حول التبعية والتحرر

راجي مهدي
ragymahdy@yahoo.com

2016 / 7 / 28

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كان واضحا أن الاستعمار في صورته القديمة، غير قادر على البقاء. فقد تعاظم كفاح الشعوب من أجل طرد الجيوش المحتلة. واتسمت تلك الفترة بنهوض حركة تحرر وطني وصلت لأوج عظمتها بنهاية الستينيات.

لم يكن وجود تلك الجيوش الاستعمارية في المستعمرات، كالجيش البريطاني في مصر والهند هدفا في حد ذاته، وما أن تعاظمت تكلفة بقاء تلك الجيوش على أراضي ضحاياها، حتى أخلتها. أخلى الاستعمار جيوشه لكنه كان قد ضمن أن مستعمراته ستظل طيعة، خاضعة لضروراته التوسعية. فقد تم تحويل تلك البلاد المستعمَرة إلى مصادر للمواد الخام الرخيصة، والأيدي العاملة المتوفرة بلا ثمن، والأهم أنها أسواق واسعة لتصريف الإنتاج. من ثروات المستعمرات، استطاع الغرب عمل تراكم رأسمالي ضخم، في إطار انقسام العالم إلى شمال وجنوب. بتدمير كل صناعة ناشئة في الجنوب، نمت صناعات الشمال. وحين خرجت جيوش الاستعمار، لم يخرج الاستعمار نفسه، لأن التبعية ترسخت في أراضي المستعمرات. تم ربط المستعمرات باقتصادات المستعمِرين.

إن التبعية في أساسها اقتصادية. وما أن خرجت الجيوش حتى حلت محلها المؤسسات الدولية على غرار صندوق النقد والبنك الدوليين، وهيئة المعونة الأمريكية. وكان واضحًا منذ البداية أن دور تلك المؤسسات هو ترسيخ حالة التبعية. فقد قاوم الصندوق في وصفته المشبوهة المشؤومة، كل محاولة لتعويق قوانين التبعية. كافح الصندوق ومن ورائه معسكر الاستعمار القديم كله، المعسكر الإمبريالي، ضد إجراءات الحماية التي اتخذتها كل دولة طامحة لإحياء صناعتها الوطنية. كافح الصندوق ضد تحديد سعر الصرف، ضد القطاع العام، ضد تدخل الدولة في الاقتصاد وضبط الأسواق.

هل سمعت عن انسحاق عملتنا الوطنية أمام الدولار؟ إنها نتيجة منطقية لحالة الانفلات التي رسخها الصندوق في استكماله لمسيرة قرون من الاستعمار. فمصر ممنوعة من تحديد سعر صرف لعملتها، ممنوعة من ضبط تجارتها الخارجية، ممنوعة من فرض إجراءات حمائية لصناعتها، ما تبقى منها إذا أردنا الدقة. وبالتالي، باستثناء محاولة عبد الناصر الجادة المناضلة، ظلت مصر رهن تقسيم العمل الدولي، رهينة، سوقًا لمنتجات الصناعة الغربية، وظلت أداة الغرب للسيطرة على هذه المنطقة باعتبارها سوقًا واسعة، وبوصفها مخزنًا جبارًا للمواد الخام. ظلت مصر محرومة من أن تكون كيانًا وطنيا، وظلت مطالبة بأن “تنفتح” أكثر فأكثر في إطارات كالعولمة وغيرها، التي هي تجسيد، ستار لأحط أشكال الاستعمار الجديد.

الاستعمار الجديد؟

منذ الأزل، كان الاقتصاد في حركيته الدائمة، أساس كل تغير شهده العالم. في القرن الماضي قامت حربان عالميتان من أجل اقتسام الأسواق والمواد الخام. وبعد أن استنفدت الرأسمالية إمكانية اكتشاف أراضٍ جديدة، أي نهب شعوب أخرى وإجبارها على الارتهان والخضوع لها، أصبح الضواري يتصارعون لاقتطاع مساحات من نفوذ بعضهم البعض. وليس ما تشهده منطقة الشرق الأوسط سوى استمرار لصراع اللصوص فيما بينهم. وقد كافح الإمبرياليون دوما ضد كل من تجرأ على غلق حدوده الوطنية في وجه بضائعهم وثقافتهم. فالرأسمالية المأزومة دوما، والتي ضاقت عليها الأرض – أظن أن سعيهم لاكتشاف كواكب مأهولة لا يدفعه سوى البحث عن الأسواق – لم تعد تتحمل فكرة أن هناك شبرًا واحدًا في الأرض لا تصله بضائعها.

إن الهوة التكنولوجية التي دوما ما يتحدثون عنها، ليست إلا نتاج إرث طويل من التبعية. فكما قلت تم بالقصد حصر نشاط المستعمرات في إنتاج المواد الخام، الزراعية بالأساس، وحرمانها من أبسط أشكال العمليات الأولية على تلك المواد. ولأن التطور التكنولوجي ليس منفصلا أبدا عن التراكم التاريخي، ولأن هذا التراكم التاريخي تم إيقافه، فقد ظللنا أسرى لهم. وقد حاول عبد الناصر كسر الحلقة، مستعينا بالسوفييت الذين كانوا قد قطعوا شوطًا جبارًا، فاستهدف إقامة قاعدة صناعية في قلبها كانت الصناعات الثقيلة، كنواة لكل تطور ممكن. وليس هذا مجال ذكر الحرب الشرسة التي تعرضت لها مصر من أجل حرمانها من جديد من إمكانية التحرر. ولكن الحقيقة أن عبد الناصر كان قد آمن وامتلك الرغبة في التخلص من هذا الإرث الاستعماري العفن. إن هذه الرغبة ليست فردية، بل هي مرتبطة بالانتماء الطبقي للسلطة.

إن فشل تجربة مصر في الستينيات قد أفضى مباشرة إلى صعود ذلك الجناح من البرجوازية المصرية الذي طالما ارتبط بالإمبريالية. ذلك الجناح الذي ما زال يحكم مصر حتى الآن، البرجوازية الكبيرة، الكمبرادورية على وجه الدقة، التي تخطاها التطور التاريخي، وفقدت كل فرصة للعب دور في تطور مصر، وهي ترى وتؤمن بأن دورها هو وكالة الرأسمالية في مصر، نهب ونقل مقدراتنا للخارج، الاستمرار كجندي دنس في خدمة أسياده الإمبرياليين. إن الكمبرادور المصري لا يمكنه امتلاك الرغبة ولا القدرة على التخلص من ارتباطه المشين بالإمبريالية، يرجع ذلك إلى السياق التاريخي الذي نشأت فيه البرجوازية المصرية أساسًا، وبالتالي فإن التحرر من التبعية لا يمكن أن يتم على أيدي عملاء إمبرياليين منذ النشأة، ومن قبيل الزيف الاعتداد بدور يمكن تلعبه الشرائح الكمبرادورية الحاكمة.

في مقولة الصراع بين الشمال والجنوب يجب التركيز على نقطتين محوريتين. أولاهما أن بقاء سطوة الإمبريالية، بقاء الإمبريالية ذاتها، أي بقاء هيمنة الشمال مرتبط أبدا ببقاء ارتهان الجنوب لضرورات أزمة الإمبريالية المتنامية أبدا. أي أن الصراع ضد الشمال، ضد الإمبريالية لأجل إسقاطها يبدأ محليا بقطع علاقات التبعية بين الجنوب والشمال، حرمان الشمال الإمبريالي من الأسواق والمواد الخام، لأجل تركيعه. النقطة الثانية والتي يدور حولها الزيف الأعظم، هي أن الصراع كان وما زال وسيظل طابعه طبقيا، ولا يعني تشابكه مع الوطني باعتبار أن التحرر من التبعية هو الوسيلة الوحيدة لإعادة تأسيس الكيان الوطني لدول الجنوب، لا يعني ذلك أن التناقضات الطبقية داخل مجتمعات الجنوب يجب أن يتم تأجيلها. إن الوطني والطبقي في جدلية دائمة، أي أن حل القضية الوطنية لا يمكن حلها في معزل عن حل التناقض الطبقي. إن تدمير قيود التبعية هو الخطوة الأولى في تدمير الإمبريالية، لأنه يعني حرمان الإمبريالية من مجالها الحيوي. والإمبريالية في نهبها، حكمها للجنوب ترتكز على شرائح الكمبرادور، البرجوازية المحلية. إنها تحكم عبر تلك الطبقة العميلة بطبعها. بالتالي فإن حل تناقض الجنوب مع الشمال لصالح دول الجنوب، شعوب الجنوب، لا يمكن أن يتم من خلال تحالف الضحايا مع نهابيهم، لا يمكن أن يتم بوحدة طرفي التناقض. فالبرجوازية المحلية وسيدها الدولي هما أحد طرفي التناقض، أما الطبقات الشعبية فهي الطرف الآخر، لذا فإنه كي تحسم الشعوب تناقضها مع أعدائها، يجب عليها أولا حرمان العدو من رأس الجسر، أي حرمان الإمبريالية من تابعها المحلي. إن إسقاط برجوازيات دول الجنوب هو الطريق الوحيد لإسقاط الإمبريالية.

إن التحرر يبدأ بمعاداة كل ما هو أجنبي من بضائع، فرض إجراءات حمائية لما تبقى من قطاعات الصناعة المحلية التي تنازع الموت، تحديد صرف سعر العملة المحلية، استئصال القطاع الخاص ودعم قطاع الدولة. باختصار، إلقاء روشتة صندوق النقد الدولي في الوحل. وهو ما لن تُقدِم عليه البرجوازية المحلية التي تحيا لخدمة سيدها، الذي رباها.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن