-الساعة الخامسة والعشرين- عرت الوجه الحيواني للانسانية

منير ابراهيم تايه
moneer.tayeh@gmail.com

2016 / 10 / 5

ما الكتاب الذي قرأته وما يزال ماثلا بالذاكرة؟
يدفع بي السؤال إلى ركام من العناوين والأسماء؛ لكن عند رواية "الساعة الخامسة والعشرين" للكاتب الروماني قسطنطين جيورجيو التي حازت على جائزة نوبل في الآداب، كونها تدفع الى كثير من الاسئلة حول مصير الانسان المعاصر المنسي في الذل والحروب... فانا شغوف بالقراءات التي تلقي الأسئلة، وتحث على التفكير، ولعل "الساعة الخامسة والعشرون" أحد أكثر الاعمال السردية الباعثة على أسئلة حول المصير المأساوي للإنسان، فالقراءة ليست فقط غوصا في عالم افتراضي إنما هي نحت في الصخر بحثا عن القضية التي تقبع في ثنايا الأحداث، كثير من الروايات يتلاشى حضورها من الذاكرة بمرور الأيام ، وتصبح استعادة أجوائها صعبة، وربما شبه مستحيلة، وقليل منها يدمغ الذاكرة بختمه الأبدي، ومن ذلك القليل النادر رواية "الساعة الخامسة والعشرون".
قال الفيلسوف الفرنسي جابريل مارسيل "لا أظن أن من اليسر إيجاد عمل فني أكثر تعبيرا عن الوضع المريع الذي تجد الإنسانية نفسها غارقة فيه اليوم مثل رواية "الساعة الخامسة والعشرون"
ان ما يجعل من الأدب جزءا من الحياة، أنه حافظ للتراث موثق للحاضر، وفي نفس الوقت يتوقع المستقبل ويتنبأ بأحداثه، فالأدب ليس مجرد قصص رومانسية وتخيلات غير واقعية، في أحداث روايتنا هذه توثيقا لتاريخ لم تكتبه الصور ولم تسجله الأفلام ولا أقلام المؤرخين، لكنه يجوب بنا في قلب أحداث مروعة ويدخلنا في مناطق موغلة السرية والخطورة، تجعلنا ندرك معنى الحياة فوق خطوط النار، وفي قلب آتون الموت، إن هذه الرواية حية، ما زالت نابضة كألم عميق، في قلوب كل من عاشوا الحروب، وما زالوا، لانها عرت الوجه الحيواني للروح الانسانية. انها فوضى العقل، والعاطفة ، والمناهج المضللة، والنواميس الجوفاء.
بدأت بقراءة الرواية بصيغة الحاضر، رغم أن الكاتب اختار الحرب العالمية الثانية كإطار زمني لروايته، ألا أنني كنت أقرأ الرواية بصورة الحاضر والموت يحدق بنا من كل اتجاه، وأنا أستشعر شخوصها في واقعنا العربي البائس.
اما لماذا سميت بالساعة الخامسة والعشرون؟
الرواية تشعرنا أن المأساة لا تعرف شخوصها، فما ان يتخلى الإنسان عن انسانيته حتى تصيب الجميع. او كما يقول جيورجيو على لسان تريان: "لقد أشرف العالم على دخول ساعته الخامسة والعشرين؛ وهي التي لن تشرق الشمس من بعدها على الحضارة البشرية أبدا، ولن يحل بعدها يوم جديد. إنها الساعة التي سيتحول فيها البشر إلى أقلية عديمة القدرة على التفكير لا وظيفة لها غير إدارة جحافل الآلات وصيانتها وتنظيفها".
انها ساعة المواجهة حين يستفيق الإنسان على خرابه لكن بعد فوات الأوان، هي الساعة التي لن تفيد فيها أي محاولة للإنقاذ، هي الثقب الأسود الذي سيغيب الإنسان لتطغى الآلة. العنوان لا يشير إلى ساعة معينة كلحظات الاحتضار ومعاناة النزع الأخير، لكنها عبارة رمزية يعبر بها عن حالة من أقسى أحوال القهر والمهانة والعذاب في الحياة، فعالمنا يسير سيرا أعمى، ونحن نمضي غارقين في أتون الحروب والصراعات والصدامات بعد إن دخلنا "الساعة الخامسة والعشرين" إنها ليست الساعة الأخيرة، بل هي بعد الساعة الأخيرة.. إنها الساعة التي لا جدوى فيها من أي محاولة للتخلص من العذاب..
يبدأ الكاتب فيها من قرية صغيرة في رومانيا، بطل الرواية "يوهانموريتز" عامل زراعي يعيش في القرية مع زوجته الجميلة. ومالك الأرض التي يعملان فيها دبلوماسي وكاتب معروف اسمه "تاريان كوروجا". اعجب ضابط البوليس بزوجة المزارع الشاب وقرر الحصول عليها، فاعتقل الزوج دون ان سبب ليواجه ألوانا من المذلة والعذاب. وعند احتلال القوات النازية لرومانيا، يستمر اعتقال الضحية وتعذيبه للاشتباه بأنه عدو. ويحاول الهرب مع سجناء آخرين، ويتعرض للاعتقال والتنقل بين عدة معسكرات للعمل في رومانيا وهنغاريا وألمانيا. وحين يتبين لأحد الضباط النازيين أنه شخص بسيط يأخذه للعمل في مصنع للأزرار،حيث يواجه صعوبات ومتاعب جديدة، فيغفل لحظة عن عمله في ترتيب علب الأزرار استعدادا لشحنها، فتتعطل الآلة ويؤدي ذلك إلى توقف المصنع، ويكون جزاؤه أن ينال عقابا قاسيا. وفي أحد هذه المعسكرات، يلتقي بالكاتب "كوروجا" الذي كان قد اعتقل في يوغسلافيا، وهو يعمل على كتابة رواية بعنوان "الساعة الخامسة والعشرون"، يقف فيها ضد استعباد الإنسان وتحويله إلى آلة. لكن هذا الكاتب ينتحر في معسكر أمريكي في بولونيا. أما "موريتز"، فتعتقله القوات الأمريكية من جديد بتهمة تعاونه مع النازيين، ثم يضعونه أمام أحد اختيارين: إما الانخراط في الجيش الأميركي والقتال معهم أو البقاء في معسكرات العمل...

الروايةشبكة من العلاقات والصراعات المتقاطعة، أحداث تجري بصورة عفوية حينا وبصورة كيدية مريبة أحيانا أخرى، وقد اختار الكاتب أكثر شخوصه من مجتمعه القريب،من أهله وأصحابه الذين جرفتهم مأساة الحرب العالمية الثانية فخاضوا أهوالها مدفوعين بكل ما فيها من تناقضات في الرؤى والانتماءات والمصالح. وهو يتخذ من تلك الحرب الطاحنة مسرحا لروايته، وقد لقي فيها عشرات الملايين مصرعهم، وكان المستفيد الوحيد أصحاب مصانع الأسلحة في أوربا وأمريكا. وبقدر ما يكشف هذا العمل الفني الكبير المظالم التي لقيها الضحايا أمثال موريتز من جميع الأنظمة النازية والشيوعية وحتى الأميركية، فإن استعباد الآلة للإنسان تهدد مستقبله كله.. ولعل نهاية الأرانب في الغواصات تعطي فكرة رمزية موجزة ومعبرة عن هذه المأساة.
يقول أحد شخوص الرواية إنه مر بتجربة في جوف غواصة، حيث أمضى حوالي ألف ساعة. وفي الغواصات الحديثةجهاز لمعرفة الوقت المحدد لتجديد الهواء الفاسد، بينما كان البحارة في الماضي يأخذون معهم في الغواصة أرانب بيضاء، فإذا فسد الهواء وقلت نسبة الأوكسجين ماتت الأرانب. وبهذه الطريقة يعرف البحارة أنّ الوقت الباقي لهم لا يزيد عن خمس ساعات، فإما أن يصعدوا إلى السطح لتجديد الهواء أو يلقوا مصيرهم المحتوم في الأعماق. وفي حال البقاء، كان على أولئك البحارة أن يقتلوا بعضهم بالرصاص، تجنبا للاختناق أو الوقوع أسرى في أيدي الأعداء. ويرى الكاتب أن الغرب يعمل على تحويل البشرية كلها إلى أشباه أرانب في غواصات.
حرائق شتى تندلع على صفحات الرواية، وأسئلة شائكة تخز العقل والروح وتدمي الإنساني فينا، فشخصيات الرواية تتشابك وهي تنتقل من حال إلى نقيضه؛ إذ تصبح الضحية جلادا والجلاد ضحية ..عشت تجربة قاسية اثناء قراءة الرواية وسيطر عليّ ذهول تحول الى حزن، فقد عشت تجربة القراءة وكأنها وقائع مررت بها، اعترف انني غير قادر على تجميع أحداث الرواية في أسطر ، فالأحداث ابهرتني حد الارهاق بمرارة وشوق متلازمين.. انها رواية تفصيلية، دقيقة،تحليلية، عن الحرب العالمية الثانية ومآسيها وانماط الإضطهاد العرقي ،والتمايز الديني ،والمذهبي ،والسياسي فيها..
في سؤال وجه الى كونستان جورجيو حول مكان الساعة الخامسة والعشرون في حياته قال: كانت ساعة محنة رهيبة ومرحلة شاقة في حياتي ليس في كتابي "الساعة الخامسة والعشرون" من الرواية سوى التقنية. فالاحداث واقعية عشتها كلها وعاشتها عائلتي وقريتي . محنة رهيبة على انها رغم قساوتها ، اثلجت صدري واسعدتني عندما استقبلها القراء والنقاد بحماسة وتقدير ، الساعة الخامسة والعشرون حكاية حرب ضارية ظالمة ، خاضها شعبي وكذللك اسرتي وقريتي .. الحرب نار ، والنار تطهر الذهب الخالص، تطهر النار الظافرين انقياء ، والسيئون الشريرون يهلكون ..
الحكيم الصيني لاو تسو في كتابة "الفلسفة الطاوية" يقول..
لا يوجد جمال حتى في النصر
وذلك الذي يسميه جميلا
هو من أولئك الذين يجدون السرور في المذابح
والذي يجد السرور في المذابح
لن ينجح في طموحه الهادف إلى السيطرة على العالم
إنَّ تأوهات حزينة رافقت، ولا بد الجماعات المذبوحة
لذلك ينبغي أنْ يُحتفلَ بالنصر، حسب الطقوس الجنائزية
حين انتهيت من قراءة الرواية، لست أنا كما بدأت...



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن