نوستالجيا الحنين ، وتلك الابتسامات التي غادرها الفرح

سارة بيصر
sara.besar2012@gmail.com

2016 / 7 / 2

منذ أيام وقفت أنتظر المعدية الصغيرة التي سأعبر بها للضفة الأخرى للنهر لأمارس رياضة المشي على الممشاة الطويلة المؤدية إلى ملتقى البحر المتوسط بنهر النيل، بعيدا عن صخب هذه الضفة ، بمقاهيها المنتشرة على طول الطريق ، كان هذا المشهد مكررا كثيرا في حياتي (وقفة الانتظار ، وتلك الأعين المصوبة ناحية الضفة الأخرى ترقباً لظهور المعدية ، الشمس المبهجة التي تعانق بنورها ودفئها الكون ، وتلقي بظلالها الذهبية على سطح الماء ، تلك النسمات الشقية التي تداعب بلطفٍ الوجوه ، وتتمايل معها أغطية شعر وتنورات البنات ، مراكب الصيادين التي تنمو وتنتشر كزهرات اللوتس فوق مياة النهر ) ، ما غاب عن المشهد أنني كنت هذه المرة أقف بمفردي ، دون أن تكون معي صديقتي التي ظلت لسنوات تشاركني تلك الطقوس قبل سفرها . لكن ، على الرغم من غيابها بقي طيفها حاضراً في ذهني ، ويأسرني حنيني إليها ، ويلون الفقد فؤادي بالشجن .
وفي مواجهة تلك المقاعد المتراصة في الساحة الممتدة أمام المسجد الكبير بالمدينة توقفت ، صوبت نظري عليها ، ذهبت بعيداً إلى الجالسون عليها معي منذ زمن ، استحضرت المشاهد بعمق :

(1)

تلك الصديقة التي كانت بنكهة الأم ، والتي رافقتني في بداية حياتي الأدبية ، تعرفنا في الزمن الذي حمل زخم المنتديات الأدبية ، بما كانت تحويه من أدباء ومفكرين ، قدماها أخيراً تطأ موطني ، وأمام تلك الساحة كتب اللقاء ، لاح كل منا للآخر من بعيد ، تسارعت خطانا ، جرينا نحو بعض لنستبق الزمن ، تعانقنا بحرارة ، وعلى قرب وقف شاب فارع الطول ، يصور المشهد ، نظرت إليه نظرات تحمل كثيراً من الدهشة ، فنظرت إليّ بعينين دافئتين ، وقالت : إنه ابني .
مضت أيام زيارتهما كالنسيم المعطر بأريج الفرح ، صنعنا أجمل اللحظات ، سافرنا ، ضحكنا ، واصلنا الليل بالنهار ، وتوجنا تلك الأيام بإكليل من نور فوق عرش الذاكرة .
وحان وقت الوداع ، فانتفضت قلوبنا ، وتعلقت عيوننا ببعض طويلاً رافضةً الفراق ، حتى تحركت الحافلة ، والتهمها الغياب .
مرت سنوات على تلك الأيام ، وكلما عصفت بنا الأيام ، وأثقلتنا المحن ، انتابنا الحنين ، انتظرنا حتى يسنح لنا القدر بفرصة للقاء ، نخط حروفها بمداد السعادة . لكنها ، لم تأت . كرهنا المسافات والبعاد ، يأسنا أحيانا ، وأملنا أحيانا أخرى . لكننا ، في جميع الأحوال كنا قد أصيبنا بنوستالجيا الحنين لتلك الأيام من الماضي ، والتي تصيب البشر في أحياناً كثيرة في ظل عجز واقعهم عن تكرار الحوادث السعيدة ، وفي ظل ضغوط الحياة وروتينها اليومي حيث لا يجدون متنفساً سوى الحنين لحوادث سعيدة من الماضي ، وتعليق فرحهم على تكرار حدوثها .
أذكر أنني نقلت يوماً إلى مدرسة جديدة في مدينة لم آلفها من قبل ، حيث كنت أشبه بطائر غريب حل وسط سرب من الطيور المتشابهة التي بينهم لغة وطبائع مشتركة لا يفهمها، فظل متوجساً وحذراً ، بينما هم انقضوا عليه لاكتشافه ، بشكلٍ رآه انتهاكاً لخصوصيته وحريته ، فقد كنت مغرمة وقتها بالقراءة ، وكان هناك ثمة تفتيش يومي من هؤلاء الفتيات الفضوليات في أدراج مقعدي بالمدرسة ، حيث كنت أحتفظ بكتبي ، وحاجياتي ، كان هذا الأمر يثير غضبي ، وولد لديّ هذا الوضع الجديد المرتبك حنين إلى الماضي ، إلى تلك المدينة القديمة التي ترعرعت فيها في طفولتي ، وقد كان حنيني إليها يملأ مسامات وجداني .
بحرها الأزرق كعينين فتاة منذورة للربيع ، جبالها الرملية المتدلية فوق جبينها كضفائرٍ ذهبية ، وزهور اللوز البيضاء التي كانت تكمل بهاء زينتها .
رائحة أشجار البرتقال التي كانت تزورنا مع النسيم في مواسم النضج والحصاد ، أشجار الصفصاف بزهوره الصفراء الصغيرة التي كنا نلعب في ظلالها في فناء مدرستي السابقة ، ونكهة أشجار الكافور النفاذة التي كانت تملأ أنفي كلما مررت من أمام ذاك المعسكر القديم للجنود الإنجليز . كانت كل هذه الأشياء تتشكل أمامي من جديد ، وتنمو في فضاءات روحي ، فأتماهى معها ، رغم البعاد .
وكنت أوقن أن لكل مدينة رائحة ، كما الزهور فإنه لكل منها عطر يميزها .
ولقد كان لتلك المدينة رائحتها المميزة لديّ ، التي كانت نفحات أنفاسها في أي مكان وزمان ، كفيلة بأن تثير ذاكرتي نحوها .
ولم يكن حنيني فقط لطبيعة ورائحة تلك المدينة ، لكن ، كان حنيني للود والوئام الذي كان فيها يسري في كل ذرة من ذرات روحي ، لهؤلاء الصديقات والأصدقاء الذين تركتهم ورحلت ، لجيراننا بهوياتهم وأصولهم المختلفة ، كنت أستحضر (دينا) صديقة طفولتي بداخلي بقوة ، أستحضر روحها وابتسامتها في كياني ، وأكتب لها رسائل أحدثها فيها عن أحوالي ، وعن ما أعانيه في المدرسة الجديدة ، عن إحساسي بالغربة ، وتصرفات هؤلاء الفتيات اللائي يضايقني أسلوبهن ، كنت أعرف جيداً أن تلك الرسائل لن تصل إليها ، فقد كانت رسائل لا قِبلة لها ولا عنوان ، فدينا هي الأخرى رحلت لمدينة غير التي جمعتنا في طفولتنا ، وانقطعت أخبار كل منا عن الآخر، لكني ، كنت أحاول أن أهرب من هذا الواقع المؤرق لمتنفس في عالم جميل عشته ومضى، وفي نفس الوقت كنت أواجه هؤلاء الفتيات الفضوليات بانزعاجي منهن ، حين كانت تقع في أيدهم – عن تعمد مني- تلك الرسائل وهن يمارسن عادتهن في تفتيش أدراج مقعدي بالمدرسة ، واستمتع وانا أستمع لتهامساتهن ، وهن يحكين عن ما أقولهن عنهن في رسائلي ، دون أن يقدرن على مواجهتي .

(2)

صديقتي الكورية التي رافقتني سنتين من حياتي في العمل ، وفي الشارع ، في تنزهاتنا ، في البيت ...
أجلس أنا وهي على أحد تلك المقاعد ، نجهز كلمات تليق بوداعنا ، تخبرني أن سفارة بلدها تقوم بتخفيض عدد رعاياها العاملين بمشاريع في مصر بعد الأحداث التي تلت الثورة ، وأنه طلب منها المغادرة .
قلت لها محاولةً اظهار التماسك: هذا إجراء روتيني حدث بعد الثورة الأولى ، ولم يستمر سوى ثلاثة أشهر ، ثم عاد الجميع ، لابد وأن الأمر سيكون هكذا .
قالت : أتمنى هذا .
وانتابتنا لحظات صمت وحيرة، قطعتها يداها الممتدة إليّ بهاتفها المحمول ، وصوتها الذي يطلب مني أن أسجل لها كلمة بصوتي وصورتي تتذكرني بها ، وتراني حين تشتاق إليّ في الغياب .
مددتُ يدي وأخذت منها الهاتف ، حاولت أن ألملم صوتي المبعثر ، أعدتُ رسم ابتسامتي ، وتهيئة ذهني لإعداد ماذا سأقول .
كان صوت الصمت أقوى بداخلي من صوت الكلام ، (فللصمت تاريخ بحجم كل ما قيل من كلام ، فيه يحدث كل شيء ، فيه نحيا ، نحدث أنفسنا ،نرتب دواخلنا ، نبني الحدث القادم ، في الصمت أيضا نموت ، ندفن آلامنا وشكوكنا . في الصمت مهلة لترتيب الحب داخلنا ، لتفعيل قوى السكون والهدوء ، يجب أن ننصت لما تحكيه الريح على عتبات الخريف ، وما تحكيه النوارس للفنار، هناك في عمق السكوت الطويل رداء ضد الثرثرة العابثة والفراغ) *
لم تسعفني كلماتي المنهكة ، إلا لتقول لها : سأشتاقك عزيزتي ، أتمنى لكِ التوفيق والسعادة .
أما صمتي فقال لها أحاديث وأحاديث ، قال لها :
أتعرفين أنني أحبك كثيراً ، وأنكِ كنت من عوضتيني فقداني للأخت في حياتي ، فأنا لا أتصور حياتي من دونك ، بعدما ستفصل بيننا هذا الكم الهائل من البلدان بتضاريسها وبحارها ومحيطاتها .
وعلى الرغم من تماثل أعمارنا ، إلا أنني كنت أعشق عنايتي بكِ كابنتي ، فأنا لم أكن أشعر يوماً بالسعادة وأنا أطهو الطعام ، إلا عندما كنت أعده لتشاركيني إياه ، وأنني لم أشعر أن للمسقعة يوماً جمالاً ، إلا لأنك أحببتي مذاقها .
أه لو تعرفين ، كم سأفتقد ابتسامتك ، وتلك العينين الصغيرتين اللتين أعشقهما .
سأفتقد جنوني وانطلاقتي التي لم تجد طريقها إلا معك ، حين كنا نسير في تلك الليالي الشتوية الهادئة ، نضجّ بحكايانا وضحكاتنا صمت الأرصفة ، ونوقظ نجوم الليل الهاجعة .
أعرف أنه كان يغمرك الحنين لأسرتك ، وحبيبك الذي تركتيه هناك ورحلتي ، أذكر جيدا أنك حدثتيني عن مرارة البعد والفراق ، وسطوة الحنين ، قلتي لي : أن لا أفكر مطلقاً في مغادرة بلدتي وأسرتي ، حتى لو من أجل الحب ، لأن حنيني إليهما سيستبد يوما بقلبي .
أخشى أن تحول الأزمة السياسية دون عودتك .
أشعر أن الطرقات ستكون باردة من دونك ، وأن عالمي سيتغير ، وقلبي سيتواري في غيامات الشجن ، سأشتاقك كثيراً ، سأشتاقك بحجم السماء ، وسأنتظرك حتى تعودين .
......

الانتظار :

هو ذاك الشعور الذي يجعلنا نعد الأيام والشهور والسنين ، نرتقب الذي نظن أنه سيأتي ، نعلق لحظات فرحنا عليه ، غير آبهين بغبار السنين الذي يتراكم فوق أعمارنا وقلوبنا فيفقدها بريقها ، أو بأحلامنا المؤجلة المرهونة على أبوابه .
ومشاعر الانتظار تتوائم في أحياناً كثيرة مع مشاعر النوستالجيا، أو ذاك الحنين للماضي ، للغائب الذي نرجو وننتظر عودته لتحل على يده كل المشاكل ، وترتسم البسمة على شفاه قلوبنا .
وقد تكون حالة النوستالوجيا المقرونة بالانتظار حالة فردية تصيب الفرد ، وقد تكون حالة جماعية تصيب جزءً من المجتمع الإنساني ، وإن اختلفت في طبيعة المُنتظر. لكن ، الفكرة تظل واحدة .
فهناك جماعات إنسانية مذهبية أو عرقية ظلت تنتظر لآلاف من السنين ، ليأتي منتظرها الغائب ، ويعيد لها مجدها وسعادتها ، كما أن هناك أفراد ظلوا ينتظرون عمراً كاملاً ليأتي هؤلاء الذين تعلق بهم القلب ، وهام بوجدهم الشعور .
فالمنتظرون هم بعدد سكان الكون ، وبعدد تلك القلوب التي أنهكها التمني . فلكل من الناس منتظره ، ولكل منهم قصته التي أدخلته في هذه الدائرة ، بعد موجات (الفراق ، الرحيل ، الوداع) التي تغرق شواطئ أيامنا ، مخلفةً ورائها تلك الابتسامات التي غادرها الفرح ، المرسومة على الشفاة دون أن تمتد جذورها للقلب فتلونه بألوان السعادة ، بدلاً من ألوان الفقد الذي توشح بها ، ودقات الانتظار .
فمازلت أذكر ذلك الشاب (ابن صديقتي) الذي كان ضجيجه يسبقه ، وتعليقاته الساخرة تثير الدهشة ، وابتسامته تملأ وجهه . لكن ، ابتسامته على الرغم من اتساعها إلا أنها ابتسامة غادرها الفرح ، وأنه على الرغم من ضجيجه إلا أن عينيه صامتة كبحر يحمل أوجاع مدينة غارقة حلت بها النكبات ، فقد كانت نوستالجيا حب قديم في حياته يتغذى على سعادة روحه ، ويُطفِئ ألوان البهجة في قلبه .
ولقد كانت نوستالجيا الحب بداخله مليئة بكل التناقضات ، حب وكره ، وأناشيد فر ، وذكريات عشق ، وطعنات غدر ، وأصوات أبواق انتقام ، وناقوس حنين يدق في ذاكرته ، يأبى أن يتركه للنسيان .
ذاك الحنين الذي يجعلنا لا ننسى ، ونحيي ما مات من مشاعرنا وذكرياتنا لنبكي من جديد فوق أطلالها .
لكن ، هل لهذه الابتسامات التي غادرها الفرح من سبيل لتنير وترتسم في القلب من جديد ؟!
حياتنا بالتأكيد ليست سهلة بما يكفي ، فهناك المنغصات والعقبات ، وهناك قلوبنا التي ضجت بالخيبات والخذلان ...
لكني ، أؤمن أن الله منحنا الفرح ببذخ ، السماء التي تتلألأ بالنجوم مؤنسةً ليالينا ، وذاك القمر الساهر يعزف سيمفونية الجمال ، ويلقي بظلاله الساحرة على سطح البحر ، تلك الزهور المتوجة بالندى ، والتي تلونت أثوابها ، وتعطرت بأريجها الآسر ، وعانقت النسمات . كل المنمنمات الصغيرة في هذا الكون مفعمة بالجمال ، وكفيلة بأن تمنحنا البهجة .
لكننا نحتاج فقط إلى أن نتعود أن ندلل أنفسنا ، أن نقول لها : كم هي جميلة وقوية ، وبامكانها أن تحيا سعيدة ، دون أن تعلق سعادتها على الانتظار ، أيً ما كان ما تنتظره .
فأجمل الأيام التي سنعيشها هي يومنا الذي نرسم خطوطه ونلون لوحته بأيدينا ، هو ذاك اليوم الذي سنقرر فيه أن نستمتع بيومنا ، ونكسر كل الحواجز التي بداخلنا ، والتي وضعت حولنا فحالت بيننا وبين إشراقات شمس الفرح في قلوبنا ، لكي ينير كل ما أطفئ بداخلنا ، ويحيا فينا كل جميل كانت تمتلكه أرواحنا .



* من رواية نوستالجيا الحب والدمار للكاتب المغربي السعيد الخيز




https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن