بوادر الإنفراج لأزمة الليبية وأهمية المصالحة

عيسى مسعود بغني
bagni3@yahoo.com

2016 / 8 / 2

المتابع للشأن الليبي والدولي اليوم يلاحظ بوادر إنفراج للأزمة الليبية، ليس بسبب توافق السياسيين أو يأسهم من تعارض مصالحهم الشخصية والجهوية، وبالتأكيد ليس بسبب ضجر العسكريين من القتل والتنكيل وزج الشباب في أتون الحرب، والتعامل معهم كمرتزقة على أرضهم، بل أن الفاعلين الدوليين وعلى راسهم الولايات المتحدة قد حزموا أمرهم لدفع الفرقاء شاؤوا أم ابوا نحو حل سياسي يحقق الحد الأدنى من مصالح تلك الدول، ولا يمنع ذلك فرض الإستقرار على دولة تتقاذفها أمواج المراهقة السياسية والغباء العسكري دون تعقل.
رغم أن الايطاليين والفرنسيين والإنجليز هم الأقرب جغرافيا والأكثر تأثرا بالحالة الليبية إلا أن الفاعل الرئيس هي الولايات المتحدة، تلك الدولة التي ألت على نفسها تقويض الحكم البائد في سنة 2011م، وهي المعروفة بمناصرة البنك المركزي الليبي (السلطة المالية والإقتصادية والنقدية الوحيدة في البلاد)، وهي التي سمحت بتصدير النفط من ميناء الحريقة (عقر مجلس النواب وحفتر) وكذلك من حقل البوري البحري لصالح المؤسسة الوطنية للنفط، وأوقفت التصدير لصالح جضران أو لصالح المؤسسة الموازية، وكانت لقواتها أفريكوم عين ساهرة لرصد تحركات داعش، وهي اليوم تستكمل الأمتار الأخيرة لتحرير مدينة سرت من الدواعش، بتنفيذ ضربات جوية دقيقة قادمة من بوارج أمريكية رابطة في البحر المتوسط.
أمريكا لم تقم بذلك فقط فهي التي أوقفت قوات الشروق من الدخول إلى سرت عندما لم ينضج الحل، وهي التي قامت بتحييد دولة قطر من دعم بعض الأطراف الليبية وسنرى قريبا تحييد كل من مصر والإمارات، وهو ما أحس به جضران (عضو الحركة الوطنية) فدخل اللعبة وسنرى حفتر على منواله يقتضي.
يبقى السؤال ما مصير المجموعات السياسية والمجموعات المسلحة الخارجة عن الإتفاق مثل مجموعة الكثلة الوطنية وقوات الكرامة، وما مصير أصحاب المطالب الجهوية مثل الفيدراليين في الشرق الليبي، وأصحاب المطالب الفئوية مثل الرقم الوطني للمستوطنين من سكان الجنوب، ومطالب المتشددين الإسلاميين لتكوين إمارة لهم. المشاكل السابقة لم تحسم بعد بسبب عدم وجود دستور وعدم وجود إتفاق على شكل الدولة الليبية، وتبقي مطالب فئوية يمكن أن تحل بالحوار مستقبلا.
للأسف أن الحلول السياسية في المجتمعات المنقسمة طوليا أي القبلية والجهوية (وغير منظمة في أحزاب منضبطة)، هذه الحلول ليست الضامن لنهاية الصراع بين الجماعات، فالموقعون على الإتفاق يتم تقييمهم على مدى المكاسب الجهوية والقبلية، وبذلك قد يكونوا أبطالاً تقدم لهم الزهور والنياشين عند البعض، ويكونوا صعاليك منبوذين عند أطرف آخرين في المجتمع، وهو ما نراه في بنغازي حاليا، فالمواطنة آخر معايير التقييم عند الجهويين والقبليين.
إن الضامن الوحيد والحل السليم لمشكلة تشظي المجتمع كما في الحالة الليبية هو المصالحة الوطنية، ولقد سيلت أنهارا من الحبر وعقدت ندوات كثيرة للإشادة بأهمية المصالحة الوطنية، بل ولقد تم تشكيل مجلس أعلى للمصالحة وعشرات المجالس المحلية التي تعتني بموضوع المصالحة، إلا أن جهودها تقتصر على إطفاء الحرائق بعد حدوثها، بل أخفقت في إخماد بعضها كما في بنغازي ودرنة.
وتعود إخفاقات المصالحة إلى أمرين أساسيين؛ أولاهما أن الشعب الليبي لم يمتلك يوما ثقافة الحوار منذ قرون عديدة، والمجال لا يسمح بالسرد، وفي ظل الحكم الدكتاتوري كان الوفاق والإتفاق يفرض فرضاً، فلا إختيار في ذلك، فمثلا المشاكل على الأراضي بين كباو وتيجي، وبين الجميل وزوارة، وبين التبو والزوية، وبين زليتن ومصراته، وبين الطوارق والغدامسية، وبين الزاوية والزهراء وبين الزنتان والجرامنة، وبين الزنتان والمشاشة، تم تصفيتها في حينها وفرض حلول قوة وسلطة الدولة دون معارضة من أحد. بعد ثورة السابع عشر من فبراير وجدت بعض المجموعات المسلحة أنها في حل من تلك الحلول المفروضة من الدولة، فكان التهجير والقتل وإغلاق الطرق والتصفية العرقية والإستحواذ على الممتلكات العامة والخاصة، (وليس كما يدعي البعض إلى تقسيم الشعب بين مؤيد ومعارض للتغيير)، وهذه جميعها تحتاج إلى جهد جبار لإرساء قواعد جديدة للتعايش بين أفراد المجتمع.
الأمر الآخر أن أسلوب المصالحة يتم على الطريقة الليبية؛ أي إجتماع ذوي القبعات البيضاء من طرفي النزاع بمساندة طرف ثالث على موائد دسمة وتبادل أطراف الحديث، يتخلل ذلك فرض الحل (صوريا دون أليات) تنتهي الجلسة بقراءة الفاتحة وتعهد الطرفين على نسيان الماضي وفتح صفحة جديدة. هذا الأسلوب يؤدي قطعا إلى رفض المتضرر للإتفاق ولو بعد حين، وإستمرار العداء والإنتقام، وتتكرر الإجتماعات الفاخرة دون فائدة تذكر، فالصُلح المنقوص لا يجدي نفعاً بل يودي إلى زيادة العنف وتغول المجموعات الخارجة عن القانون، فمثلا صلح كتيبة الحلبوص مع جيش القبائل لم يؤدي إلا إلى غلق الطريق الساحلي والجنوبي لطرابلس وعزل أكثر من 100 مدينة وقرية عن العاصمة ناهيك عن مئات الإنتهاكات للمجموعات الخارجة عن القانون.
لا شك أن للمصالحة شروط وقواعد ضامنة للنجاح والتي سارت عليها العديد من الدول التي واجهت إنقسام مجتمعي كالذي حدث في ليبيا، ومن هذه الدول المغرب، وجنوب أفريقيا والبوسنا وإسبانيا بعد الحرب، ولكل من الدول السابقة طريقة للمعالجة، إلا أن القواعد الأساسية تتمثل في الخطوات الآتية:
1. كشف حقيقة الإنتهاكات كما هي دون تهويل ومعرفة مبرراتها، فمثلا مشكلة تاورغا يجب وصفها كما حدثت، وبالمثل للمشاكل الأخرى.
2. تحديد المسئوليات، بحيث يتم محاسبة الأفراد عما إقترفوه، ومرؤوسيهم عن إعطاء الأوامر، حتى لا يكون هناك مسئولية جماعية أو عقاب جماعي.
3. جبر الضرر، بتعويض المجني عليه، وفي هذه الحالات يكون التعويض من الدولة، والقصاص العادل من الجاني المقترف للجريمة. ومن نافلة القول (بلا تعميم) أن العائدين الليبيين من المهجر في فترة المجلس الإنتقالي 2011-2012م، لم يفكروا في التشظي المجتمعي وجبر ضرره، بل إقتصر عملهم على سن قانون لجبر ضررهم من الحكم السابق (إن كان ) بمئات الألاف من الدينارات ثم عادوا إلى مهجرهم مواطنين غربيين بعد أن قاربت ليبيا على الإفلاس من تصرفاتهم.
4. تحقيق المصالحة برضاء المجموعات المتخاصمة ونهج طريق السلام والوئام بين أفراد المجتمع.
إن المصالحة الفعالة هي المصالحة التي تنشر العدالة والمساواة والسلم الأهلي وتنطلق من هدي الشرائع السماوية وعلى رأسها الشريعة الإسلامية، وتتخذ من المواثيق الدولية نبراساً لها مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والقانون الإنساني وغيرها من قوانين الحريات المدنية الكفيلة بنشر ثقافة الحوار، وثقافة إدارة الإختلاف بين أفراد المجتمع.
بالمثل ليست المصالحة بالجري وراء الحلول بأي ثمن والقبول بها بلا بصيرة، فالله حاور الشيطان ولم يوافق على عذره فأخرجه من عداد الملائكة، وسيدنا موسى حاور فرعون ولم يقتنع بحججه فحاربه، وعارض أخيه هارون على مهادنة السامري، والنبي محمد حاور قريش ورفض عروضهم، وهكذا فالحوار يجب أن لا يتوقف، إلا أن المصالحة لن تعقد إلا على ثوابت وطنية منها: رفض الرجوع إلى حكم العسكر ورفض الظلم والقمع، ورفض إحتكار السلطة من جهة أو قبيلة، والعمل على إنشاء دولة مدنية ديموقراطية يملؤوها العدل والمساواة، ويعيش الجميع بكرامة. كما أن المجرمين والخارجين عن القانون والعابثين بقوت الليبيين وعملاء الدول المعادية يجب أن لايحققوا مأربهم تحت مظلة الحوار والمصالحة بعد أن خسروا ذلك في ساحات الوغى.
إن المصالحة التي تأخرت كثيراً كانت لها عواقب جمة، منها حروب لم تتوقف في بنغازي ودرنة وتشريد لمئات الألاف من أبناء بنغازي وسرت وتاورغا وخسارة الإقتصاد الليبي لأكثر من 100 مليار دولار من عوائد النفط سواء من حقول المنطقة الوسطى أو من حقول الشرارة والفيل والحمادة في المنطقة الغربية، وغياب المصالحة هي التي زرعت داعش وقامت بتمويله وجعلت التخلص منه زهق لمئات من الأرواح من الشباب في عمر الزهور، وغياب المصالحة أقفلت الطرق وزعت الخوف، وأججت الثأر الجاهلي في نفوس الكثيرين، "فالصلح خير".



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن