حكايا جدو أبو حيدر -19-

كمال عبود
daryusi@yahoo.de

2016 / 10 / 27

**النّغلْ**

هناك ، تحتَ شجرةِ صنوبر كبيرة ، في حديقة عامّة ، على مقعدٍ خشبيٍ باهِتٌ لَونُهُ ، قديمٌ طلاؤه ، أضلاعهُ الخشبيّةُ تخفي أنين أشخاصٍ جلسوا عليه يوماً ، وربما تخفي حكاياتٍ فيها بعضُ أسرارٍ وبعضُ فرح... هناكَ جلستُ ، وضعتُ عكازي على يميني ، ورحتُ أجوس بناظري إلى الأعلى ، حيثُ خيوط الشمس الذهبيّة ، تلتّفُ جدائلاً مع خيوط الورق الإبري لشجرة الصنوبر الجميلة.


من الطبيعي التحاور مع الأشياء ومع النفس ... أتحاور الآن مع الأوراق المبعثرةِ فوق الارض - جميلة هذه الأشكال الفوضويّه - وتلك الحصى اللامعة أحياناً ، وهذه عصافير الدوري الذكية التي تعرف أين تعيش وأين تجد مأكلها ...

وتلك حجارة الطريق المرصوفة بعناية وحكاياتُ من رتّبها ، ومن نسّق الأزهار حول بركِ الماء ونوافيرها الصغيرة ؟ ثمّة قَصصٌ وحكايات يُحضِرُها الجالس فوق المقعد الحزين ... كم تملك من أسرار وآهات وآمال البشر الذين جلسوا فوقك وسمعت أحاديثهم وربما بوحهم وشكواهم أيها المقعد العجوز مثلي؟
كم مرّ أمامك عشّاقٌ وصبيةٌ صغار يتقافزون كما الكرات أم يهيمون بأذرعتهم كما فراشات الربيع ..؟

هذا اليوم كانت حكايةُ ** النغل **
والنغلُ يا سادتي لقبٌ لرجلٍ عرفته من تسعةٍ وعشرين عاماً ولم أره من ذلك الحين ، افترقنا متخاصمين في الرؤى والأهداف - لكنّهُ - والحق يُقال - أطربنا مدة طويلة بصوته العذب ، ولأنه ليس عندليباً ولا كناراً أو حسوناً فقد حمل لقب "النغل"... مرّ أمامي ، نظرَ بإتجاهي ، تجاوز المقعد بخطوات .. وقف وتراجع إلى الخلف ..
جلس قربي قائلاً : مرحباً
قلتُ : أهلاً وسهلاً.
نغمةُ الصوتِ جذبتني ، نظرتُ فإذا هو النغل!
قال : أراك هنا ..؟ أما عرفتني ..؟
قلتُ : العتب على الذاكرة .. ذَكّرني ..؟ آه أنت النغل ، كيفك ..
قال : ماذا تعمل هنا ؟
قلتُ وماذا يعمل كهلاً مثلي ..؟ وقلتُ- عن قصد- دون مواربةً : أتجسّسُ على الناس...
قال : حسبتُكٓ تجاوزت الماضي .. وارتحت من الهموم ..
قلتُ: نحن متخاصمان ، ولا يهمني من الماضي إِلَّا عبرتهُ ... كيف حال رفاقك ..؟
قال : ألا تقرأ لهم .. ؟
قلتُ بلى ... بضعةٌ منهم يكتبون جيّداً .. ثائر.. وكمال .. ونبيل .. والكردي الجميل صاحب الابتسامة الدائمه ، أمّا الآخرون - زباله - كما عهدتهم عن قربْ ..

امتّد الحديث ساعة وأكثر قليلاً ، قال أثناء الحديث : عندي سوْال خاص ..؟
قلتُ أعرفهُ .. تعال ... وهمستُ في أذنه ( ... ... ... ) .
تراجع إلى الخلف ..
: لماذا لم تقل هذا ذاك الوقت البعيد ...؟ لماذا حملت الهمَّ كل الوقت؟
قلتُ لأَنِّي أحبكم ولا أريد أن تتناحرون مع بعض ..
قلتُ وأنت ماذا تفعل ..؟
قال وضعي مثل تلك الحكاية:

( نظر الجملُ إلى نفسهِ مُتحسّراً وقال مُخاطِباً ربّهُ : ياالله خلقتني بشكلٍ مقيت ... فقبلتُ .. خلقتَ لي سناماً غليظاً .. فارتضيتُ .. جعلتَ لي خفّاً أدوس بهِ على الرمال الحارقه ، اعيشُ في الصحاري .. أجوع وأتحمّلُ العطشَ أياماً وليالي .. قبّلتُها حكمتكَ راضياً .. أمَّا أن تجعلَ الحمار يقودني ... فهذه صعبة ... صعبة وكبيره .. كبيره كتييير ).
قلتُ : صار لك تسعةً وعشرينَ عاماً ولم تعرف أنّ من يقودَ ثورتكم حمار ....؟
قال : شو قصدك ...؟
قلتُ - مُتعمداً -: ما يلبق لك لقب نغل ... يليق بك وصف (البغل)*
غادر الرجل ...
قلتُ أحاور نفسي : ما كان يجب أن يزعل ... ربّما لن أراهُ الّا بعد تسعةٍ وعشرين عاماً .. في الآخره

*****
* البغل يُرجِعُ أصلُه الى الحصان ، يقولون له : من أباك أيها البغل فيقول : خالي هو الحصان. كنايةً عن الخجل من أصل والده الحمار - تماماً كحال ( ثوار ) اليوم ، لا أصلَ لهم.
* النغل: طائر ليس عندليباً أو كناراً ولا حسوناً ، هو نتاج تلقيح زوجين مختلفين من الطيور حسنة الصوت.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن