ممرات الفقد: فتنة الجسد وبلاغته ، مقال الناقد السوداني زهير عثمان حمد

هويدا صالح
hoidasaleh2007@gmail.com

2016 / 8 / 14

10:57 PM Sep, 25 2015
سودانيز اون لاين
زهير عثمان حمد-ï؟½ï؟½ï؟½ï؟½ï؟½ -ï؟½ï؟½ï؟½ï؟½ï؟½ï؟½ï؟½
مكتبتى فى سودانيزاونلاين



أستطاعت هويدا صالح في روايتها الأخيرة "ممرات للفقد" التي صدرت عن الدار العربية للعلوم ناشرون ببيروت بالتعاون مع نادي جازان الأدبي بالسعودية أن تصنع من فضاء الجسد محورا للسرد، ولكن الجسد هنا لم يكن بمعناه الأيروتيكي الضيق، بقدر ما كان بمعناه الأكثر رحابة، فهي تعني بالجسد في كل تشكلاته وتمثلاته، سواء الجسد الذي يمثل المتعة أو الجسد الذي يمثل الألم أو الذي يمثل الاحتواء والتحنان" كانت تئن طوال الليل من ألمها الذي لم تؤثر فيه قوة المسكن، بصوتها الواهن همست للممرضة، إديني مسكن أقوي يا بنتي، تجاهلت الممرضة رجاءها، ولما ألحت في الطلب قالت لها في حزم: الدكتور مانع يا حاجة.وتركت يدها المعلقة في ضوء الحجرة الكابي لا تقب علي شيء، أرخت أصابعها المتشنجة، ونادت علي ابنتها التي هدها التعب، فنامت علي السرير الفارغ في أقصي العنبر".
حاولت في هذا النص المفجر للأسئلة أن تكتب العلاقة بين الجسد الشخصي وجسد الآخر محاولة أن تخضع تلك العلاقة لمجموعة من المحددات المتعالقة التي يتداخل فيه الأنطلوجي بالنفسي بالأنثربولوجي: " كانت فتاة صغيرة ويد مدرس العلوم تتسلل تحت بلوزتها القطنية البيضاء الناعمة علي خلاف قمصان زميلاتها المصنوعة من" تيل نادية" بلونه الأصفر الكالح. في ذات الفصل الواسع بنوافذه العالية حيث كان يجلس تلاميذ الصف الخامس كان المدرس ينتقي كل يوم فتاة، يميل عليها وهي تذهب إليه مرتعشة وخائفة من تعليقاته الحادة. كان يخط خطوطا حمراء ومزعجة علي إجابات الصغيرات، وينتقي الفتاة التي يريد ويهمس لها: لا تنصرفي مع الصغار حين يدق جرس الخروج".
حاولت هويدا صالح أن تكتب بلاغة الجسد دون أن تقع في فخ الإحساسات الذاتية من جهة ونظرة لآخر لهذا الجسد من جهة أخري. حاولت أن تكشف صمت المجتمع عن كتابة الجسد، هذا الصمت الذي يتحول أحيانا إلي ضرب من الكذب لا يسرد من علاقة الذات الأنثوية بجسدها إلا ما يكون في خدمة مقاصد الثقافة الذكورية المتمثلة في تمجيد الذات الذكورية بأن تخضع الجسد الأنثوي لها بطرق شتي ! وهكذا يتحول خطاب الجسد منذ البدء إلي خطاب إيديولوجي عاقل ينطلق مسبقا من كون الكتابة وسيلة للانتصار بهذه الذوات التي تتحول بفعل الثقافة إلي مجرد آلات للمتعة.
حاولت الكاتبة أن تكتب علاقة الذوات بالجسد، تلك العلاقة الغامضة التي تبدأ مع البنت منذ أن تتعرف علي هويتها النفسية وهي صغيرة لا تكاد تبين لها ملامح أنثوية وحتي وفاتها، مرورا بكل الاختبارات التي تكشف عن طريقها الأنثي الأنثربولوجية الطوطمية، فداخل كل طفلة جين طوطمي يعود للعصور السحيقة التي كانت فيها الأم هي التي تسود العالم، فالخريطة النفسية للنساء تحمل داخلها هذا الجين الأنثربولوجي بحفرياته العتيقة. لذا جاءت كتابة الجسد لدي هويدا صالح أكثر عمقا من فكرة الأيروتيك التي تسم كتابة بعض النساء حين يحاولن أن يكتبن الجسد.
ولا شك أن اختيار هذه الحالات الإنسانية التي تعاني من ضروب الفقد وتجلياته تؤكد علي رغبة الكاتبة في أن تعري المجتمع بثقافته التي تعاني من العنصرية والتهميش لكثير من مكوناته الثقافية، وتمثل من ناحية أخري تطور الرؤية، رؤية العالم لدي الكتابة النسوية التي تذهب نحو ما هو مجتمعي وتنتصر له أكثر مما هو ذاتي: " قالت لماذا يكون القدر قاسيا هكذا ويأخذها هي الضاجة بالحياة ويترك عجوزا مثلي.واصلت ابتلاع الدموع وإزاحتها لحلقي، وقلت: جسدها الغض سيظل نضرا وشابا في الأعالي، ولن يذبل، ولن تحتاج لأن تعتني به. قالت وكأنها لم تسمع كلماتي البائسة: ظللت أرعاها ثلاثة وعشرين عاما. كانت تكبر أمامي كل يوم، تزداد صخبا وحياة. وحين تسلل الورم الخبيث بعيدا عن عيوني لم أنتبه لخلاياه النهمة وهي تلتهم خلايا جسدها الصاخب. لم تكن يد القدر رحيمة كفاية لتنبهنا مبكرا للخلايا الجائعة وهي تتضخم. وكأننا عميان يقودهم عميان".
تتشكل كل رحلة من رحلات الفقد التي تخوضها الشخصيات في الرواية في نسيجها الحكائي والفكري من ضربين من المعطيات المرجعية: المرجعية الذاتية من حيث هي بؤرة اختيار تجليات الفقد وتعبيرها عن الفقد الروحي والفقد الجسدي، ثم التركيز علي بعضها وتقديم عناصرها الوجدانية المرجعية الاجتماعية للشخصيات المتحكمة في مسارات الممرات، ليغدو العنوان الذي فرض دلالاته علي الرواية أحد أهم عتبات ومفاتيح قراءة هذا النص المترع بالشجن والوجد معا: " دخل الرجال ليأخذوا الجثمان بعد أن ألبستها فستاناً أبيض تلي وعطرتها بعطرها، وقبلت رأسها في هدوء وقالت لها: مع السلامة يا حبيبتي سآتيك قريبا لا تخافي. الرجال ينتقدون الأخ الذي طاوع أمه، ويصرون علي أن ما يحدث ضد الشريعة، لكن في النهاية وضعوها في الصندوق الخشبي وأدخلوها سيارة دفن الموتي. وقفت الأم الملتاعة في الشرفة تنظر بابتسامة وفخر علي الجموع الكثيرة التي تجمعت حول الجثمان وقالت بفخر: زفة بنتي مفيش زيها. قلت لها تغمدها الله برحمته، فهمست في تضرع: يا رب. بينما كنت احاول أنا أن أبدو متماسكة أمامها كانت هي تمسك بعطر الفراق وتحكم القبض عليه".
إن المفارقة الأساس التي تخضع لها الرواية هي عدم إدانة هويدا صالح للرجل في كل معاناة النساء، بل الإدانة الصريحة للثقافة التي تنال من المرأة والرجل معا، فالرجل هو الآخر يخضع لقهر الثقافة. إن هذه الرواية صرخة حقيقية في وجه ثقافة التهميش والنيل من إنسانية البشر والعنصرية التي يمارسها الناس ضد بعضهم البعض. لا شك أن الرواية تسعي لبناء وعي نقدي لكثير من مرجعياتنا المعرفية التي تدفعنا أن ننال من إنسانية بعضنا البعض. إن القهر في كثير من الأحيان هو ابنة الثقافة وليس مقصورا علي الرجال، لذا قد تمارس المرأة القهر ضد المرأة، فأبو الساردة الرئيسية في النص يحنو عليها ويرفض ختانها، لكن الأم هي التي تصر علي الختان بحجة أنها تحميها وتحمي سمعة العائلة. تضع الساردة في ممر ضيق للألم وهي ما تزال صغيرة لم تتعرف علي جسدها بعد، فتقتطع من جسدها جزءا يحرمها من المتعة بقية حياتها: " نادتني أمي، وأمسكتني في حضنها .خلعت العجوز ملابسي . أجلستني أمي في حجرها، وضغطت عليّ بفخذيها. لفت ذراعها اليسري حول الجزء الأعلي من جسدي مطوقة ذراعي، ووضعت يدها اليمني علي فمي .ألم عظيم ينطلق بين فخذي .. أحاول الصراخ .. كف أمي تكممني .. أحاول أن أقبض بأسناني علي كفها . لا أفلح . أغيب عن لحظتي . ولا أفيق إلا علي سرير أمي بملاءته الحريرية، ومخدة كبيرة موضوعة بين ساقي حتي لا أضمهما . وخالتي تأتي بالطعام، وتهنئ أمي بأول عرس لي" .
تفيد هويدا صالح في هذه الرواية من تقنيات القصة القصيرة وتقنيات قصيدة النثر، بل وتقنيات السينما، فنجدها تقوم بتقطيع الفصول إلي مشاهد وكادرات تارة، وإلي سرديات تقترب من روح القصة القصيرة تارة أخري، وإلي نصوص شعرية تتحصل علي كثير من شعرية الرؤية وشعرية اللغة تارة ثالثة، لكن المحصلة النهائية التي يحصل عليها القارئ متعة ووعي ومعرفة ونص مشحون بطاقات شعرية كثيفة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن