختصاصيين الأكثر مصداقية يستعملون كمؤشر على نسبة قيام الدولة بمهامها الأساسية في خدمة مواطنيها عدد الموظفين لكل ألف ساكن وليس باستعمال نسبة كتلة الأجور من الدخل الوطني الخام.انطلاقا من هذه المعطيات يمكن التأكيد على أن النقاش حول مسالة الوظيفة العمومية لا يمكن حصره في نسبة النمو فحسب وإنما يطرح في ظل مقاربة شاملة للنموذج التنموي المعتمد في دولة ما. لان النمو الاقتصادي يمكن أن يشهد تطور عبر تطور خدمات الدولة لمواطنيها من خلال رفع عدد الموظفين على قاعدة عدد السكان حتى تكون الدولة في خدمة اقتصاد اجتماعي موجه إلى الإنسان/ المواطن وليس إلى راس المال الخالي من أي دور اجتماعي. لذلك طرح الموضوع بحده خلال الانتخابات الرئاسية الحالية ولكن من منظور أن الوظيفة العمومية هي عنصر حاسم في إصلاح الاقتصاد الفرنسي وإعادة دفع النمو على قاعدة بعث قطاعات إنتاجية جديدة استوجبها الواقع الحالي مثل الطاقة البديلة و إصلاح المنظومة التربوية وتطوير الاقتصاد المحلى وإعادة النظر في منظومة الاستهلاك من زاوية ملائمتها والتجدد الطبيعي للثروة الطبيعية لان الاستمرار في النمط الاستهلاكي الحالي سوف يقود إلى القضاء على الطبيعية بشكل تدريجي وهو ما ينذر بإمكانية حروب وصراعات بين البشر على مصادر الثروة.
اقتصاد في خدمة راس المال ام في خدمة الشعب
على اختلاف مرجعيات المترشحين للرئاسة مثّل موضوع الانتداب في القطاع العام نقطة رئيسية في البرامج المطروحة على الناخب الفرنسي. وهو ما يعنى أن القضية مطروحة اليوم سواء لدى الدول المتقدمة أو السائرة نحو النمو.وتطرح القضية من زاوية النظرة إلى المنوال التنموي والرؤية السياسية والفكرية لمعنى العمل والمرفق العام. لقد طرح مرشح "قوة الشعب" ميلونشون ذو الخلفية الفكرية اليسارية الموضوع من زاوية كيفية مواجهة المستقبل عبر إصلاحات جذرية للاقتصاد الفرنسي. من بين نقاط الإصلاح الجذري هي اقتصاد الطاقة البديلة التي سوف تساهم في الحفاظ على الطبيعة وكذلك الحد من الصراعات والحروب للسيطرة على الطاقة التقليدية مثل الغاز والنفط. يتطلب هذا المشروع إعداد ضخم من الطاقات البشرية ذات معرفة وقدرة على القيام بذلك، لذلك يقترح إضافة إصلاح منظومة التربية والتعليم والصحة و الاقتصاد المحلى, أولا، القيام بعملية تدقيق شاملة في عدد موظفي الدولة واحتياجات القطاعات وتدقيق المهام الموكولة لكل موظف,ثم إحداث خطة وطنية للرسكلة المستمرة وبعث وظائف جديدة. لذلك يقترح تشغيل إضافي ل 200 ألف موظف منهم 60 ألف لقطاع الصحة باعتبار قطاع الصحة بدوره قطاع منتج للثروة.كما اقترح لإصلاح أوضاع الاقتصاد ودفعه للنمو على عكس القائلين بتجميد الأجور إلى الترفع في الأجر الأدنى المضمون بنسبة 15 بالمائة للحد من إمكانية توسع دائرة الفقر والاحتياج وكذلك لتمكن أغلبية العمال من توفير الاحتياجات الضرورية مثل السكن والسفر لقضاء العطلة السنوية.اقترح كذلك تعليم مجاني وإجباري من سن ثلاثة سنوات إلى سن الثامنة عشر وهو إجراء ضروري لحماية كافة الأطفال من الانقطاع المدرسي وبعث تعليم للتكوين المهني المستمر حتى يتمكن كل فرد من اختيار المهنة التي يرغب في إتباعها.من الواضح إذا حسب ميلونشون أن هذه الإجراءات هي التي تدفع بالاستثمار الخاص والعام وليس العكس لان المثال التنموي الذي يرغب في إرسائه يقوم على فكرة أن الاقتصاد في خدمة المواطنين وليس لخدمة راس المال انطلاقا من الاقتصاد الواقعي وليس من اقتصاد المضاربات المالية الافتراضية. كما نجد مرشح الحزب الاشتراكي الفرنسي والذي تخلى عنه اغلب قيادات حزبه لخصوصية برنامجه الذي يركز على الجانب الاجتماعي "بنوا آمون" يقترح انتداب حوالي 40 ألف عبر تشغيل ألف موظف كل سنة.
أما المقاربة الليبرالية والتي نجدها عند "ماكرون" و"فيون" فإنها تعتمد على مهاجمة القطاع العام وطرح إجراءات تخص تقليص عدد الموظفين بدعوى الحد من مصاريف الدولة. لقد طرح فيون تقليص 500 ألف موظف خلال الخمسة سنوات القامة، أما ماكرون فطرح تسريح 120 ألف عبر عدم تعويض الموظفين المحالين على التقاعد.ما يمكن ملاحظته بهذا الخصوص أن كلا المترشحين اللبراليين يمثلان النموذج الاقتصادي الحالي, ومن بين التناقضات التي تشق برنامجهما أنهما ينطلقان من واقع اقتصادي واجتماعي يعتبرانه متأزما ولكن يقدمان نفس الحلول التي قدمها كل من اليميني ساركوزي والاشتراكي الديمقراطي فرنسوا هولند.
نريد التأكيد على أن معنى الدولة لا يزال مرتبط بخدمة المجتمع وليس العكس، لان المجتمع البشرى ومنذ البداية هو الذي ابتكر الدولة كحل وطريقة للتنظم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وبالتالي المدني. فالدولة إذا ذات وظيفة اجتماعية بالأساس ومعنى ذلك أن الوظيفة العمومية والقطاع العام بشكل أوسع يشكل عنصرا مركزيا في تطور التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية، وهي وحدها القادرة على تكريس اقتصاد بديل راس ماله الانسان.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن