حكاية البرونكس

وليد الأسطل
leroidunanto71@gmail.com

2016 / 9 / 27

(صوني و أبي كانا يقولان دائماً، إنّني سأفهم عندما أصبح كبيراً. لقد فهمتُ الآن، لقد عَلَّمَاني كثيراً كلاهما، لقد عَلّماني أن أمنحَ الحبّ دون مُقَابِل، و قبول الآخَرِين على ما هُم عليه (قبول المُختَلِف)، و قد تعلّمتُ على وَجْهِ الخصوص أن لا أُضَيِّعَ موهبتي، ينبغي إجادة الإختيار لأنّه يقود حياتكم كلَّها). بهذه الكلمات يُنهِي و يُلَخِص(كالودجيرو) أو (c) المعنى الرابض في أحداث فيلم حكاية البرونكس A BRONX TALE. قد يسمع العاشق أغنيةً فيبكي حبّاً كبيراً أَفَل، و قد يسمعها رجلٌ سعيد ٌ
فيَرقُصُ طَرَباً، و قد يسمعها ثالثٌ منهمِكٌ في عملٍ ما فيصرخُ زاعقاً بَلَاش ازعاج. أقول لكم هذا حتّى أُقدِّم قراءَتِي الخاصّة لفيلم حكاية البرونكس، حتّى و إن لم تَكُن على المَوْجَة الّتي ركبَهَا المعنى الّذي لِأَجلِهِ صُنِعَ الفيلم.
الفيلم تدور أحداثه بين عام 1960 و 1968 في إحدى مناطق نيويورك، إنّها منطقة البرونكس، و في حَيّ fordham ذي الوجهِ الإيطالي، ذلك أنَّ غالبيّة قاطنيه من أبناء الجالية الإيطاليّة، حتّى أنّ راوي الحكاية (كالودجيرو) يقول عنه في بداية الفيلم (إنّه بلدٌ صغير في حَدِّ ذاتِه، تفصلنا 15 دقيقة عن بروكلين و مانهاتن، و لكن يتملّكنا إحساس أنّنا نبعد عنهما آلاف الكيلومترات).
جوهر الفيلم يتجسّد في سؤال من أهمّ أسئلة الحُكم عبر العصور، خيرٌ للحاكِمِ أن يكون محبوباً أم مرهوباً؟ رؤيتان متضادّتان الأولى يقدّمها لورينزو(روبرت دي نيرو) العامل الكادِح و رَبّ الأسرة الكاثوليكيّ الصّالِح، و الثانية يتبنّاها زعيم المافيا مرهوب الجانب (صوني)(تشاز بالمنتري) المخلص لماكيافيللي و لفلسفته النّفعيّة المُبَكِّرَة إن جازَ لي قول ذلك. صوني الّذي يكرّر في أكثر من موقف في الفيلم باستهتار القَتَلَة و بِثَبات مَن عَرَكَتهُ تجارِبُ الحياةِ و حَنَّكَته جملته المعهودة(لا أحَد يهتَمّ).
يبدأ الفيلم بإبراز اِفتِتَان الطفل كالودجيرو بِصُوني و شخصيّته الكاريزماتيكيّة المُسَيطِرَة، فهو لا يفتأُ ينظرُ إليه و يقلّد أدقّ تفاصيل حركاته و يقول متمتماً(إنّك الأفضل يا صوني لا يوجد أيُّ شكٍّ في ذلك)، بعد ذلك يرتكب صوني جريمة قتل على مرأى و مسمع كالودجيرو، فيعتصم كالودجيرو بإنكار معرفته بالقاتل بعد أن يعرض عليه رجال الشرطة مجموعة من الأشخاص من بينهم صوني، يُعجَب به صوني، يحمدُ له صنيعه، بل يكون له أباً بعد أبيه، فهو يتفاءلُ به و يأخذه معه حيثما ذهب، و إذا سأله أحدُهم عن كالودجيرو أو (c) كما كنّاه، أجاب إنّه اِبني.
في ظلّ هذه الأبوّة الثانية سيعيش (c) حالةً من الإنشطار الدّاخليّ الدّائم، بين رؤية والده الطّارئ (صوني) الّذي يعلّمه مَثَلاً(إنّ العاملَ أَحمَق)، و بين والده الفعليّ (لورنزو) الغير مفتقر إلى التجربة هو الآخَر، فهو سائق حافلة و هذا يكفل له الإحتكاك بجغرافيا بشريّة غنيّة التضاريس، و الّذي يردّ على جملة صوني بقوله(إنّ العاملَ هو الرّجُل الصَّلب على الحقيقة، لأنّه يستيقظ باكِراً لِيَكسَبَ لقمة العيش، أمّا الضّغط على الزّناد فأمرٌ سهل يحسنه الجميع، (ثمّ يضيف قائلاً) إنّ النّاس لا يحبّون صوني، إنّهم يخشَوْنَه ). ثُمّ في مناسبةٍ أخرى يجيب صوني (c) و يكون إذّاك قد غدا شابّاً في 17 من عمره عندما سألَه(ما هو الأفضل أن تكون محبوباً أم مرهوباً؟)(أنا أُفَضِّلُ أن أكُونَ مرهوباً، الخَوفُ أَمتَنُ من الحُبّ، الصّداقة يُمكِنُ بيعُهَا و شراؤها......... إلى أن يقول له ، أنا أُعطِي أتباعي ما يحتاجونه، لكنّني لا أُغدِقُ عليهم من العطايا لكي يبقون دائماً في حاجةٍ إلَيّ).
و الآن ألَيسَ صوني هو الدكتاتور الّذي يحسب أنّ إحسانه للشعب صدقةٌ يمنّ بها عليهم و يتفضّل بمنحها إيّاهم متى شاء و راق له ذلك؟ أليس لورنزو صوتَ العقل المنبوذ الّذي لا يُصغي إليه الشعب المتمثّل في الطفل و المراهق (c) و الذي لا يتمثّل بسلوكه بقيّة أهل الحيّ؟ الشعب غير النّاضج المراهق أو الذي يكتفي بأن يأكل و يشرب و ينام، و أن يخاف الحريّة أكثرَ من الدكتاتور، الشعب المحتاج إلى أبوّة الإستعباد كي يُحقّق توازنه الدّاخليّ، أَلَمْ ينتحر (بروك) حين حازَ حرّيّته في فيلم shawshank redemption لأنّه لم يستطع التعايش مع الحريّة؟ إنّ كثيراً من الشعوب تعاني من متلازمة ستوكهولم دون أن تدري.
إنّ صوني يظهر في مواطن كثيرة في الفيلم طيِّباً و نبيلاً، فهو لم يزُجّ ب (c) في عالم الجريمة، و كثيراً ما كان يشجّعه على الدراسة و أن ينتقي أصحابه بعناية. إنّ جوهره نقيّ، إذن من أين جاء هذا الإجرام الذي هو مقيمٌ عليه؟ الجواب ما قاله أحد قضاة صدّام حسين متوجّهاً إلى صدّام(لست دكتاتوراً، إنّ الشعب هو من يصنع الدكتاتور)، صَدَقتَ و صُدِّقت سيّدي، و أزيد على ما قلت إنّ الشعب يصنع أشياء أكبر بكثير من الدكتاتور حتّى إذا أنهى صناعتها سجد لها و أهلكَ نفسه و غيره في الدفاع عنها.
إنّ شدّة البأس الّذي يبديه صوني إذ يصرّح أنّه لا يثق بأحد، إنّما هو وليد خوف مَرَضيٍّ كبير يحاول إخفاءه، وهذا شأن كل دكتاتور، و كثيرٍ من المبالغين، أليست كثير من كتابات همنغواي تطفح بمشاهد و فقرات تدعو إلى تحدّي مشاكل الحياة و التجلّد أمامها بل و قهرها؟ يقول (همنغواي) على لسان (مانويل) بطله في (رجال بلا نساء)(لكنّك مِتَّ يا فيلاتا العظيم، أمّا أنا فسأصمد، سأصمد لأحقّق هدفي و ثأري)، و ها هو يعلّمنا التّحدّي و الإصرار في أعلى درجاتهما مع عجوزه (سانتياغو) في العجوز و البحر، يقول (سانتياجو) متجلِّداً(عليَّ أن أُثبِتَ لها أنّني قويّ)، و على الرّغم من كلّ هذا كان مصير همنغواي الإنتحار. أَلَم يكن (جوركي) شيخ دعاة التفاؤل في أعماله؟ لكنّ مراسلاته مع (تشيخوف) تُزيحُ السّتار عن شخصيّة كئيبةٍ و متشائمة(إنّي فَظٌّ ثقيل الظّلّ و نفسي مريضة لا يُرجَى لها شفاء)، بل إنّه أطلق الرّصاص على صدره في(كازان).
يُقتَل صوني برصاصةٍ في الرّأس يُطلِقُها عليه اِبنُ مَن قَتَلَهُ قبل 8 سنين، ثمّ يظهر و هو مُسَجّى في التابوت، و جميع مَن كانوا يُصانِعونَهُ بصدد الخَوض في مواضيع ليس صوني بطلها و لا حتّى كُومبَارْسَها، و كأنّه الدكتاتور حين يسقُط، أو المَركِب حين تهجره الجرذان إذا ما بدت عليه إرهاصات الغَرَق، فينوب (c) عنه بقول جملته و لكن مع إضافةٍ طفيفة(لقد كان صوني مُحِقّاً، لا أحد يهتمّ). يحضر لورينزو و يخاطب جثّة صوني باحترامٍ و توقير، فيعلّق (c) على ذلك (لأوّل مرّة تكون مخطئاً يا صوني بقولك لا أحد يهتمّ)، الدرس المستفاد هنا هو أنّ النّقد لا يعني البُغض.
بموت صوني يتعلّم (c) الدّرس، و لكن موت صوني ليس إلاّ قصّة تُضاف إلى قصص أهل منطقة البرونكس، كما يقول (c). فيا تُرى متى يتعَلّم الشعب؟




https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن