الدين والاخلاق

يحيى محمد
yahya1mohamed@gmail.com

2017 / 1 / 24

ما هي طبيعة العلاقة التي تربط الدين بالاخلاق، والاخلاق بالدين؟ فنحن نعلم ان هناك علاقة وثيقة بينهما، لا سيما ان الدين مليء بالقضايا الاخلاقية كما يعبر عنها النص المقدس. بل نعتقد ان جوهر الدين قائم على القيم الاخلاقية لا العكس. فالايمان بالله مطلوب وواجب لاعتبارات اخلاقية، مثلما الشرك محرم ومنكر للسبب ذاته. وكذا ان التكاليف والعبادات تتأسس على اعتبارات الحقوق ضمن العلاقة بين الخالق والمخلوق. فالنصوص الدينية تتلبس في تشريعاتها بالقضايا الاخلاقية والمعيارية، وينبسط هذا الحال على مختلف المسائل الاخرى؛ بما فيها الوجودية او الاخبارية، لذلك تم توظيفها من قبل علمي الكلام والفقه، وهما علمان دينيان يتناولان كل ما يتعلق بالنص الديني، وبالتالي فلهما علاقة بالقيم الاخلاقية تباعاً.
ان للاخلاق ميزة تجعلها تختلف عن الطبيعة الوصفية او الاخبارية، فهي تتحدث عما ينبغي ان يكون وليس عما هو كائن كما في القضايا الوصفية. وهي من هذه الناحية تشترك مع المطالب الدينية. فاغلب ما يرتكز عليه الدين هو ذات ما ترتكز عليه القيم الاخلاقية، فهو وان تحدث عن القضايا الاخبارية الوجودية لكن غرضه ليس الوصف والتقرير، بل طلب الطاعة والخضوع، اي ان ما يهتم به هو ما ينبغي ان يكون، وحاله في ذلك حال القضايا الاخلاقية. وبالتالي فجوهر الدين لا يتجاوز هذه الناحية.
مع هذا نتساءل عن الفرق بين الاخلاق والدين، فكلاهما يعالجان ما ينبغي ان يكون ويتحدثتان عن الحقوق والواجبات المعيارية؟ فهل هما وجهان لعملة واحدة؟ ام ان احدهما قائم على الاخر؟ ام لكل منهما كيانه وان تم الاشتراك فيما بينهما في الموقف والموضوعات؟ او انهما متعارضان رغم كونهما معياريين؟.
وهنا نصادف ثلاثة كيانات يشترك بعضها مع البعض الاخر في مساحة قد تتسع وقد تضيق، وهي الدين والعلم والاخلاق. فلكل من هذه الكيانات جوهره الخاص المتميز عن غيره، ولولاه لانتفى هذا الكيان من دون ان تقوم له قائمة مستقلة. فهناك مشتركات موضوعية بين الدين والعلم، فكلاهما يتناول مسائل وجودية مشتركة، والشيء نفسه مع المشتركات الخاصة بين الدين والاخلاق. ورغم ان الارتباط الحقيقي بين الدين والعلم يرتد في الاساس الى العلاقة بين العلم والفهم الديني وليس الدين ذاته، لكن ذلك لا يمنع من وجود هذه العلاقة مع هذا الدين، فالاخير هو نص يتضمن المعرفة، وهو من هذه الناحية يشير الى موضوعات مشتركة مع العلم، فكل منهما يحمل نتاجاً معرفياً ازاء ذات القضايا الموضوعية، مثل خلق السماوات والارض والانسان وتطورات الجنين وغيرها. لكن الاساس الذي يجعلهما يفترقان هو ان للدين طابعاً اخلاقياً بخلاف العلم الذي تتصف طبيعته بالمحافظة على المحتوى الوصفي الاخباري عما هو كائن فحسب.
ان العلم هو معرفة موضوعية للطبيعة، وان النص الديني يحمل بدوره معرفة قابلة للفهم. وهو من هذه الناحية يتضمن مستويين، احدهما يمثل موضوعاً للفهم، حاله في ذلك حال الطبيعة، أما الاخر فهو انه منتج للمعرفة كالعلم. فهو من جانب يقابل الطبيعة فيكون موضوعاً للفهم، كما من جانب اخر يقابل العلم في انتاج المعرفة. ولكل من العلم والفهم موضوعه الخاص، فالطبيعة للاول، والنص للثاني.
ومثلما ان العلم عبارة عن معرفة، وان النص يتضمن هذه المعرفة من خلال اللغة، فان القيم الاخلاقية تتضمن بدورها القضايا المعرفية التي تخصها. واذا كان مصدر الدين هو الوحي المتجسد في نص لغوي محدد، ومصدر العلم هو الطبيعة، فان مصدر القيم الاخلاقية هو الوجدان العقلي. فهي نابعة من ذات العقل من دون ان تمتلك مصدراً خارجاً عن هذا الكيان. لذلك كان البحث فيها من نصيب الفلسفة. ورغم ان هناك مدارس ونظريات كثيرة تتحدث عن مصدر هذه القيم وطبيعتها؛ لكن من الواضح ان العقل البشري يتفق على اصول ثابتة لهذه القيم لا يستسيغ انتهاكها وتغييرها، فهي واضحة للعيان وتشكل أس العلاقة الانسانية، لذلك يصح اعتبارها من ابرز ما أُعطي للبشر ان يشتركوا فيه.
ان المصدر العقلي للقيم الاخلاقية يجعلها واضحة لا تقبل التشكيك، وهي من هذه الناحية لا تختلف عن قضايا كثيرة يكون مصدرها العقل وان اختلفت طبيعتها ان كانت تتصف بالضرورة ام لا؟ وتعتبر القيم الاخلاقية من القضايا المتصفة بالضرورة، رغم ان لهذه الضرورة انواعاً عديدة كالذي فصلنا الحديث عنها في دراسة مستقلة . وحيث انها تتصف بالضرورة فذلك يقتضي ان تكون عقلية وجدانية، وهي من هذه الناحية تُطرح في قبال الفهم والدين معاً، فكلاهما معنيان باتخاذ مواقف لها علاقة بالقيم الاخلاقية؛ سلباً وايجاباً وحياداً. أما العلم فهو ذو طابع محايد، فكما عرفنا انه لا يجتمع مع القضايا الاخلاقية في موضوعات مشتركة، لكنه قابل للتوجيه الاخلاقي سلباً وايجاباً.
***
لقد تعرض كل من الدين وفهمه الى مواقف صريحة تتعلق باساسيات القيم الاخلاقية المشتركة. ونجد في الفهم الديني انقساماً واضحاً ازاء صدقية هذه القيم ومصدرها تبعاً لاختلاف منظومات الفهم، وعلى رأسها منظومات تراثنا الاسلامي. فهي تتبنى اطروحات مختلفة حولها الى درجة الوقوع في المفارقات والتناقضات احياناً.
فلو ابعدنا وجهة النظر التي ترى القيم الاخلاقية مجازية صرفة، وان حقيقة ما يجري يتصف بالحتمية الصارمة من دون مجال للقدرة والحرية والاختيار، كما هو رأي الفلاسفة والعرفاء، فسيمكن تصنيف الخلاف داخل تراثنا الاسلامي الى ثلاث دوائر معرفية، عقلية وبيانية. فقد انقسم علم الكلام الى اتجاهين احدهما يرى ان القيم الاخلاقية وان كانت عقلية لكنها ليست مستقلة بذاتها، بل تتوقف على شرط اساس يتمثل بالملكية، فهذه الاخيرة هي التي تحدد صفة الحقوق، فالمالك عندما يكون متفرداً ومطلقاً في ملكه فله تمام الحق الاخلاقي، اي ان نسبة ما يحمله من الحق هي (100%)، فيما لا يبقى شيء من الحق للاخر سوى الصفر المحض. وهو الرأي العائد الى الاشاعرة ضمن ما نسميه منطق (حق الملكية). في حين يخالفهم عدد من المذاهب الكلامية التي اعتبرت القيم الاخلاقية عقلية ومستقلة من غير شروط، بمعنى ان للحقوق صفة ذاتية غير عارضة، وهو ما يتبناه كل من المعتزلة والزيدية واصوليو الامامية الاثنى عشرية ضمن ما نسميه منطق (الحق الذاتي). وفي قبال هذين الاتجاهين يميل اغلب البيانيين الى ان ما يحدد القيم الاخلاقية هو النص الديني لا العقل. وهنا يلتقي اصحاب هذه النزعة مع الاشاعرة في اعتبار ان ما يحدد القيم في النتيجة هو النص الديني، رغم ان الاشاعرة استندوا في اساس هذه الدعوى الى مبررات عقلية.
وللمنظومة الفقهية رأي يكاد يكون موحداً لدى جميع المذاهب، حيث تعتبر النص هو ما يحدد القيم الاخلاقية لا العقل، فحتى بالنسبة للمذهب الذي يجعل العقل مصدراً من مصادر التشريع، فانه لا يمنحه الثقة الكافية، ولا يتيح له فرصة التشريع، بل ويرجح عليه الظنون المعتبرة من نصوص الرواية والحديث، مبرراً ذلك بوجود مصالح خفية تجعل الذهن البشري لا يفهم لماذا يكون حكم النص مخالفاً للقيم العقلية. والحال ذاته نجده لدى اصحاب نظرية المقاصد، فهم لا يولون للعقل قيمة مقارنة بالنص الديني. ومعلوم ان هذه النظرية قد ظهرت في اوساط الاشاعرة، وان موقفهم من العقل العملي سلبي تماماً..
هذا فيما يخص موقف الفهم الديني من القيم الاخلاقية، وهو موقف متعدد المشارب كما عرفنا. اما عن طبيعة العلاقة بين هذه القيم والدين، فالملاحظ – كما سبقت الاشارة - ان لكل منهما اصلاً مختلفاً، فالاصل الديني عائد الى النص اللغوي المقدس، اذ بدونه لا يمكننا التعرف على اي قضية دينية. في حين يعود اصل القيم الاخلاقية الى ضرورات العقل المجرد.
ولدى الدين مواقف كثيرة تتفق مع القيم الاخلاقية، كما نجد فيه مواقف حيادية، لكن السؤال المطروح: هل نجد فيه ما يعارض هذه القيم؟
مبدئياً يمكن تصنيف تعامل الدين مع القيم الى نحوين، احدهما مرتبط بالمبادئ الاخلاقية العامة، والاخر يقتصر على القضايا التطبيقية الجزئية. ولهذه الاخيرة علاقة بالقيم مباشرة وغير مباشرة. والشيء المؤكد هو ان الدين يحترم المبادئ الاخلاقية ويقدسها، فهو يدعو صراحة الى اتباعها كمقاصد مقدسة من غير انتهاك. كما ان تعاملاته التطبيقية مشحونة هي الاخرى بالالتزام بهذه المبادئ. لكن تظهر في المقابل بعض التطبيقات التي قد تبدو معارضة لها، مثل موقف الدين من الاخر المختلف؛ كالمشرك والكافر والكتابي، ومثل موقفه من الرق وحقوق المرأة وتحديد العقوبات، بل وحتى الموقف من عذاب الاخرة غير المنقطع او طويل الامد..
ان اهم ما في الموضوع هو ان النص الديني يكشف بشكل واضح وصريح بان للقيم الاخلاقية اصلاً مستقلاً، فمن الخطأ ارجاعها الى الدين او النص ذاته. فهو حين يأمر بالعدل فانه يفترض بان ماهية العدل موضوعة مستقلة وغير مستقاة من النص ذاته. فالاخير لا يقرر ما هو العدل وما هو الظلم. وكذا حين يقرر بان الله ينهى عن الفحشاء او انه ليس بظلام للعبيد، فانه لا يقرر الا ما هو معلوم لدى المتلقي بان لهذه الامور مرجعاً اخر يعتمد عليه في الكشف والمعرفة. فالنص في مثل هذه الحالات يأتي كممضٍ وتابع من دون تأسيس لها.
وتقف هذه الحقيقة حاجزاً امام الفرضية الاشعرية في تأسيسها للاخلاق على الدين، كذلك فيما يخص التصور الفقهي للعلاقة الكائنة بين النص والاخلاق. وقد تضمنت هذه القضية مشكلة ما زلنا نعاني من تبعياتها السلبية الى يومنا هذا. فالمسالك الفقهية، ومنها التوجهات الدينية المتشددة، جميعها يبرر انتهاكه للحقوق البشرية بدعوى الرجوع الى النص الديني، من دون الالتفات الى ان النص الذي يدعون اليه هو ذاته يحثّ على الالتزام بالقيم الاخلاقية ويمتثل لأحكامها.
ومن وجهة نظرنا ان اصل الخطأ الذي ترتكبه المنظومات الفقهية والعقائدية السياسية مردّه الى ظاهرة عزل النص عن واقع التنزيل. فهذه هي آفة التفكير التراثي الذي ما زالت آثاره المنافية للقيم الاخلاقية سارية الى يومنا هذا.
ومبدئياً ان علة مخالفة بعض تطبيقات النص للقيم تعود الى تجريدنا للنص عن واقع التنزيل. بدلالة ان الصورة تصبح عكسية عند ترسيخ الصلة بينهما. وبالتالي فتحديد العلاقة بين الدين والقيم إن كانت متفقة ام ان فيها شيئاً من التعارض؛ انما يتوقف على طبيعة فهمنا لعلاقة النص بذلك الواقع. فعندما تكون هذه العلاقة متلاحمة فانها تبدي التوافق من دون إخلال، وعلى العكس فيما لو كانت منقطعة، حيث سيظهر من خلالها بعض الانتهاك والمخالفة.
وللاسف فقد حظي الفهم الاخير بالقبول المطلق لدى علماء الاسلام ماضياً وحاضراً، واصبح من الصعب قلب التفكير وتصحيح العلاقة السابقة؛ بفعل ضغط التراث المتراكم رغم مخلفاته السلبية وانتهاكاته الصريحة للقيم.
وهذه هي مشكلة الفهم الذي خلع على الدين لباس الجرم والظلم والتخلف..



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن