فيديل... القائد التاريخي والرمز الثوري العالمي.. يُنصفه التاريخ

موريس نهرا
bureau@lcparty.org

2016 / 12 / 11


مع رحيل فيديل كاسترو يغيب آخر القادة الثوريين في العالم.. فقد برز فيديل على الصعيد الداخلي والعالمي، قائداً وزعيماً كوبياً وأميركياً لاتينياً وعالمياً، حقق انتصار الثورة وبناء الدولة وسلطتها الثورية وحمايتها، في أخطر الظروف التي تحيط بها.

ولا يستقيم النظر إلى دور القائد الثوري الكبير، وما حققته الثورة التي قادها، بدون رؤية الظروف الموضوعية وخصوصية وضع كوبا، والشروط التي أحاطت بهذه الجزيرة الصغيرة الواقعة على تخوم أعتى دولة إمبريالية، هي الولايات المتحدة الأميركية. وهذا الأمر بالذات، هو ما جعل كوبا الثورة، محط أنظار العالم شعوباً وقادة ومفكرين. وأكسب القائد كاسترو إعجاب واحترام حتى خصومه وأعدائه، ليس في نصف الكرة الغربي فحسب، وإنما في المدى العالمي. وإذا ما كانت سياسة واشنطن وممارساتها تقوم على مناهضة كل حركة تحرر في أي نقطة في العالم، والتآمر لضربها، فمن الطبيعي أن تعتبر أن الثورة الكوبية وقائدها، تمرّد على هيمنتها، وتحدٍ لهيبتها، وطعنٌ موجعٌ في خاصرتها. وأن ترى أيضاً أن بقاء هذه الثورة، تُشجع على تفلّت بلدان وشعوب أميركا اللاتينية الأخرى من ربقة سيطرتها، لذلك ناصبت هذه الثورة العداء، منذ اليوم الأول لانتصارها. لكن شعوب أميركا اللاتينية بخاصة وغيرها، وجدت في هذه الثورة وانتصارها، ما يمثل توقها هي إلى الحرية واستقلال أوطانها، والخلاص من استمرار نهب الشركات الاحتكارية الأميركية ثرواتها وعرق شعوبها، للتخلص من الفقر والبؤس والتخلف. وهذا ما ضاعف عدوانية وشراسة سلطات واشنطن ضد هذه الثورة وقيادتها، ولجوئها إلى كل أنواع الضغوط والتدخل وأعمال التخريب والاستفزاز، والتهديد الدائم، وفرض حصار اقتصادي جائر وشامل على كوبا وشعبها، ما يزال قائماً حتى اليوم، بغرض إرباك قيادتها ودولتها وخلق ضائقة معيشية وحالة استياء شعبي داخلي، تدفع الجماهير الكوبية إلى إسقاط هذه الثورة من الداخل، وبدعم ورعاية أميركية. لكن صمود كوبا الثورة في مواجهة التحديات شكل المأثرة الثانية بعد مأثرة انتصار الثورة.

وللإنصاف، فإن للقائد الأعلى للثورة فيديل كاسترو ورفاقه، الدور الأساس في هاتين المأثرتين، ليس في الشجاعة والصلابة المبدئية فقط، وإنما في النهج الفكري والسياسي والعملي، الذي تجلّى بالجمع بين الوجه الوطني التحرري للثورة، الذي جعل المواطن الكوبي يشعر بالاعتزاز والكرامة الوطنية، وبين وجهها الاجتماعي الذي تجلّى بأوضح وأبهى صوره بإحداث تحولات أساسية تلبي حاجات الشعب ومعيشته وضماناته الاجتماعية خصوصاً في الصحة والتعليم والعمل، والخلاص مما كان يعانيه من استغلال وظلم طبقي صارخ، وتمييز عنصري على أساس لون البشرة، وافتئات على حقوق المرأة وعدم مساواتها مع الرجل في القانون. هذا إضافة إلى الفقر والبطالة والأمية، والقمع الدموي لسلطات الطاغية باتيستا، واعتبار "اليانكي" أي أميركا، أن كوبا هي مجرّد مزرعة لها، للهو والقمار والدعارة، وللإستثمار فيها في بعض مجالات تدرّ أرباحاً لهم.

لقد شكل الترابط بين الوجهين الوطني والاجتماعي للثورة، العامل الأساس في تحقيق وحدة الشعب وإلتفاف أكثريته الساحقة حول قيادته وتمسكه بالثورة وإنجازاتها. وتمثل العامل السياسي الآخر بمصداقية القائد وحيازته ثقة الناس، بالإضافة إلى كونه خطيباً بارعاً جاذباً لإهتمام الجماهير، التي تزحف بمئات الألوف والملايين إلى ساحة الثورة، تجاوباً مع مواقفه، وما يطرحه من قضايا ومهام وطنية وداخلية تتعلق بقضايا الناس وتقدم وتطور المجتمع الكوبي شارحاً الصعوبات التي تواجهها كوبا المتعلقة بالاقتصاد المتخلف الموروث، وبالحصار الاقتصادي الإمبريالي الجائر المفروض عليها، وبما تتطلبه حماية كوبا وأمنها، من طاقات وجهود وإمكانيات. وقد شكلت علاقة هذا القائد التاريخي مع الجماهير، والحسّ السياسي الشعبي، الذي تميز به، دافعاً رسخ الثقة المتبادلة بينهما، وأدى إلى تنامي اليقظة الشعبية والوعي السياسي، وإدراك ان أي عمل تخريبي عدائي للثورة، هو ضد وطن الثورة والمكتسبات الاجتماعية المحققة لكل مواطن.

لقد كان فيديل يضع الثورة في خطبه، في السياق التاريخي لنضال الشعب الكوبي من اجل الاستقلال والحرية، مبرزاً المحطّات الأساسية وقادتها وأبطالها. من أنطونيو ماسيو، قائد انتفاضة 1868، ضد السيطرة الإسبانية، إلى خوسيه مارتي المفكّر وملهم الثورة، الذي استُشهد عام 1894، في معارك النضال لتحرير كوبا من السيطرة الإسبانية، وفي مواجهة محاولات الولايات المتحدة إحلال سيطرتها محلها، مركزاً على ترابط المسار النضالي واستكماله، بانتصار الثورة الكوبية التي جاءت من رحم الشعب الكوبي، ومطامحه التاريخية.

وأمام رسوخ هذه الثورة، لم تكتفِ سلطات واشنطن بالاستفزاز والحصار الاقتصادي المستمر والشديد الضرر على كوبا وشعبها، فركزت منذ فشلها الأول في غزو كوبا في بلاياهيرون (خليج الخنازير) في 17 نيسان 1961، على التهديد بالعدوان العسكري المباشر على كوبا. فبرزت في خريف 1962، مشكلة الصواريخ السوفياتية على الأرض الكوبية، وكادت أن تشعل حرباً نووية عالمية. وكان انتهاؤها بتسوية سحب هذه الصواريخ من جهة، والإحجام عن العدوان الأميركي على كوبا من جهة أخرى.

لكن أعمال التحريض الإعلامي والتخريب داخلياً، لم تنقطع، وترافقت مع هدف اغتيال قائد الثورة، ورصد تحركاته وتنقلاته داخل كوبا، للتخلص منه بكل الوسائل، بينها مثلاً، إرسال صحفية أميركية لقتله بحجة إجراء مقابلة معه، يُقال أنها كانت عشيقته. فاكتشف فيديل أمرها، واعترفت بذلك. والتدبير الذي أتخذه هو إرجاعها إلى الولايات المتحدة. وكانت احدى المحاولات الأخرى بوضع السمّ في بدلة فيديل للغطس في البحر، حيث كانت هواية فيديل المفضلة. والمحاولة الأخيرة من أصل مئات المحاولات، كانت في العام 2000، عندما ذهب كاسترو إلى بنما للمشاركة في اللقاء الأميركي اللاتيني، فاكتشف أمنه الشخصي، أن متفجرة وُضعت تحت المنبر الذي سيصعد إليه لألقاء كلمته.

لم تكن خيبة الدوائر الإمبريالية الأميركية في عجزهم عن إسقاط الثورة، وفشلهم في اغتيال قائدها فقط، بل وبفشل رهانهم على سقوط كوبا الثورة، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومة أوروبا الشرقية. وبقي انتصار الثورة ودخول قائدها الأعلى فيديل برفقة تشي غيفارا وكميلو سيينفواغو، وغيرهما من القادة إلى هافانا، في 8 كانون الثاني 1959، صورة محفورة في ذهن الشعب الكوبي وشعوب أميركا اللاتينية، تعزز ثقتهم بجدوى نضالهم وقدرتهم على الانتصار.

فبفضل هذه الثورة تحولت كوبا من جزيرة منسية، إلى رمز ثوري أميركي لاتيني وعالمي مضيء. وتجلّت ممارسات قائدها في إبراز وجهها التضامني الأممي مع الشعوب، ومنها شعبنا اللبناني ونضاله الوطني ومقاومته للاحتلال والعدوان الصهيوني. فالوحيد الذي خرق الحصار الإسرائيلي المجرم على عاصمتنا بيروت عام 1982، وفي ظل ألوف القذائف اليومية التي تنهال عليها، هو السيد مالميركا، وزير خارجية كوبا الذي أتى للتعبير عن التضامن مع شعبنا ومع القضية الفلسطينية. ويتجلّى الشكل الآخر للتضامن والصداقة مع شعبنا اللبناني والعربي، بألوف المنح الجامعية لأبناء الطبقات الشعبية والكادحة، منها ما يزيد عن 70 خريج لبناني من المهندسين والأطباء، من جامعات كوبا، وألوف المنح للشعب الفلسطيني واليمني الجنوبي وباقي الشعوب العربية في مغرب الأرض العربية ومشرقها. هذا رغم الظروف الصعبة التي تعانيها كوبا جرّاء الحصار الاقتصادي الأميركي.

لقد شعر الكوبيون بوفاة فيديل كاسترو أنهم يخسرون قائداً نشأ من صفوفهم، وحمل قضاياهم الوطنية والاجتماعية، ورفع كوبا إلى مرتبة عالمية يعتزون بها. لذلك ملأوا ساحة الثورة والشوارع الفسيحة في محيطها، لوداع قائدهم الذي أحبوه ومحضوه ثقتهم، وتكريماً له. وقام ملايين الركوبيين بالتكريم نفسه، في ساحات المحافظات الكوبية الأخرى التي مرّ بها رماده وصولاً إلى المدينة الثانية سنتياغو دي كوبا، حيث يدفن إلى جانب المفكر والملهم خوسيه مارتي..

إن فيديل كاسترو الذي برز على الصعيد العالمي قائداً ثورياً يناهض الإمبريالية والرأسمالية المتوحشة والعنصرية والصهيونية، تميز في علاقاته المتعددة المستويات، كرئيس للدولة، وكأمين عام للحزب الشيوعي الكوبي. فمن دوره البارز في حركة دول عدم الانحياز ورئاستها مرتين، ودعم نضال شعوب إفريقيا من أجل نيل استقلالها، وعلاقته مع جمال عبد الناصر والجزائر، والعراق، وسوريا، واليمن الجنوبي، وممثلي القضية الفلسطينية، إلى لقاءاته مع الأحزاب الشيوعية والقوى الثورية المناضلة من أجل التحرر الوطني والاجتماعي. وقد كان لي شرف المشاركة في وفود حزبنا الشيوعي اللبناني إلى كوبا، واللقاء مع فيديل مرات عديدة. لكل ذلك ليس غريباً أن تشعر الشعوب وقواها المناضلة، ومنها شعبنا، بمشاركة الشعب الكوبي ألمه.. وأن يعبّر الكثيرون من الرؤساء والقيادات، عن تقديرهم واحترامهم لهذا القائد، سواء في مشاركتهم المباشرة بتكريمه، أم في كتاباتهم وتصريحاتهم.

لقد قال فيديل في خلاصة مطالعته الدفاعية أثناء محاكمته، بعد فشل الهجوم على ثكنة المونكادا في سنتياغو عام 1953، أن "التاريخ سينصفني" وقد شهد إنصاف التاريخ له قبل أن يرحل... فالثورة التي قادها انتصرت، وصمدت رغم التحديات، ووهجها يشعّ لدى شعوب أميركا اللاتينية التي يتنامى المسار التحرري الديمقراطي اليساري في العديد من بلدانها، رغم ما تواجهه من ضغوط وتآمر وصعوبات. ولم تستطع التغيرات في التوازن الدولي أن تنهي هذا الثورة. مما دفع الرئيس الأميركي اوباما، إلى الإقرار بفشل سياسة اميركا في عزل كوبا، والقيام بزيارتها، والتبادل الدبلوماسي معها.

لقد رحل فيديل واثقاً من رسوخ نهجه الفكري والسياسي لدى القيادة الكوبية، وفي وعي جماهير كوبا، لكن بدون أن يركن لجارته الإمبريالية الكبرى.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن