الجزء الثانى من التقرير السياسى لحزب العيش والحرية المصرى

سعيد ابوطالب
sshmsaid@gmail.com

2016 / 8 / 15

عامان على حكم السيسي (2) - القضاء شريكًا في الحكم والعدالة تدفع الثمن
حزب العيش والحرية·MONDAY, AUGUST 15, 2016
التقرير السياسي الصادر عن الجمعية العمومية لحزب العيش والحرية-22 يوليو 2016
عامان على حكم السيسي...مع نظرة خاصة على الاقتصاد والقضاء
ثانيا- القضاء شريكًا في الحكم والعدالة تدفع الثمن

لم يكن لمشروع السيسي السلطوي أن يقطع ما أنجزه من خطوات بدون استناده إلى دعم ومعاونة جماعات نشطة أوسع قليلًا من نخبة صنع القرار الضيقة المشكلة من كبار ظباط الجيش ومسئولي "الأجهزة السيادية" الذين يعج بهم قصر الإتحادية. فالسيسي يستند إلى "ائتلاف سياسي" إن جاز التعبير حتى ولو لم يكن ائتلافًا حزبيًا بالمعنى المتعارف عليه للكلمة؛ أي جماعات قادرة على تجميع وتمثيل عدد من المصالح والرؤى والمطالب والتفاوض بشأنها من داخل نفس المشروع السياسي المهيمن. ومشروع السيسي كما فصلنّا في تقاريرنا السياسية السابقة يتشكل حول عنوان عريض هو "استعادة الدولة"، والذي يمثل في جوهره طبعة مهجنة من الليبرالية الجديدة أكثر محافظة وسلطوية مما ساد خلال السنين الأخيرة من عهد مبارك. هذا الدور السياسي الموكول للأحزاب عادةً في الديمقراطيات، أو حتى بعض السياقات السلطوية، تقوم به في حالتنا جماعات تعبر عن فئات مهنية أو إجتماعية تقوم بالوساطة مع نخبة صنع القرار الضيقة للحصول على امتيازات لتلك الفئات في مقابل كفالة الرضاء السلبي لجمهورها، أو المشاركة الفعالة إن لزم الأمر في تأييد نخبة الحكم، إلى جانب قيامها هي نفسها بمهمات نوعية تتفاوت درجة أهميتها في المشروع الحاكم. هي جماعات ذات هوية مزدوجة إذن، فهي جزء من نخبة الحكم ولكنها كذلك تلعب دور الجماعات النقابية في نفس الوقت، وتغدو مع الوقت نخبًا مكتملة التكوين تحوز لمصلحتها نصيبًا أعلى بما لا يقارن من تلك المنافع والمزايا التي تتوسط بشأنها. وكما أشرنا في تقاريرنا السابقة كذلك، فقوام هذا الائتلاف الحاكم يتشكل من نخب رأسمالية وعسكرية وأمنية وبعض النخب البيروقراطية والإعلامية إلى جانب نخبة قضائية متميزة للعب أدوار مختلفة تصب كلها في مسار مشروع الليبرالية الجديدة المهجن.

هنا يشكل مشروع السيسي استمرارية وقطيعة مع نهج مبارك في الحكم خلال زمنه الممتد، بل ومع نهج الحكم القائم منذ يوليو ١٩٥٢ وحتى الآن. فمن حيث الاستمرارية، فقد تأسس منذ نهاية الخمسينيات نمطًا لتمثيل المصالح يقوم على استبدال المجال السياسي المفتوح لصياغة المصالح وتمثيلها بصيغة من العلاقة المباشرة مع نخبة صنع القرار عبر تنظيمات إدماجية هرمية غير تعددية ينتظم فيها المواطنين إجباريًا وتمثل المجال الوحيد المسموح للتفاوض بشأن التوزيع أو أولويات السياسة العامة. من ضمن أمثلة هذه الكيانات الاتحاد العام لعمال مصر ومختلف النقابات المهنية القائمة حاليًا. و بينما ضمنت النجاحات المحدودة لنموذج التحديث الرأسمالي السلطوي على الطراز الناصري قدرًا من الحيوية لهذا النمط من التمثيل، أدت الأزمة المالية والإقتصادية الممتدة إلى تحوره ليصبح نموذجًا قائمًا على ضمان انتزاع أكبر قدر ممكن من المكاسب من السلطة المركزية أو توليد فوائض مالية خاصة بهذه الفئة أو تلك والخضوع لأقل قدر ممكن من الرقابة أو المحاسبة في المقابل. تحولت تلك الهياكل والحال كذلك إلى ما يشبه الإقطاعيات غير الخاضعة لأي قدر من الرقابة؛ أما استقلالها المزعوم، فهو في الحقيقة محض تخارج من مجال الرقابة الشعبية. وتعد حالة ما يعرف باقتصاد الجيش مثالًا كاشفًا في هذا الشأن. كذلك الحال مع المؤسسات الدينية الرسمية والمسيحية وعدد أكبر من الجهات البيروقراطية. في هذه الأمثلة انخرطت النخب المتميزة داخل هذه الفئات في عملية انتزاع مساحات من الاستقلالية التامة سواء في شكل اقتصاد غير خاضع للرقابة كما في حالة الجيش أو في صيغة كوادر مالية خاصة وصناديق لا تخضع للرقابة بدورها. وفي المقابل دافعت هذه النخب بشراسة عن هرمية تلك التنظيمات النقابية ووحدتها النافية للتعدد والتي تشكل بحد ذاتها مبرر وجود لها ولأوضاعها المتميزة.

محصلة هذا النمط من صياغة وتمثيل المصالح هو مزيد من الانهيار المهني في أداء هذه الفئات، وهو انهيار لم تولي له نخبة صنع القرار بالًا يذكر إذ كانت تندفع باتجاه آليات السوق غير المنظمة تحت وهم أن تنتج هذه الآليات بحد ذاتها فئات اجتماعية جديدة تسند مشروع نخبة الحكم في المستقبل وتسمح بتشكيل ائتلاف سياسي جديد. بهذا المعنى ترافق التحول لاقتصاد السوق بمزيد من انهيار حكم القانون وتآكل الثقافة المدنية الديمقراطية داخل مؤسسات الدولة على العكس من أوهام مؤسسات التمويل الدولية كالبنك والصندوق الدوليين، ناهيك عن تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية التي أدت إليها هذه السياسات بالأساس. أما مظاهر اختلاف الائتلاف الحاكم الحالي مع ائتلافات مبارك فتتمثل بالأساس في غياب حزب واحد يشكل أحد مسارات عملية التفاوض تلك وتعديل محتوى السياسات الليبرالية الجديدة باتجاه تدخل أكثر كثافة لقطاعات رسمية في تفعيل عملية التحول الرأسمالي نفسها، وعلى رأسها الجيش بالطبع، وهو ما يسمح بدور أوسع للفئات المتميزة الوسيطة داخله.

ومن أحد أهم أوجه الاختلاف عن مبارك هو زيادة الاعتماد على النخبة القضائية في عملية الحكم بشكل غير مسبوق. والمفارقة أنه بينما حظي دور النخب العسكرية والأمنية بكثير من الاهتمام والدراسة، إلا أن دور النخب القضائية مازال لم يُستكشف بشكل كاف بعد. وربما يعود هذا التجاهل النسبي للافتراض الذي سيطر على المعارضة الديمقراطية زمنًا طويلًا أن القضاء بالمجمل هو مؤسسة تتمتع بمستوى من المهنية والاستقلال، بالمعنى الإيجابي للكلمة، خصوصًا عند تصدي وجوه معروفة من القضاة لمواجهة السلطة التنفيذية في ٢٠٠٦ للمطالبة بقانون جديد يضمن استقلال السلطة القضائية ويحد من تدخلات السلطة التنفيذية في أعمال القضاء. إلا أن الدور الحالي للنخبة القضائية في التعاون مع السيسي في حصار كافة أشكال التعبير المدني الديمقراطي في المجتمع وتدعيم سلطوية غير مسبوقة في طابعها القمعي لم يكن تحولًا مفاجئًا ناتج عن تواطؤ مجموعة محدودة من القضاة، بقدر ما إنه نتاج ميراث طويل من العلاقة مع نخبة الحكم لم يشذّ عن نمط تمثيل المصالح السابق شرحه. وكانت معركة ٢٠٠٦ والحال كذلك هي تعبير عن محاولة تعديل هذا النمط باتجاه مزيد من التخارج عن الرقابة الشعبية والمحاسبة أكثر من كونها معركة ديمقراطية الطابع.

فمنذ الصدام الشهير بين عبد الناصر ونادي القضاة في عام ١٩٦٩ و هو الصدام الذي تجاوزه السادات سريعًا في إطار انقلابه على المجموعة القوية المحيطة بسلفه في ١٩٧١، تشكلت نخبة قضائية متميزة تلعب الدور المزدوج ذاته الذي لعبته غيرها من الفئات كشريك في الائتلاف الحاكم ووسيط بين نخبة صنع القرار والجماعة القضائية الأوسع. وتراوحت أدوار هذه النخبة بين المعاونة التشريعية لصياغة توجهات النخبة الحاكمة الجديدة باتجاه اقتصاد السوق المقترن بشكل من التعددية الحزبية المقيدة، وتحصين هذه التوجهات نفسها من المنازعة القضائية، خصوصًا أمام المحاكم العليا والدستورية منها على وجه الخصوص. فكافة التوجهات الجديدة للنخبة الحاكمة تم تحصينها دستوريًا في سلسلة من الأحكام الشهيرة التي أقرت بدستورية تحرير العلاقات الإيجارية في المساكن مثلًا عام ١٩٩٦ أو في الأراضي الزراعية عام ١٩٩٧ وكذلك تحصين قانون قطاع الأعمال العام الذي أطلق عملية الخصخصة عام ١٩٩٣ وغيرها من قوانين ضرائب مختلفة خلال فترة التسعينيات. وفي المقابل، جرى التغاضي التام عن احترام أي قواعد مهنية في التعيين أو الترقي إلى الحد الذي انتهى بالقضاء إلى ما يشبه الطائفة المغلقة على نفسها عبر توريث المناصب القضائية بالأساس. وانعكس ذلك على تدني الأداء المهني لغالبية القضاة والذي رصدته وجوه النخبة القضائية قبل غيرها خلال هذه الفترة.

ما ينبغي التشديد عليه أن هذا التعاون لم يكن وليد تواطؤ أو خيانة بقدر ما كان تلاقي موضوعي شجّع عليه ميل النخبة الحاكمة للتحلل من التزامتها المالية كما سبق الذكر وميل الجماعة القضائية لاقتناص أوسع مساحة استقلال ممكنة في سياق اجتماعي ضاغط ويفتقر لأي آليات أخرى لصناعة وتمثيل المصالح. وأفاد هذا التقارب من الميل المحافظ العميق لعموم القضاة تجاه منظومة العلاقات الاجتماعية القائمة في مصر. هذا الميل المحافظ لا يقتصر فقط على بعض المواقف المعروفة من حقوق وحريات المرأة مثلًا، وعلى رأسها المعارضة الشديدة لتعيين المرأة في المناصب القضائية، أو الموقف من الحريات الدينية وحرية التعبير فيما يتعلق بتلك القضايا، ولكنه يمتد كذلك للموقف من الحقوق والحريات السياسية لعموم المواطنين. فعلى الرغم من سيادة رؤية أكثر انفتاحًا بالطبع لنطاق هذه الحقوق وضماناتها من رؤية النخب الأمنية والعسكرية الحاكمة، إلا أن هذه الرؤية القضائية ظلت محكومة بأسقف أكثر انخفاضًا بكثير مما تظن المعارضة الديمقراطية. وإذا ما وضعنا جانبًا عددًا من الأحكام المهمة والمؤسسة لعدد من المحاكم العليا بشأن ضمانات المحاكمة العادلة مثلًا، والتي سعت للحد من تدخلات السلطة التنفيذية في أعمال القضاء بالأساس، فهذه المحاكم نفسها وغيرها تبنت تاريخيًا مواقف شديدة المحافظة بشأن مضمون وضمانات حقوق التجمع والتعبير والتنظيم السلمي بداعي الحفاظ على النظام العام والأمن القومي والآداب العامة. وهي دواعي وحجج دائمًا ما تستخدم للمصادرة على أي حراك جماهيري يهدف لمسائلة أو تعديل أو تجاوز أشكال التفاوت الإجتماعي المختلفة التي يعج بها البناء الاجتماعي في بلدنا. ويشمل نفس الميل المحافظ كذلك الموقف من قضايا الملكية والسياسات الإقتصادية والتي كانت مواقف القضاء منها في الكثير من الأحيان على يمين النخب الحاكمة المتعاقبة، وهو الموقف الراسخ الذي سمح بمزيد من التعاون مع تلك النخب عند تحولها باتجاه اقتصاد السوق ثم الليبرالية الجديدة.

هذا الميل المحافظ وليد النشأة التاريخية للجماعة القضائية، والقانونية بشكل عام، في مصر والتي حاذت وضعها المتميز بفضل التحول الرأسمالي البطئ منذ بداية القرن العشرين بقدر ما ساهمت في دعمه وصياغة وجهته وتسريع وتيرته. وهو تحول تم كما هو معروف على حساب الغالبية الساحقة من المواطنين وبثمن تثبيتهم على هامش المجال السياسي على اعتبار أن توسيع وتعميق دائرة مشاركتهم يعني بالضرورة تهديدًا للنظام الجديد الهش للعلاقات الإجتماعية الصاعدة. واقترنت التجربة الإشتراكية القصيرة في الحقبة الناصرية – على محدودية أفقها- في وعي الجماعة القضائية بتراجع مكانة القضاة بل وتدمير معاشهم ونمط حياتهم نفسه كما تشي تجربة "مذبحة القضاة" في ١٩٦٩ السابق الإشارة لها. ومن ثم اختزن الوعي القضائي هذه الخبرة وأعاد انتاجها وتوريثها للوافدين الجدد للمهنة وترسخت قناعة مفادها أن أي تحول جذري يستهدف تعديل تركيبة العالقات الإجتماعية القائمة يمثل بالضرورة تهديدًا لاستقلال القضاة ومكانتهم الإجتماعية.

هذا التعاون الوثيق مع مبارك ونخبته بدأ يشهد توترًا واضحًا مع الاندفاع باتجاه الليبرالية الجديدة في مطلع الألفية والتي أفادت منها فئات اجتماعية قديمة وأخرى جديدة واستطاعت جماعات مهنية أخرى أن تؤمن بفضلها استقلالًا غير مسبوق بشئونها. ولّد هذا الوضع توترًا داخل الجماعة القضائية لم تستطع نخبتها القائمة استيعابه وبلورته وهو ما سمح لبعض القضاة المنتمين لجماعة الإخوان أو القريبين منها في توظيفه وإكسابه مظهرًا أكثر جذرية من حقيقته. لا ينبغي أن ننسى أن احتجاجات القضاة في عامي ٢٠٠٥ و ٢٠٠٦ قد تمحورت حول مطلبين أساسيين هما ضرورة إقرار الموازنة القضائية رقمًا واحدًا في الموازنة العامة للدولة على ألا تناقش في الجلسات العامة للبرلمان ونقل تبعية التفتيش القضائي من وزارة العدل إلى مجلس القضاء الأعلى. جرى الترويج للمطلبين، على طريقة "ولا تقربوا الصلاة" كضمانة لاستقلال السلطة القضائية في مواجهة السلطة التنفيذية وهو قول حق يراد به باطل في الحقيقة إذ أن الاستقلال عن السلطة التنفيذية يجب أن يقترن بمزيد من الرقابة الشعبية الممثلة في السلطة التشريعية. كل ما هو دون ذلك يعني تخارجًا للمؤسسة من أي التزام ديمقراطي واستقلالًا بشئونها في مواجهة السلطة التنفيذية وفي مواجهة المجتمع بأسره أسوة بالجيش والشرطة. والحقيقة أن الدعوة لرفع مؤسسة القضاء لمكانة الجيش والشرطة كانت مقولة محورية سادت في الجمعيات العمومية لنادي القضاة خلال تلك الفترة العاصفة في دلالة واضحة أن جوهر الاحتجاجات كان متعلقًا بالدفاع عن مكانة متميزة متوهمة للقضاة وسعيًا لاقتناص مساحة أكبر من الاستقلال المالي في نظام سياسي يتجه للتفكك بخطى متسارعة. أما كل المطالب المتعلقة بمراجعة سن تقاعد القضاة مثلًا أو إلغاء الندب والإعارة بالكامل وليس فقط نقل تبعية هذه القرارات لمجلس القضاء الأعلى فقد تم دفعها لذيل قائمة المطالب ولم ترفع إلا على استحياء ومن قبل بعض القضاة الاستثنائيين كالمستشار هشام البسطويسي. ناهيك عن أن مطلب فتح المناصب القضائية أمام المرأة أو ضرورة وضع قواعد شفافة ومهنية للتعيين في تلك المناصب عمومًا هي مطالب لم تطرح من الأصل. لا ننكر هنا أن أثرًا ديمقراطيًا قد تولد نتيجة هذا الصدام بين الجماعة القضائية وبين نخبة مبارك الحاكمة، ولكن هذا الأثر الديمقراطي لا يعني أن طابع هذا الحراك نفسه كان ديمقراطيًا.

في هذا السياق، استقبلت الجماعة القضائية ثورة يناير بوصفها فرصة لتجديد دماء نخبتها وإعادة التفاوض بشأن استقلالها مع نخبة صنع القرار الجديدة دونما إخلال بنفس الصيغة الموروثة من زمن مبارك المتعلقة بصناعة المصالح وتمثيلها. وعلى هذا الأساس كان التعاون مع المجلس الأعلى للفوات المسلحة عبر تقديم الدعم والمشورة والتواطؤ في ملف محاكمات رموز نطام مبارك وصياغة عددًا من التشريعات القمعية المبكرة، كقانون منع الاعتصامات والإضرابات في صيف ٢٠١١ منطقيًا. هذه الفترة كذلك هي التي شهدت إعادة تجديد الثقة بأحمد الزند وزمرته كممثلين للجماعة القضائية والتمسك بالنائب العام السابق عبد المجيد محمود. كانت الجماعة القضائية لا تناصب المشروع الديمقراطي الذي فتحت ثورة يناير أفقه العداء ولكنها لم تكن من أشد المتحمسين له كذلك.

إلا أن التفاعلات الناتجة عن الانهيار السريع في مؤسسات الحكم وضعت النخبة القضائية في مهب ضغوط قادمة من اتجاهات مختلفة منذ صيف ٢٠١١. فالجماعات الديمقراطية الصاعدة سرعان ما بدأت تشهر أصابع الاتهام في وجه القضاء على خلفية التواطؤ الواضح في ملف المحاكمات، في حين أن جماعة الإخوان المسلمين بدورها سرعان ما بدأت مناوشاتها مع القضاء خوفًا من دور محتمل قد تلعبه تلك المؤسسة في عرقلة سيناريو وصول الجامعة لمقاعد الحكم. ومن خلف جماعة الإخوان كان هناك جمهور التيار الإسلامي الذي يرى في المؤسسة القضائية المستقلة والمغلقة على نفسها والتي تحوذ بالرغم من ذلك قدرًا معتبرًا من النفوذ حائلًا بينها وبين نموذجها السلطوي في الحكم المتمثل في استبداد الأغلبية. وهنا انتقلت النخبة القضائية ومن خلفها غالبية الجماعة القضائية من خانة الحياد في علاقتها بالقوى السياسية الجديدة – الديمقراطي والسلطوي منها- إلى خانة العداء الصريح للجميع. واتخذ هذا العداء أشكالًا مختلفة سواء داخل قاعات المحاكم، كما حدث في قرار حلّ مجلس النواب وحلّ الجمعية التأسيسية والتواطؤ في ملف محاكمات رموز نظام مبارك ثم البدء في قلب طاولة الاتهام لتطول قادة هذه القوى الجديدة أنفسهم واتهامهم بتدبير أحداث قتل المتظاهرين أو فتح السجون خلال أيام الثورة الأولى، أو خارج قاعات المحاكم كما حدث في التأييد الصريح والخفي لأحمد شفيق مثلًا في انتخابات الرئاسة أو شن الهجوم المتواصل على هذه القوى عبر المنابر الإعلامية المختلفة.

تفاقمت الأزمة كذلك نتيجة منهج جماعة الإخوان منذ وصلوها لمقاعد الحكم في ٢٠١٢ والذي سعى إلى صدام مفتوح مع الجماعة القضائية بوصفها الحلقة الأضعف في سلسلة خصومها والتي شملت الأجهزة الأمنية بالأساس وقيادات المؤسسة العسكرية وبعض جماعات الرأسمالية المتعاونة معها. هذا الصدام الذي بدأ بأزمة الإعلان الدستوري كان يهدف إلى إنزال هزيمة سريعة بالنخب القضائية في حين أنه سعى لتحييد باقي خصومه أملًا في تأسيس تحالف سلطوي معهم أكثر رسوخًا في المستقبل لم يكن ليتم إلا على حساب المشروع الديمقراطي نفسه. وما رفعه الإخوان من شعارات في هذه المعارك المتتالية مع الجماعة القضائية كان أيضًا حقًا يراد به باطل كالدعوة لخفض سن التقاعد، والذي لم يكن يهدف إلا للتخلص من خصومهم داخل المؤسسة القضائية واستبدالهم بقضاة موالين للجماعة. بل وصلت المهزلة حدها مع تفصيل نصوص خاصة في دستور ٢٠١٢ لا تهدف إلا لاستبعاد شخصيات بعينها من تشكيل المحكمة الدستورية العليا. هذا النهج السلطوي الغبي أثبت فشله الذريع سريعًا بل وعجّل بمهمة التخلص من الإخوان إذ أن صدامهم الدائم مع الجماعة القضائية الذي اتخذ أبعادًا شخصية وسلطوية واضحة، كان مؤشرًا لباقي خصومهم أن الجماعة غير مأمونة الجانب وأن وجودها في السلطة هو مصدر دائم لعدم الاستقرار كما يفهمه ويعرفه أولئك الخصوم. فانتهى الأمر بمزيد من التحالف والتعاون الوثيق بين النخبة القضائية والنخبة الأمنية العسكرية إلى الحد الذي تحولت فيه النخبة القضائية لشريك رئيسي في عملية عزل مرسي في ٣ يوليو ٢٠١٣بل وانتهى الأمر برئيس المحكمة الدستورية العليا رئيسًا مؤقتا للجمهورية. ومن هذه النقطة اُفتتح فصل جديد من فصول التعاون بين نخبة صنع القرار الأمنية- العسكرية وبين النخبة القضائية: فصل كانت العدالة هي أول وأهم ضحاياه.

انتزعت النخبة القضائية منذ هذا التاريخ عددًا غير مسبوق من مطالبها المؤجلة منذ ٢٠٠٦. فاستطاعت أخيرًا أن تؤمن مطلبها الأثير وهو ميزانية الرقم الواحد في دستور ٢٠١٤ وتوسع تعريف الهيئات القضائية ليشمل هيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية بكل ما يرتبه هذا التوسع من منافع. كما أمنت كذلك مطلبها الخاص بنقل تبعية التفتيش القضائي لمجلس القضاء الأعلى. واستطاعت المحكمة الدستورية العليا أن تستقل بشئونها بشكل كامل على صعيد الاختيار كما استثنت نفسها بنجاح من تطبيق قانون الحد الأقصى للأجور. واستطاعت بنجاح أن تستبعد أي حديث عن كل ما يتعلق بإصلاح أحوال القضاء المهنية إن على صعيد قواعد التعيين أو الندب أو سن التقاعد، واكتفى الدستور بإشارة إلى ضرورة سن قانون ينظم عملية الندب خلال دورة الانعقاد الأولى لمجلس النواب الحالي.

في المقابل، اتخذ التعاون المذكور منذ يوليو ٢٠١٣ وحتى الآن أشكالًا ثلاثة مترابطة ومتداخلة على مستوى المحاكمات، وإدارة شئون الجماعة القضائية وعلى مستوى التشريع. على صعيد المحاكمات لم تأل الجماعة القضائية جهدًا في التنكيل بخصوم النخبة الحاكمة الجديدة، أو بخصومها هي، عن طريق التلاعب في تشكيل الدوائر أو تشكيل دوائر خاصة لمحاكمات أقرب ما تكون بالمحكامات الميدانية وهي المعروفة بدوائر مكافحة الإرهاب، وأحكام الإعدام بالجملة بخلاف الأحكام المغلظة بحق طيف واسع من النشطاء الديمقراطيين. هذا بخلاف العمل بتناغم غير مسبوق مع النيابة العامة والشرطة للعصف بأبسط قواعد العدالة الجنائية والحق في المحاكمة العادلة بدءًا من قبول محاضر ضبط وتحريات وتحقيقات لا ترقى للحد الأدنى من الضمانات التي تمسكت بها هذا الجماعة في السابق وحتى عقد المحاكمات في أكاديميات الشرطة. أما على صعيد السيطرة على الجماعة القضائية نفسها، فقد شهدت الأعوام الثلاثة ما يمكن تسميته بمذبحة ثانية "صامتة" للقضاة عن طريق إحالة العشرات من القضاة للصلاحية. شملت المجموعة المحالة عددًا كبيرًا من القضاة المعروفين بانتمائهم أو تعاطفهم مع جماعة الإخوان إلى جانب عدد آخر أقل من القضاة غير المتعاونين بما فيه الكفاية مع النخبة المتميزة الجالسة على قمة الهرم القضائي.

أما وجه التعاون الثالث، وهو الأخطر، فيجري على صعيد التشريع. فما كان للتحلل من ضمانات المحاكمة العادلة أن يجري دونما تعديلات قانونية تسمح بهذا التعسف في التعامل مع المتهمين. لدينا هنا عدد من التعديلات لقوانين العقوبات والإجراءات الجنائية أو تشريعات جديدة عصفت بالحد الأدنى من الضمانات الدستورية لحريات التعبير والتنظيم والتجمع كقانون الإرهاب والتظاهر وإضافة المادة ٧٨ في قانون العقوبات الخاصة بالتمويل الأجنبي. هذا بخلاف تولي مهمة التشريع بشكل شبه كامل خلال غيبة البرلمان الطويلة عبر لجنة الإصلاح التشريعي المشكلة من قبل السيسي، والتي ما زالت تعمل بالمناسبة حتى الآن على الرغم من تشكيل مجلس النواب، أو عبر نخبة قضائية في مجلس الدولة. هذا الالتفاف على عمل السلطة التشريعية يوائم بالطبع ميل السيسي للعمل خارج أي مؤسسات مدنية ديمقراطية يكن لها الرجل احتقارًا عميقًا. هذا التداخل غير المسبوق بين مهمات التشريع ومهمات الفصل في الدعاوي يضرب مبدأ الفصل بين السلطات في مقتل ويلقي بظلال كثيفة على نزاهة القضاء. لم يعد الأمر متعلقًا إذن بتدخلًا في عمل السلطة القضائية لتمرير أحكام بعينها ولم يعد تعاونًا من على أرضية التوافق الأيديولجي بقدر ما أصبح الموقف أن القضاة هم أنفسهم مشرعون من نوع ما. ولا يستقم والحال كذلك أن يبطلوا ما شرعوه هم أنفسهم سلفًا.

محصلة السنوات الثلاث الماضية إذن هو شراكة قضائية أصيلة في ائتلاف السيسي الحاكم تعمق من أزمة استقلال ومهنية القضاء ككل بالاقتران مع تدعيم طابعه المحافظ والطائفي. ويحمل هذا الوضع عددًا من الخلاصات المهمة لنشطاء الجماعات الديمقراطية. أول هذه الخلاصات ذو طابع برامجي وهو أن المطلب القديم الراسخ للمعارضة الديمقراطية في مصر المتعلق باستقلال القضاء يجب أن يقترن بمطلب لا يقل إلحاحًا وأولوية يتعلق بمقرطة القضاء عبر ضمان امتداد آليات الرقابة الشعبية إلى آليات عمل هذ المؤسسة الداخلي ودعم التوجهات التقدمية الحريصة على مهنية المؤسسة في نفس الوقت. هذا النضال سيصطدم بالضرورة بوجوه النخبة القضائية الرئيسية ولكنه سيجد له أنصارًا من داخل الجماعة القضائية الأوسع والتي بدأت تتحس مخاطر هذه الشراكة غير المسبوقة على شرعيتها وقبولها العام من قبل قطاعات واسعة من المواطنين وأن الثمن أكثر ارتفاعًا بكثير من أي مكاسب وقتية. لن يشتد عود هذه الحساسيات الديمقراطية داخل الجماعة القضائية ويشتد عودها دونما ضغط سياسي من خارج القضاء بهدف مقرطته وإخضاعه للرقابة الشعبية. وإلى أن يتحقق ذلك التطور من داخل الجماعة القضائية، فعلى نشطاء التيارات الديمقراطية التعامل بحذر وتحفظ بالغين عند التقرير لتظاهرات أو غيرها من الفعاليات الاحتجاجية أخذًا في الاعتبار أن القضاء لم يعد كما كان خلال السنوات الأخيرة من عهد مبارك متحفزًا لتدخلات السلطة التنفيذية في عمله، بقدر ما أصبح شريكًا لهذه السلطات بل ويسبقها بخطوات أحيانًا.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن