التسوية والمصالحة الوطنية في العراق لا تتم بمشروع طائفي

عادل حبه

2017 / 1 / 8


يعد مشروع "التسوية التاريخية" الذي قدمه السيد عمار الحكيم إلى كتلة التحالف الوطني وحظي بقبول أغلبية أطرافه بمثابة مسعى لخروج هذا التحالف من مأزقه السياسي، ومحاولة منه لمواجهة تحديات الانتخابات القادمة التي تثير قلق غالبية أطراف الاسلام السياسي بكل تلاوينه بعد أن فشلت هذه الإطراف ومحاصصاتها المدانة وتخبطها في تأمين الحد الأدنى من الأمن والاستقرار في البلاد وتوفير ظروف معيشية كريمة لأبناء الشعب العراقي، منذ أن تولى أطراف هذا التيار الحكم في أول انتخابات جرت بعد انهيار الديكتاتورية. إن القارئ لمشروع "التسوية التاريخية" لا يجد في هذا المشروع أية حلول حقيقية للأزمة التي يعاني منها العراق ووضع اليد على السبب الرئيسي لها ألا وهو الإسلام السياسي والطائفية السياسية وتصدّر الأحزاب الدينية السياسية لزمام الأمور منذ عام 2003. فالعراق وشعبه يحتاج إلى قوى سياسية توحده ومشروع حداثة مدني علماني وعصري يرمم الأضرار التي لحقت بالمجتمع العراقي بعد أن أمعن النظام السابق في تشرذم الشعب وتعميق العداوة والكراهية والتناحر بين العراقيين على أساس طائفي وديني وعرقي، وتفاقم الوضع بعد تولي الإسلام السياسي مقاليد الأمور في البلاد. إن الشعب العراقي يحتاج إلى أدوات تتناسب مع متطلبات العصر الراهن في إدارة الدولة من أجل الخروج من كبوته.
إن القارئ لا يجد في مشروع "التسوية التاريخية" أية مراجعة مسؤولة من قبل أطراف التحالف للنهج الطائفي الذي اتبع من قبله أو من قبل أطراف طائفية أخرى، ولا أية إشارة للطائفية وما جرته من كوارث على البلاد، بما يعني إصرار أطراف التحالف الوطني على تمسكهم بخيار الطائفية السياسية الخاطئ والمدمر. فمن المعلوم أن المحاصصة التي يتكرر إدانتها بشكل ممل من قبل الأطراف السياسية الطائفية بمختلف ألوانها، جرى إدانتها من منطلق النفاق بفعل الضغط الشعبي وليس عن قناعة من قبل هذه الأطراف التي لم ترق في مواقفها إلى إدانة الطائفية السياسية والتخلي عنها والتي كانت هي السبب الرئيس في هذه تفاقم هذا الداء والخراب والفساد الذي يعصف بالمجتمع العراقي.
إن إعلان وثيقة " التسوية التاريخية" من قبل التحالف الوطني لا تعكس الجدية في سعي هذا التحالف للخروج من المأزق السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني الذي يلف بخناقه على البلاد. فلو كان هذا التحالف وقوى الإسلام السياسي الأخرى جادة في مسعاها لأقدمت على الخطوات الضرورية التالية:
أولاً: تخلي هذه الأحزاب عن هويتها الطائفية واستبدالها بالهوية الوطنية. فكما يؤكد عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي على أن:" الطائفية ليست ديناً انما هي نوع من الانتماء القبلي إلى مذهب أو شخص معين. والفرد الطائفي حين يتعصب لمذهبه لا يهتم بما في المذهب من مبادئ أخلاقية أو روحية، فذلك أمر خارج عن نطاق تفكيره، وكل ما يهتم به هو ما يوحى به من التعصب من ولاء لجماعته وعداء لغيرهم. أنه بعبارة أخرى ينظر إلى طائفته كما ينظر البدوي إلى قبيلته". إن التخلي عن الهوية الطائفية وعن كل الهويات العشائرية والمناطقية والأثنية والتمسك بالهوية الوطنية يسحب البساط من تحت كل الأطراف المعادية للشعب العراقي التي تسعى إلى إحلال الفوضى والتناحر في البلاد من خلال المتاجرة بالهوية الطائفية. هذا التعويل على الطائفية يتم استغلاله من قبل المجاميع الإرهابية الشريرة كتبرير لإغراق العراق بالخراب وبالمزيد من شلالات الدم، إضافة إلى تهديدها للأمن الإقليمي والدولي. كما إن هذا الإصرار على هويات عفا عليها الزمن من شأنها أن تفتح الباب على مصراعيه للتدخل الاقليمي والخارجي وتحول التيارات الطائفية إلى جزء من الأجندات الخارجية التي تلحق الأضرار بالمصلحة الوطنية العراقية، كما هو حاصل الآن. إن مثل هذا التغيير بالهوية من شأنه أن يخرج الأحزاب الطائفية من دائرة التخندق والتقوقع واقتصار نشاطها على مناطق محدودة، صوب تمددها لتنشط في مختلف مناطق العراق بما يعزز الرابطة الوطنية بين العراقيين.
ثانياً: ولا يمكن السير على هذا نهج التمسك بالهوية الوطنية إلاّ عن طريق الالتزام بوظائف الحزب السياسي في المجتمع الحديث. فوظيفة الحزب السياسي الأساسية تكمن في طرح برامج اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية من شأنها نقل المجتمع إلى مراحل متقدمة على طريق الحداثة والتنمية. فليس من مهمة الحزب السياسي الدعوة إلى هذا الدين أو المذهب أو ذاك أو أية دوافع أيديولوجية بما يؤدي إلى تكريس الاختلافات والمواجهات بين اتباعها وصولاً إلى الصراعات الدموية العبثية التي نشهدها الآن تحت ستار الدين أو المذهب. ويترتب على الأحزاب الدينية عندنا في العراق أخذ العظة من تجربة البلدان التي خاضت الحروب المذهبية لقرون في أوربا، ولنا في التجربة اللبنانية خير شاهد على خطل الخيار القائم على المذهب أو الدين حيث تدور الحروب الطائفية في هذا البلد منذ اعلان استقلاله في عام 1946. وهنا يترتب على المشرّع العراقي، على غرار ما قام به المشرع المصري، تحريم نشاط الأحزاب التي تتبنى الأديان والمذاهب في قانون الأحزاب. فالدين لله والوطن للجميع.
ثالثاً: ولا يمكن السير على طريق تحقيق وظائف الحزب في المجتمع المعاصر دون توجه المؤسسات الدينية ورجال الدين صوب مبدأ فصل الدين عن السياسة والتمسك بالأركان الأساسية للدين، إي الأركان الخمسة كما هو الحال في الإسلام. أما ما جاء من قواعد وفتاوى وأحكام ظرفية في الدين فهي تمس مرحلة أو حدث تاريخي معين، ولا يمكن أن تشكل ركناً من هذه الأركان الخمسة. لقد شاب المعتقد الديني والمذهبي منذ نشوء الأديان والمذاهب الكثير من الشوائب التي زادته الفتاوي والأحاديث المفبركة التي أبعدت المعتقد الديني والمذهبي عن جادة الإيمان وأسسه الرئيسية، وتحول هذا المعتقد كما نشهد الآن إلى ضرب من التهتك والابتذال بحيث أخذنا نسمع معزوفة "جهاد النكاح" و "جنة الحوريات" و "التغني بالقدرات الجنسية للنبي" واباحة القتل العام والترويج للعنف وللسلب وللنهب وانتهاك الأعراض وعرض النساء في أسواق النخاسة، ناهيك عن نشر الروايات الخرافية. ولم يعد الدين والمعتقد خيار إنساني حر لا يُنشر بالسيف والإكراه، بل أضحى ساطوراً وسيفاً مرعباً مسلطاً على رقاب الناس بدلاً من مقولة "وجادلهم بالتي هي أحسن". إن هذا النمط من الدين لا يثير إلاّ لعاب المهووسين والمشوهين جنسياً والسراق والمهمشين في أي مجتمع، والذي تحول إلى كابوس يطارد أمن الناس ومعيشتهم. كما تحول هذا الدين والمذهب الغريب الجديد بكل ألوانه أو مسمياته إلى مؤسسات عسكرية وميليشيات مسلحة ومصانع لمختلف أنواع أسلحة الموت وفرق أرهابية متوحشة وعصابات تهريب النفط والمتاجرة به ووكلاء لتجار الحروب وسلاطينه في دول أقليمية لتحقيق أجنداتها، وأصبح أتباع هذا الدين إلى مالكي مشاريع مالية وعقارية ضخمة يسيطر بعضها على أحياء بكاملها في مدن العراق على سبيل المثال. هو ذا ما نشهده الآن في بلداننا ويُروج له في القنوات التلفزيونية وتنتج حوله الأفلام ، ويُموّل من قبل ملوك النفط وسلاطينه بحيث أصبح مصدر جذب للعابثين والمهووسين والمشوهين جنسياً من الشباب، ومصدر تهديد لأمن عالمنا بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ الإنساني. كل هذه المشاهد المرعبة تتوالى دون أن تنخرط المؤسسات الدينية ورجال الدين في مواجهة جدية لهذا العبث الدموي، بل نجد من يُروّج لهذا السرطان الذي يستشري في العالم.
هذا الحال المرير والخطر الذي يهدد شعوبنا دفع الكاتب الكويتي فؤاد الهاشم إلى الكتابة في صحيفة الوطن الكويتية قائلاً:" ليس لدينا نحن المسلمين ( ..) ما نقدمه للعالم و للإنسانية و لباقي الطوائف سوى القتل و الدماء. العالم شرقاً و غرباً يئن من الإرهاب الاسلامي (...) وتطلب الامر قيام تحالف دولي لمحاربة هذا الارهاب. راجعوا التاريخ و انظروا إلى أحوال العالم و الطوائف، هل تجدون أتباع دين أو مذهب في كل العالم يعتقدون أنهم سيحصلون على النعيم و الجنة إذا قتلوا العشرات من الأبرياء من الرجال و النساء والأطفال، غير أهل (....) ؟هل سمعتم عن يهودي أو مسيحي أو بوذي أو هندوسي أو ملحد، أو غير ذلك من الأديان ، قام بعملية تفجير انتحارية لقتل مصلين في مسجد أو كنيسة أو معبد ؟ هل هناك طائفة في العالم يؤمن أن قتل الناس بشكل جماعي من الفقراء و كسبة و نساء و أطفال هو فعل من يرجو تقرباً إلى الله و رغبة في الجنة ؟ هل هناك في هذا العالم من تتشابه أفعاله مع ما يفعله المسلمين (....) تقرباً إلى ربهم الظالم المجرم ؟!!".
رابعاً: ويجب على جميع المنظمات والأحزاب الطائفية الدينية والمذهبية التخلي عن ظاهرة عسكرة هذه المنظمات، وهي ظاهرة أضحت ملازمة لجميع الأحزاب والمنظمات الدينية والمذهبية. هذه الظاهرة لا تعني إلاّ أمراً وحيداً هو استخدام السلاح والعنف لفرض مواقفهم السياسية وآرائهم، بعيداً عن الحكمة القرآنية:"ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (سورة النحل)". فهؤلاء أصبحوا هم الذين يفتون بالقتل بدل الجدل وتولى محاسبة البشر بعيداً عن إرادة خالقهم كما يؤمن به المؤمنون. وهذه التيارات لا تحل مشاكلها مع الأحزاب الدينية الأخرى إلاّ بأكثر أنواع الأسلحة بطشاً وترويعاً، فما أن تبرز الخلافات بينها على الغنائم حتى يتصدر المشهد أحدث أنواع الصواريخ والمفخخات والألغام والانتحاريين كوسيلة "للجدال" بين هذه الأطراف المتصارعة. فالصدام المسلح وحالات الخطف وأخذ الفدية ودق الأعناق وسبي النساء هي الظاهرة المشينة التي تتصدر أخبار العالم بحيث أصبحت بلداننا في ذهن العالم بقعة من التوحش الذي قل نظيره وبتعويذات دينية ومذهبية.
خامساً: إن أكبر خدمة يقدمها رجال الدين، ليس الغور في مطبات السياسة وطريقها الوعر، بل بالسير على طريق الإصلاح الديني ومعالجة الغلو الديني والمذهبي والسعي للتقريب بين عباد الله، وتحاشي أي نهج من شأنه تكريس العداء والحساسية بين أتباع الدين الواحد أو بين أتباع الديانات السماوية. إن المتابع لما يُكتب على صفحات التواصل الاجتماعي واللقاءات التلفزيونية لبعض رجال الدين والفتاوى الغريبة التي يعج بها سوق الفتاوى والأحكام الدينية ليشعر بالحيرة على ما وصل إليه المعتقد الديني من إنحدار في دهاليز المضاربات السياسية والغلو الديني. يحدث كل ذلك ولم يتصد إلا القليل من المعنيين بمصير الدين لهذا الانحدار الخطير. فما زال البعض يتنافس على تكرار أوجه العنف والكراهية والاستخفاف بالبشر وخاصة المرأة ووضعها في منزلة حقيرة من المجتمع، ناهيك عن التزامهم الصمت تجاه مظاهر منبوذة في القيم الاجتماعية مثل السرقة والتلاعب بالمال العام. ولو ألقينا نظرة إلى غالبية القوى التي ترفع لواء الدين وتصدرت المشهد السياسي وجلست على كراسي الحكم لوجدناها قد تحولت إلى مجرد شركات تجارية ومؤسسات مالية ومضاربين فاسدين امتلأت حيوبهم بين ليلة وضحاها بأكداس اسطورية من الأموال والغنائم. وليس من قبيل الصدفة أن يرفع المطالبين بمعالجة الفساد الذي استشرى في البلاد في ظل حكم الأحزاب الدينية شعار "بأسم الدين باگونا الحرامية". فهذا الشعار يرفع لأول مرة في تاريخ العراق بسبب تفشي هذه الظاهرة المذمومة والفضائح الكثيرة التي رافقتها من قبل المتاجرين بالدين. وهذا ما يستدعي وقفة جدية من قبل الحريصين على المعتقد الديني لمعالجة هذه الآفة الخطيرة بخطوات جدية وليس بإطلاق الدعوات والمناشدات.
7/1/2017



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن