قراءة وكالة المخابرات المركزية للنظرية الفرنسية

علي عامر
ali.amer.h.h@gmail.com

2017 / 3 / 6

المقال:
وكلة المخابرات المركزية تقرأ النظرية الفرنسية: دور العمل الثقافي في تعريّة اليسار الثقافي.
THE CIA READS FRENCH THEORY: ON THE INTELLECTUAL LABOR OF DISMANTLING THE CULTURAL LEFT.

نشر بتاريخ: 28 فبراير – 2017.

رابط المقال باللغة الانجليزية:
http://thephilosophicalsalon.com/the-cia-reads-french-theory-on-the-intellectual-labor-of-dismantling-the-cultural-left/

المؤلف: غابرييل روكهيل, فيلسوف, وناقد ثقافي, ومنظّر سياسي.

من كتبه:
Counter-History of the Present (2017)
Interventions in Contemporary Thought (2016)
Radical History & the Politics of Art (2014)

المعرّب: علي عامر.

نص التعريب:

في بعض الأحيان, يُفترض بشكل مسبق, أنّ المثقفين يملكون سلطة سياسية قليلة أو معدومة, يعيشون في أبراج عاجية, منفصلين عن العالم الحقيقي, غارقين في نقاشات أكاديمية عديمة المعنى عن تفاصيل تافهة, أو أنّهم يسبحون في غيوم مبهمة من النظريات العالية, يُنظر إلى المثقفين عادةً, أنهم ليسوا معزولين عن الواقع السياسي فحسب, بل وأنّهم غير قادرين على إحداث أي تأثير عليه.
وكالة المخابرات الأمريكية (CIA) تعتقد عكس ذلك.
من حقيقة الأمر, أنّ تلك الوكالة المسؤولة عن انقلابات سياسية, واغتيالات موجهة, إضافةً إلى التلاعب السرّي بالحكومات, لم تؤمن بقوّة وقدرة النظرية فحسب, بل كرّست موارد معتبرة لتشكيل مجموعة من عملائها السريين الذين سيركزوا على ما يعتبره البعض النظرية الأكثر ابهاماً وتركيباً في التاريخ.
وكالة المخابرات الأمريكية (السي أي إيه), -من خلال ورقة بحثية مذهلة, صدرت عام 1985, تمّ تسريحها للعلن مؤخراً من خلال قانون حريّة المعلومات, بعد أن تعرّض النص الأصلي لبعض الاقتطاعات الثانوية- كشفت أنّ عملياتها كانت تدرس النظرية الفرنسية المعقدة ذات النزعة العالمية, والتي ارتبطت بأسماء مثل: ميشيل فوكو, جاك لاكان, ورولاند بارتيز.
صورة الجواسيس الأمريكيين, مجتعمين في مقهى باريسي, ليدرسوا بعناية ويقارنوا الملاحظات, عن قديسي النخبة الثقافية الفرنسية, ستصدم أولئك الذين يفترضوا أنّ تلك المجموعة من المثقفين, ليسوا إلّا مشاهير ومن غير المعقول لعمقهم وتعقيدهم أنْ يقع في هكذا فخ همجي. وستصدم أيضاً أولئك الذين يفترضوا أنّ هذه الحفنة من المثقفين ليست إلا مجموعة من التجّار المخادعين والدجّالين وبائعي الوهم والكلام غير المفهوم, ولا يمكلوا أدنى تأثير على العالم الحقيقي.
على أيّة حال, يجب أنْ لا يكون هذا صادماً لأولئك المضطلعين على الاستثمارات طويلة النفس والدائمة لوكالة المخابرات الأمريكية في معركة الثقافة العالمية, استثمارات من مثل, دعم الفنانين والأدباء الذين يخرجون بالأفكار الجديدة والمدهشة في الفن والأدب, فقد تم توثيق هذا النوع من الاستثمارات من خلال باحثين من أمثال فرانسيز ستونور ساونديرز Frances Stoner Saunders, جيل سكوت سميث Giles Scott-Smith, هوج ويلفورد Hugh Wilford, كما قدمت أنا أيضاً مساهمتي من خلال بحث بعنوان: التاريخ الجذري وسياسات الفن.
توماس و. باردن Thomas W. Barden, المشرف السابق على النشاطات الثقافية لوكالة المخابرات الأمريكية, قام بشرح قوّة العمليات الثقافية للوكالة عام 1967, حيث قال:"أتذكر المتعة الهائلة التي شعرت بها, حين جلبت أوركسترا سيمفونية بوستون من التقدير والانتباه والاهتمام بالولايات المتحدة في باريس, أكثر مما كانت ستجلبه مئات الخطب لجون فوستر دوليز John Foster Dulles, أو دوايت أيزنهاور Dwight D. Eisenhower". هذه العمليّة لا يمكن اعتبارها بأيّ حال من الأحوال من العمليات الصغيرة ولا حتّى المتوسطة.
في الحقيفة, وكما طرح ويلفورد Wilford بصواب, فإنّ مجلس حريّة الثقافة (CCF), الذي كان مركزه الرئيسي في باريس, واكتشف لاحقاً أنّه عبارة عن منظمة جبهة تابعة للوكالة خلال فترة الحرب الباردة, كان هذا المجلس من أهم داعمي وممولي الفنون والمؤسسات عبر التاريخ كلّه, حيث دعموا عدداً لا يمكن تصديقه من النشاطات الفنية والثقافية. يتفرع المجلس إلى مكاتب متوزعة في أكثر من 35 دولة, نشر العشرات من المجلات المعتبرة, وكانت له يد في صناعة الكتب وانتاجها, ونظّم مؤتمرات دولية رفيعة المستوى, بالإضافة إلى المعارض الفنيّة, نسق للعروض والحفلات, وساهم في تمويل سخي جداً لعدد من الجوائز والشراكات الثقافية, كما موّل مؤسسات ومنظمات جبهة مثل مؤسسة فارفيلد.
الوكالة تدرك أنّ الثقافة والنظرية هي سلاح ضروري وحتمي في منظومتها العسكرية التي توظّفها لتحقيق مصالح الولايات المتحدة حول العالم.
الدراسة التي كتبت عام 1985, والتي نشرت مؤخراً, بعنوان:"فرنسا: ارتداد المثقفين اليساريين", تفحص هذه الدراسة (بهدف التلاعب والتأثير طبعاً), نخبة فرنسا المثقفة, ودورها الجوهري في تشكيل النزعات التي تنتج الخطط والرؤى السياسية. تقترح الدراسة وجود توازن اديلوجي نسبي وتاريخي بين اليسار واليمين في تاريخ عالم الثقافة الفرنسية, يُبرز التقرير احتكار اليسار للساحة الثقافية في الفترة التي تلت الحرب العالمية مباشرة, بسبب دور الشيوعية الأساسي في مقاومة الفاشية والنصر المطلق عليها. كما فقد اليمين مصداقيته بشكل كبير, بسبب إسهاماته المباشرة في معكسرات الموت النازية, هذا بالإضافة إلى أجنداته للرهاب من الأجانب, وأجندات اللامساواة والفاشية (حسب وصف الوكالة), العملاء السريين الذين رسموا الإطار العام لمسوّدة الدراسة, سجّلوا ببهجة واضحة عودة اليمين إلى الساحة منذ بواكير 1970.
وبشكل أكثر تحديداً, المقاتلين الثقافيين السريين, أطروا على ما اعتبروه حركة مزدوجة ساهمت في إزاحة تركيز النقد الثقافي بعيداً عن الولايات المتحدة نحو الاتحاد السوفييتي. فعلى اليسار, نمى استياء متفاوت من الماركسية والستالينية, صحبه انسحاب متصاعد للمثقفين الجذريين من الحوارات العامة, وابتعاد نظري عن الاشتراكية والحزب الاشتراكي. أمّا على اليمين, فإنّ الانتهازيين الاديولوجيون المعروفون باسم الفلاسفة الجدد, ومثقفي اليمين الجديد, أطلقوا حملة تشويه إعلامي رفعية المستوى ضد الماركسية.
بينما انشغلت مخالب الوكالة الأخرى حول العالم, في الإطاحة بالقادة المنتخبين ديمقراطياً, وتقديم التمويل والمعلومات للقيادة الدكتاتورية والفاشية, ودعم فرق الموت اليمينية, فإنّ أسطول المخابرات المركزية الباريسيّة, كان مشغولاً في جمع المعلومات عن كيف استفادت السياسة الخارجية الأمريكية, من إنزياح العالم نظرياً نحو اليمين.
المثقفين ذوي الميول اليسارية, والذين ظهروا في فترة ما بعد الحرب العالمية, كانوا منفتحين على نقد الامبريالية الأمريكية. جان بول سارتر ذو النفوذ الإعلامي, والمتحدث والناقد الماركسي الفذ, ذو الدور الأساسي في رفع الغطاء عن ضابط محطة الوكالة في باريس وكشف العديد من عملياتها السرية, كان خاضعاً لرقابة مكثفة من الوكالة, وتم التعامل معه كمشكلة حقيقية جداً.
على النقيض, فإنّ جو مناهضة الماركسية والاتحاد السوفييتي, المترافق مع نشوء مرحلة النيوليبرالية, شتت الاهتمام العام اليقظ, ووفّر غطاءاً ممتازاً لحروب الوكالة القذرة, من خلال جعله من "صعب جداً على أي أحد, أن يقوم بحشد معارضة مؤثرة في أوساط المثقفين ضد السياسات الأمريكية في وسط أمريكا على سبيل المثال". غراندين Greg Grandin, أحد أهم المؤرخين في أمريكا اللاتينية, يعطي مثالاً ممتازاً في مؤلفه "مذبحة الكولونيالية الأخيرة The last colonial Massacre": "بجانب التدخلات المرئية المميتة والمدمرة في غواتيمالا عام 1954, وفي جمهورية الدومينيك عام 1965, وفي التشيلي عام 1973, وفي السلفادور ونيكاراغوا خلال ثمانينات القرن العشرين, قدمت الولايات المتحدة الدعم المالي والمادي والأخلاقي لحكومات "الضد تمرد" القاتلة الإرهابية... ولكن ضخامة الجرائم الستالينية, تؤكد أنّ تلك التواريخ الدنيئة, وبغض النظر عن مدى اقناعها, أو شموليتها, أو تدميرها, لن تعكر أسس النظرة العالمية المرتبطة بدور الولايات المتحدة النموذجي في الدفاع عمّا يسمّى ديمقراطية!".
في نفس السياق, عمل الموظفين السريين على رفع شأن ودعم النقد الحثيث الذي نشأ وانطلق عنانه على يد جيل جديد من معادي الماركسية, مثل برنارد هنري ليفي Bernard Henri Levi, أندريه غلوكسمان Andre’ Glucksmann, و جان فرانسوا ريفيل Jean-Francois Revel, والموجّه ضد "الطائفة الأخيرة من فقهاء الشيوعية", التي تتكوّن حسب أحد العملاء المجهولين, من (جان بول سارتر, وبارتيز, وجاك لاكان, ولوي التوسير). بأخذ ميل اليسار الفتي نحو مثل هذه النقودات للماركسية, تم تقديم النموذج المثالي لبناء سرديّات مخادعة تدمج بين النمو المزعوم لفكر الفرد السياسي, بتقدم الزمان, حيث يُفترض أنّ الحياة الفردية والتاريخ هما ببساطة نمو إدراك حقيقة أنّ التحولات الاجتماعية الجذرية نحو المساواة, ليست إلّا جزءاً من ماضي الفرد أو التاريخ.
هذا الدعم للانهزامية المطلقة, لم يساعد في إضعاف الحركات الجديدة, خاصة الحركات التي يقودها الشباب فحسب, بل ساهم أيضاً في إرجاع النجاح النسبي للقمع المضاد للثورات إلى النمو الطبيعي للتاريخ (أي اعتبار قمع الثورات عمل تقدمي وجزء من طبيعة التاريخ- المترجم).
حتى المؤرخين الذين لم يصلوا لمستوى أولئك المثقفين الرجعيين في معارضتهم الماركسية, قدموا مساهمة مهمة في خلق بيئة منزوعة الإيمان بالمساواة القائمة على التحوّلات الاجتماعية الجذريّة, ومنفصلة عن الحشد الاجتماعي, ونقوداتها خالية من السياسات الجذرية. هذا مهم جداً لفهم استراتيجية الوكالة الشاملة في محاولاتها الواسعة والعميقة لتعرية اليسار الثقافي في أوروبا وباقي الأنحاء.
من خلال إدراكها لاستحالة القضاء التام على اليسار, سعت وكالة الجاسوسية الأقوى في العالم, إلى إزاحة الثقافة اليسارية بعيداً عن السياسات التحوليّة والمناهضة للرأسمالية نحو مواقع اليسار الوسطي الإصلاحي, الأقل نقداً لسياسات الولايات المتحدة الداخلية والخارجية.
في الحقيقة, وكما وضّح ساندرز بالتفصيل, فإنّ الوكالة ذهبت من خلف الكونغرس المنقاد لمكارثي, في فترة مابعد الحرب, من أجل تدقيم الدعم المباشر والترويج لمشاريع يساريّة تحرّك منتجي ومستهلكي الثقافة بعيداً عن اليسار الجذري الذي يؤمن بالمساواة.
بالإضافة لتكذيب ومقاطعة ذلك اليسار, عملت الوكالة على تجزئة اليسار بشكل عام, وترك ما تبقّى من يسار الوسط مع القليل من القوّة والقليل من دعم وتأييد العامة (كما تعرّض يسار الوسط أيضاً من فقد المصداقية بسبب تواطئه مع الجناح اليميني, مما يستمر في إزعاج المؤسسات اليسارية المعاصرة).
في ضوء هذا, يمكن فهم ولع الوكالة, بتحويل وحرف السرديّات, وتقديرها العميق للماركسية الإصلاحية, تلك الفكرة السائدة التي تتجاوز الورقة البحثية عن الفلسفة الفرنسية. يكتب أحدهم: "أنّ أولئك المثقفين الذين آمنوا بصدق بتطبيق النظرية الماركسية في العلوم الاجتماعية, وانتهى بهم الأمر في إعادة التفكير ورفض العُرف الماركسي كلّه", يقول عنهم:"كانوا الأكثر تأثيراً في الحط من شأن الماركسية". الذين اقتبسوا بالتحديد من المدرسة الأناليّة للتأريخ ومن البنيوية, خصوصاً ليفي شتراوس وميشيل فوكو, من أجل "الهدم الجذري لتأثير الماركسيّة في العلوم الاجتماعية"..
فوكو, الذي يعرّف بأنّه الأعمق من بين المفكرين والأكثرهم تأثيراً, تم تقديره بشكل خاص, لرفعه من شأن مثقفي اليمين الجديد, لتذكيره الفلاسفة بالتبعات "الدموية" التي "انبعثت من النظرية الاشتراكية العقلانية لفترة التنوير والثورة في القرن الثامن عشر".
رغم أنّه من الخطأ حصر أثر سياسة أو الفكر السياسي لأي فرد في موقف واحد او نتيجة مفردة, فإنّ يساريّة فوكو الضد ثورية, واستمراره في ابتزاز (الغولاك: معسكرات العمل)- مثل ادعاءه أنّ الثورات الجذريّة المتسعة, التي تهدف إلى التحويل الجذري الاجتماعي والثقافي, انحصر تأثيرها فقط في إحياء الأعراف الأكثر خطراً وفتكاً- هذه اليسارية الضد ثورية عند فوكو, بتلك الملامح, متطابقة تمام التطابق مع السياسة العامة لوكالة الجاسوسية, في حربها النفسية.


أعمال الشخصيّات الشهيرة مثل فوكو, ديريدا, وغيرهم من طليعة المنظرين الفرنسيين, عادةّ تتضمّن نقودات عميقة ومعقّدة, من المحتمل أن تتجاوز بعيداً أي شيء موجود في الاشتراكيّة او الماركسيّة او الأناركيّة.
إنّه لتوكيد حقيقي وموضوعي اعتبار الاستقبال الإنجلوفوني (ناطق باللغة الانجليزية-المترجم) للنظريّة الفرنسيّة, كما أوضح بحق جون مكومبر, له تطبيقات سياسية مهمّة في الفسفة الأنجلو-أمريكية المدعومة من مكارتي, كقطب مقاوم للحيادية السياسية الخاطئة, والتقنيات الآمنة للمنطق واللغة, أو التماثل الإديولوجي الفعّال.
مع ذلك, فالممارسات النظريّة لشخصيّات مهمة- أدارت ظهرها لأعراف النقد الراديكالي, ومنهاضة الرأسمالية, والمقاومة الضد أمبريالية- بالتأكيد ساهمت في الإزاحة الإديولوحيّة بعيداً عن السياسات التحويلية الجذرية. حسب وكالة الجاسوسية, فإنّ النظرية الفرنسية المابعد ماركسية, ساهمت في البرنامج الثقافي التابع للوكالة, في استدراج اليسار نحو اليمين, ونزع المصداقية عن مناهضة الإمبريالية والرأسمالية, وبالتالي خلق بيئة ثقافية تمكنّهم من السير قدماً نحو تحقيق مشاريعهم الإمبريالية بدون أيّة عائق, وبمعزل عن أي تعرّض للنقد والفحص الحقيقي من قبل المثقفين.
كما علمنا من البحث المنشور عن حرب الوكالة السيكولوجيّة, فإنّ المنظمة لم تتبع وتسعى خلف الأفراد فقط, بل كانت مهتمة بحماس في فهم وتحويل المؤسسات التي تنتج وتوزّع الثقافة. في الحقيقة, دراستها للنظرية الفرنسية دللت على الدور البنيوي الذي تلعبه الجامعات ودور النشر والإعلام في تشكيل ودمج روح سياسية جمعيّة.
هذا كما باقي الوثيقة, يدعونا للتفكير نقدياً حول وضع الأكاديميا الحالي في العالم المتكلم الإنجليزية وغيره. مؤلفي التقرير, مهدوا الطريق لتبيان دور الأكاديميا في تدمير اليسار الجذري.
إذا لم يتمكن اليسار الجذري من تأمين الوسائل المادية الضرورية لإنجاز عملنا, وإذا لم نندفع بمهارة وحنكة لنتفق في انتظام لتوظيف ونشر كتاباتنا, وإيجاد جمهورنا, فإنّ ظروف بنية اليسار الحازم ستضعف ويصيبها الهوان.
تكنوقراطيّة التعليم العالي, ليست إلّا أداة أخرى تستخدم لنهاية اليسار الجذري وآمال التحويل الاقتصادي والاجتماعي, فهي تهدف إلى تحويل الناس إلى مجرد دواليب تكنو-علميّة في عربة الرأسمالية, عوضاً عن أن يكونوا مواطنين واثقين ومستقلين يمتلكون أدواتاً حقيقية وناجعة للنقد الاجتماعي.
موظفي الوكالة المختصين في الشؤون النظريّة, يقدرون جهود الحكومة الفرنسية في "دفع الطلّاب نحو مساقات البزنس والمناهج التقنيّة".
كما أنهّم قد دللوا أيضاً على مساهمات دور النشر الرئيسية مثل غراسّت Grasset, ووسائل الإعلام الجماهيرية, وموضة الثقافة الأمريكيّة, في تعزيز برنامجهم البعد-اشتراكي والضد مساواة.
ما هي الدروس التي سنتعلمها من هذا التقرير, خاصة في بيئة سياسية راهنة, تشنّ حرباً مستمرة على المثقفين النقديين؟
أولاً, يجب أن يشكل هذا التقرير تذكيراً مقنعاً, لكل من يعتقد أنّ المثقين لا قوّة لهم, وأنّ توجهاتهم السياسية لا تهم ولا تؤثر, فإنّ المنظمة الأقوى في عالمنا السياسي المعاصر, لا تتفق معه.
وكالة المخابرات المركزية, The Central Intelligence Agency, أو وكالة الثقافة المركزية, (حيث تحمل الكلمة الوسطى معنيين: المخابرات والثقافة), تؤمن بقوّة الثقافة والنظرية, ويجب أن نأخذ هذا على محمل الجد.
الافتراض الخاطئ, أنّ النشاط الثقافي له تأثير قليل ولا يذكر على العالم الحقيقي, لن يقود إلى التعتيم حول التطبيقات العملية للمجهود النظري فحسب, بل سيعرضنا لخطر عدم رؤية المشاريع السياسية التي سنكون وبسهولة سفراءها دون قصد وعن جهل. رغم أنّ الحكومة الفرنسية وجهازها الثقافي توفّر منصّة عامة مهمة للمثقفين على عكس العديد من الدول الأخرى, فإنّ انشغال الوكالة في الرسم والتلاعب في الانتاج النظري والثقافي في أماكن أخرى, يجب أن يكون نداءاً ليقظتنا جميعاً.
ثانياً, السماسرة المسيطرين على الحاضر, لديهم مصالح راسخة في تشكيل نخبة ثقافية ممسوحة الفطنة النقدية, ذات حنكة مدمرة, من خلال تعزيز المعاهد المهتمة بالبزنس والعلوم التقنية, وتساوي بين اليسار واللا علميّة, وتربط بين العلم والحيادية المزعومة, ومن خلال دعم وسائل الإعلام التي يعجّ أثيرها بالثرثرة الملتزمة, وعزل اليساريين الأقوياء عن المعاهد الأكاديمية وإبعادهم عن الأضواء الإعلامية, ونزع المصداقيّة عن أي نداء نحو المساواة والتحويلات الاجتماعيّة.
بشكل عام, هم يسعوون نحو تغذية ثقافة يسارية محايدة, فاترة, عديمة التأثير وجامدة, متخمة بالإنهزامية والجبن, والنقد السلبي لليسار الراديكالي. هذا أحد أسباب رغبتنا في اعتبار المعارضة الثقافية لليسار الراديكالي, التي تهمين على الأكاديميا الأمريكية, كموقف سياسي خطر. أليست متضمنة بشكل مباشر في الأجندات الإمبريالية للوكالة حول العالم؟!
ثالثاً, لمعارضة هذا الهجوم المؤسساتي على الثقافة اليسارية الحازمة, من المجدي مقاومة تحويل التعليم نحو التخصصات الدقيقة والمجالات التقنية.
وعلى نفس القدر من الأهمية, يجب خلق مجال عام للنقاشات النقدية الحقيقية, من خلال توفير منصة أوسع لأولئك الذين يؤمنون أن عالماً أفضل ليس فقط ممكناً, بل وضروري.
من الضروري أيضاً التلاحم معاً, من أجل المساهمة لتطوير إعلام بديل, ونماذج تعليم مختلفة, ومعاهد معارضة وتجمعات راديكالية.
من المهم تعزيز ما يريد تدميره مقاتلي الوكالة السريين: تعزيز ثقافة اليسار الراديكالي, من خلال إطار عمل مؤسساتي مدعوم بقوة, دعم شعبي واسع وممتد, وسائل إعلام متنفذة وقوية, وقوّة على التحشيد متزايدة.
في النهاية: على مثقفي العالم أن يتوحدوا في إدراك قدرتنا, من أجل بذل كل ما نستطيع في سبيل تطوير نقد راديكالي ومنظم, يؤمن بالمساواة وبالبيئة, بنفس قدر مناهضته للرأسمالية والإمبريالية.
المواقف التي يدافع عنها الفرد في الصفوف الدراسية أو بين العامة, ضرورية لتحديد شروط النقاش وترسيم ميدان الإمكانيات السياسية.
في معارضة مباشرة لاستراتيجية الوكالة الثقافية للتفرقة والاستقطاب, التي سعت لقطع وعزل يسار مناهضة الإمبريالية والرأسمالية, يجب علينا التوحد والتحشيد من خلال إدراك أهميّة العمل الجماعي عبر اليسار جميعه.
وكما ذكّرنا مؤخراً كيينجا ياماهتا تايلور Keeanga-Yamahtta Taylor, من أجل زراعة وإنشاء نخبة ثقافية حقيقية, عوضاً عن الشكوى والنحيب من غياب قدرة المثقفين, يجب علينا في سبيل تحويل القدرة على النطق بالحقيقة إلى قوّة, يجب أن نعمل معاً, ونعبئ إمكانياتنا, من أجل الخلق الجماعي لمعاهد ضرورية لعالم من اليسارية الثقافية.
لأنّه ومن خلال مثل هذا العالم فقط, ومن خلال الحيّز الذي سيخلقه للثقافة النقدية, يمكن للحقيقة المنطوقة أن تسمع, ومن ثم تغيير بنية القوى.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن