مسارات متعثرة - معضلة التغيير في بلادنا

أمنية حامد
rowfash@gmail.com

2017 / 3 / 5

يلاحظ المراقب لتجارب بلادنا في عديد من المجالات الانسانية، افتقار تلك التجارب لما يمكن وصفه بعنفوان التواتر، خاصة في العقود الاخيرة.
فاذا ما نظرنا إلي الوضع في كثير من المجتمعات الأخري، يمكن للمرء تتبع مجري تيارات مميزة متلاحقة عبر الزمن. فنلاحظ غلبة تيار معين (فكري/ أدبي/ معماري….) في لحظة زمنية ما، و الذي يتبلور ليعبر عن نفسه فيصير كموجة تكتسب قوة مع الوقت، فتبلغ أوجها ثم لا تلبس ان تنحسر بعد فترة مفسحة المجال لموجة أخري و تيار مختلف. و هكذا تتعاقب التيارات في توالي و تواتر عبر الزمن مع اختلاف الظروف و الاتجاهات و الميول.
يمكن عندها للمراقب النظر للخلف و التطلع للأمام، فتبدو التيارات في سياق تاريخي يعبر عن نفسية مجتمع و امكانياته ومشاكله و متغيرات بيئته، فنجدنا أمام مدارس و اتجاهات فكرية )عصر الحداثة، ما بعد الحداثة…إلخ(.

لماذا إذن لا نجد في بلداننا من عنفوان الموجة، و لا من تتابع التيارات، سوي ما شابه تأرجح لتبعات موجة واحدة و مشتقاتها، و كأننا منحصريين في دوامة سطحية منذ عقود؟

معالجة تلك الأطروحة تتطلب النظر لعوامل التغيير في المجتمع وثقافته.
***

كيف يتم التغيير؟

في خضم معطيات البيئة المحيطة، و ظروف المجتمع من تحديات و فرص (تكنولوجية، سياسية، اقتصادية،….) تتلاحم عوامل عديدة, فتبرز قوي معززة لتوجة معين و قوي أخري معادية و متباينة عن هذا التوجة. تؤدي غلبة القوي الأولي لنمو تلقائي لهذا التوجة، الذي يزدهر، و يكتسب أنصار من المبدعيين و المفكريين في مجالات المجتمع المختلفة، مما يعزز من قوة دفع التوجة و مشاركة العامة فيه (متلقيين و مشاركيين و معدليين له).

يلازم ذلك إثراء للقوي المتباينة، التي لا يضمر وقعها، و لكن تنمو في جلباب القوي الغالبة لتنشأ تيارات آخري تحمل في طياتها تأثرها بالتيار الغالب مثلما تحمل عوامل مناهضة له.
مع الوقت تضمر و تضعف القوي الغالبة بعد ان تكون قد افرزت اتجاهات اشبعت الاحتياجات الزمنية للمجتمع، أو تكون قد برهنت علي عجزها في الاستجابة لتلك الاحتياجات. و يكون لتغير الظروف المحيطة، و نتاج التعايش مع التيار الغالب، نشأة عوامل دفع لنمو قوي مغايرة لما سبقها و متأثرة بالتوجهات المتباينه التي برزت واشتد عزمها.

يجب التأكيد علي ان ما سعينا لوصفة هنا هو تفاعل تلقائي لقوي و ظروف أي مجتمع حر. فما كانت غلبة قوي ما، أمر أو تسلط مركزي، ولا تفاعل مبدعي المجتمع مع ذلك التيار أو ذاك، توجيه من رقابة أو فرض عقائدي. تتابع التيارات هنا هو تعبير عن تغير و تنوع في متطلبات وظروف المجتمع و بيئته. و يكون المحك في هذا التتابع هو تفاعل التيارات المختلفة كلا علي حسب قوته الوقتية مع حرية التعبير و مع التمكن من آليات التغيير.

***

لمثل هذا الكيان الديناميكي من تتابع و تواتر وظيفتين اساسيتين في أي مجتمع.

- الوظيفة الأولي: التغيير و النمو، و يكون ذلك بالافساح للقوي القادرة علي مواجهة المتطلبات الزمنية، و بالاستجابة لفرص واحتياجات البيئة المحيطة، مع تمكيين لسبل التغيير ما ان تبدل الوضع.

- الوظيفة الثانية: و ربما الأكثر حرجاً في بلادنا، هي إثراء المجتمع في خضم قوي الجذب و الرد من تفعيل آليات التعلم من التجربة، و تقبل الاختلاف والتغيير (و التعايش مع تيارات و اتجاهات متباينة) كجزء لا يتجزأ من التقدم المضطرد، و إلا لصار المجتمع هو المعرقل الأول لنموه الذاتي.

هنا يمكننا عزو القصور الملحوظ في بلادنا من بزوغ مثل هذا الكيان الديناميكي، إلي تعطل آليات التغيير الطبيعي في مجتمعاتنا.

****

آليات التعطيل

كثيرا ما يُدرج البعض التشدد بالتمسك بالتراث و الفكر الديني التحفظي ضمن عوامل استاتيكية المجتمعات العربية، إلا ان مثل تلك الاتجاهات لا تعتبر في حد ذاتها سبب قصورنا. إن غياب التوجهات الآخري الموازنة و المنادية بتحرير الفكر والممارسة، الأمر الذي يمكن ضمه إلي عوامل عديدة، هو ما يعمل علي تقييد قدرتنا في الاستجابة لمتغيرات العصر.

في نظرنا يمكن تصنيف آليات التعطيل إلي ثلاث، يعمل كل منهم علي حفظ ”استاتيكية“ المجتمع و تقييد قدرته علي التغيير.

1. آليات الرقابة: عادة ما يقدم المبدع منتج ابداعى خارج الإطار السائد و يكون في نجاحه تلبية لحس أو حاجة غير مشبعة. و علية يكون الحكم الفاصل لهذا المنتج هو قبول أو رفض العامة له (جمع أو فئة معينة). ما ان ينجح المبدع، يكون قد أفسح المجال لفئة من المبدعيين و المحاكيين له ليتبعوا خطاه ويكون لذلك نشئة تيار وإيذان لموجة قادة.
في ذلك الإطار يكون للرقابة دور حماية المواطن من تلاعب او احتكار، و ليس دور تفعيل ذوق معين و رؤية لما ينبغي ان يكون علية المنتج الابداعي وفي اي سياق.

تعمل مثل هذه الآليات الرقابية علي عرقلة عجلة التغيير والتقدم، خاصه إذا ما اقترنت باحكام قيمية أو تصنيفات دينية علي المنتج الابداعي و علي المبدع نفسة (مثل التكفير!). كفي ان يكون رفض ذوق العامة لديوان شعر هو الحَكم، و ليس لرقابة أو مجلس نواب مصادرته تحت نداءات تدني النوع.

2. آليات لخنوع المواطن: بينما تؤثر آليات الرقابة علي مجري التغيير و توازن القوي بين الاتجاهات المختلفة، نجد نوع آخر من آليات التعطيل (وأكثر حدة) في كثير من بلادنا، والذي يهدف بشكل آساسي لضمان سكون المواطن عبر تكتيف يده (أو إلهاءه) أمام متغيرات البيئة و احتياجاته و معاناته. عندها ينفصل اسلوب حياته و تفكيره عن بيئته المحيطة، و بالتالي تتدهور مقدرته علي الاستجابه للمتغيرات والاسهام في تشكيل واقعه.

فما كانت نداءات السلطات الدينية في بعض بلادنا بطاعة الحاكم و قوانين الدولة كجزء من طاعة الله إلا تكتيفاً لإيدي و عقول مواطنيها، و رجوع لعصور مظلمة.

3. تدخل سلطوي: لآليتنا الثالثة نوع من الطرافة لاذعة المزاق. ففي حين تهدف كلتا الآليتين السابقتيين عمداً إلي تقييد عملية التغيير في المجتمع، نجد ان آليتنا الثالثة عادة ما تأتي محملة بطيب النوايا و نبل الهدف. إلا انها الأكثر ضررا و حدة في إصابة قدرة المجتمع علي التغيير الذاتي.

كثيرا ما نشاهد في بلادنا و عديد من الدول النامية محاولات إصلاح، و إعادة هيكله محتذيةً بتجارب دول آخري. فيكون التوجة للسلطة الحاكمة هو نحو إدارة دفة الأمور بشكل تحكمي في الاتجاة المختار. كفي ان نقول هنا ان نجاح تجارب دول آخري، هو إفراز لقوي التعزيز و التباين في مجتمعات تلك الدول. و عليه يكون اقتطاع تلك اللحظة و محاولة لصقها في سياق مجتمع آخر كمحاوله زرع كبد في جسد غريب، سيلفظه الجسد ما لم يتم تسليحه بالاستعدادت المسبقة لتأمين النجاح .

بجانب المخاطرة بلفظ الجسد لذلك العضو الغريب، نجد ان الإدارة التحكمية للدفة في مثل هذا السياق تربك ميكانيكيات التغيير الذاتي في أي مجتمع، خاصة إذا ما صاحب ذلك حملات تهليل و تطبيل بالنتائج المأمولة (بل و تسويق براهين و حجج علي خطأ المسار الحالي للقوي الغالبة في المجتمع مقارنة بالمسار المختار و المحتذي بتجارب الدول الآخري).
و أخيراً، وكما اشرنا، فان لحظات النجاح لتجارب دول أخري تمثل قمة عنفوان موجة التيار السائد لتلك الدول في لحظة زمنية ما، و عليه فلن تلبس إلا ان تنحسر تلك الموجة لتفسح الطريق لأخري. هنا نجد ان نجاح التجارب المحتذي بها يعتمد علي قدرة مجتمعاتنا علي قبول تلك التجارب و صهرها في النسيج الذاتي للمجتمع حتي يمكن توليد الموجة الجديدة لما بعد الانحسار.

***

لقد صارت مجتمعاتنا تعاني تذبذباً دائماً من تجارب لم نعايشها كاملة، فلم نتعلم منها، ولم ندري متي نحتفي بها أو كيف نلفظها، كما لم نولد قوي قادرة علي توليد تيارات أخري تتناسب مع تغير ظروفنا وظروف العالم حولنا. المحصلة هو اننا ظللنا في ثبات جمودي، بينما ازدهرت دول، و تبدل مع كل ذلك مركزنا النسبي، فتقلصنا رغم الثبات.

ان حرية المجتمع من آليات التعطيل و تفعيل آليات التغيير ليس فقط حق، بل انه واجب تجاه انفسنا، وتجاه الأجيال القادمة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن