الإعلانات السياسية وصراع الاستيراتيجيات في سورية

غياث نعيسة

2005 / 12 / 6

القوة المهيمنة والايديولوجية السائدة؟‏
ترافقت الحرب الانجلو-امريكية على العراق ومن ثم احتلاله وسقوط بغداد في 9 نيسان/ أبريل 2003 ‏بحملة تهديدات شديدة من المسؤولين الامريكيين (بوش، رامسفيلد ورايس ..) ضد النظام السوري. ‏واليوم، يمكن القول، دون ان نرتكب خطأ كبيراَ في التقدير، ان احتلالاً امريكياً "مريحاً" في العراق، كان ‏دفع بالولايات المتحدة الى حسم سريع لبقاء النظام السوري (انظر بول ماري دو لاغورس، لوموند ‏دبلوماتيك، تموز/ يوليو 2004). ولكن الصعوبات الجمة التي يواجهها هذا الاحتلال، ولا سيما المقاومة ‏الشرسة التي يتعرض لها، ما تزال تجعل الوضع في العراق قلقاً ومنهكاً لها. وربما يكون هذا هو احد ‏الاسباب في عدم انتقالها الى الخيار العسكري تجاه النظام السوري.
في الوقت نفسه، تتعرض بلدان المنطقة الى ضخ اعلامي وايديولوجي من الدول الكبرى وبالأخص ‏امريكا، لتسويق "مشروع الشرق الاوسط الكبير" و"لأنموذج" الديمقراطية التي تعدنا به. فـ"الثورة ‏الديمقراطية" العتيدة التي يدعو لها الرئيس الامريكي بوش في المنطقة تستند على "نموذجين". ‏الأول هو افغانستان، وهو انموذج ما يزال عقيماً وسخيفاً "لديمقراطية" امراء الحروب والعشائر". ‏والثاني هو العراق، الذي لا يمكن ان يكون، ولا بحال، أنموذجاً جذاباً للديمقراطية في منطقتنا. لسبب ‏بسيط انه بلد تم تفكيك وتحطيم القوات الامريكية لدولته، بعد ان كانت قد فككت وحطمت بنى المجتمع ‏العراقي عبر أكثر من عقد من الحصار الرهيب. وبالتالي، فان "الديمقراطية" التي تبنيها قوات الاحتلال ‏الامريكية في العراق هي "ديمقراطية" طائفية، ولأنها كذلك - كالتجربة اللبنانية - فإنها تحمل في ‏طياتها عوامل أزمة دائمة.
بالرغم من ذلك، لا بد من القول إن مجمل هذه العوامل من التواجد الامريكي العسكري المباشر في ‏المنطقة (تحت شعار محاربة الإرهاب والتي بدأت باحتلال افغانستان) اضافة الى المشروع ‏الأيديولوجي لإدارة بوش - والذي يجد جذوره لدى المحافظين الجدد وخاصة بعد انهيار الاتحاد ‏السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة - والجيوسياسي لإعادة صياغة منطقتنا، دون ان ننسى حقيقة رفض ‏او استعصاء الانظمة العربية - وخاصة السوري منها - لأي اصلاح سياسي ذو قيمة، ادت الى تبني ‏النخب العربية ومنها السورية بشكل صريح او موارب لهذه المواقف الايديولوجية. فأصبحت الليبرالية - ‏والجديدة منها - هي الايديولوجية السائدة لديها، وأصبح التغيير من "الخارج" هو الإمكانية الوحيدة، ‏ويجب التعامل معه. وأصبحت الديمقراطية، هي ماحدث في افغانستان او هي "الديمقراطية الطائفية‏‏" في عراق اليوم .. إلخ.
في سورية، صرح مثلاً احد "نشطاء حقوق الإنسان" المعروفين بخصوص احد الاعتصامات التي دعت ‏لها بعض اطراف المعارضة السورية في 10 آذار/ مارس 2004 في دمشق: "نحن نمثل 85 في المائة ‏من السكان" في إشارة منه لنسبة العلويين التي تقدر ب 15 في المائة (انظر ميكايل جاكوبسون، معهد ‏واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، 2005).
أزمة النظام السوري وازدياد عزلته:
استطاع النظام السوري خلال أربعين عاماً من إرساء أسس سلطة استبدادية ونظام شمولي، وسحق ‏خلالها كل القوى السياسية او الاجتماعية والنقابية المناهضة له، وكان الطرف المنتصر في "حرب ‏أهلية" شنها ضد المجتمع السوري. لم تصادر السلطة السورية الحقل السياسي فحسب، بل وضعت يدها ‏على الثروات، وخلقت حولها ومعها شرائح اجتماعية واسعة اغتنت من نظام للفساد مرعب. كما انها ‏صادرت الحقلين الاجتماعي والى حد ما الثقافي، وفرضت هيمنة الحزب الواحد.
وفرغت المجتمع، من خلال حرب استنزاف متواصلة، من افضل ممثلي نخبه السياسية والفكرية من ‏خلال اعتقالها وزجها لهم في السجون لسنوات طوال، او دفعها الى المنافي. لقد تم تذرير المجتمع ‏السوري بكامله وفق منظومة ولاءات ومصالح متشابكة حول طغمة حاكمة تربطها وشائج عائلية ‏وشبكة من مجموعات مصالح موالية. وبرزت في سورية طبقة "جديدة " من رجال الاعمال ‏والبورجوازييين اغتنت ونمت فقط بفضل ولائها واندماجها بالسلطة.
كانت ذروة التجلي الاستبدادي في مسار النظام السوري هو الصراع المسلح بينه وبين جماعة الاخوان ‏المسلمين والذي دام بين عامي1977 و1982 والذي قام خلاله كلا الطرفين بعملية تحشيد طائفي ‏للمجتمع السوري، ما تزال تحمل سورية آثاره. وكرس النظام السوري طبيعته كنظام بوليسي يقوم على ‏اجهزة الأمن التي اصبح عددها كبيراً (يقدر بـ 15 جهازاَ) وبصلاحيات غير محدودة، ومعياره الوحيد ‏هو مدى الولاء له.
ومع الانتقال الوراثي لسدة الرئاسة عام 2000، اعلن الرئيس الجديد بشار الاسد في خطاب القسم ‏في 17 تموز/ يوليو عن وعود اصلاحية عديدة، وساهم هذا في ارتخاء العنف الامني وشجع عدد من ‏شرائح النخبة على استعادة نشاطها واهتمامها بالشأن العام، بعد مرحلة طويلة اقتصر فيه النضال ‏المعارض والسري على عدد قليل من المجموعات المعارضة ومنظمة حقوق إنسان وحيدة (لجان ‏الدفاع ..). وانتشرت الهيئات والمنتديات في إرجاء سورية.
لكن سياسة المنع والقمع للسلطة السورية عادت سريعاً الى عادتها القديمة، وتنطح نائب رئيس ‏الجمهورية عبد الحليم خدام في شباط/ فيراير 2001 للتهديد بمنع تحويل سورية الى "يوغسلافيا او ‏الجزائر" وتلى ذلك حملة اعتقالات طالت ما عرفوا بنشطاء "ربيع دمشق" لا يزال اغلبهم قيد الاعتقال. ‏ومنعت المنتديات والاجتماعات العامة. زاد تعزيز السلطات من سياساتها القمعية، منذ ما سمي بأحداث ‏القامشلي (شمال سورية) في اذار/ مارس من العام الماضي، مع مظاهرات الاكراد. بل تتفاقم هذه ‏السياسة القمعية في الاشهر الاخيرة، لتعيد اغلاق ما تبقى من منافذ قليلة للتعبير والنشاط السلمي.
بينما جاءت نتائج مؤتمر حزب البعث الحاكم في شهر حزيران/ يونيو من هذا العام لتحبط أي رهان ‏على قدرة - او رغبة - النظام السوري في اصلاح نفسه ولو جزئياً.
هذا الاستعصاء الداخلي فاقم من اهمية وأولوية دور العامل الخارجي في "التغيير" في سورية في ‏الوعي العام، وبالأخص لدى النخب. وأضاف على عزلة النظام السوري الدولية عزلته وانفصامه عن ‏شعبه. ولكن السلطة السورية تعتقد انها بذلك تمنع توفر بديل عنها جدي ومقبول أمريكياً، هذا من جهة ‏‏. وتظن انها بهذا تكون في وضع يحسن من وضعها التفاوضي مع الإدارة الامريكية، بصفقة ما تزال ‏تأمل انها ممكنة مع الأخيرة.
الاستراتيجية الامريكية تجاه سورية:
تبدو الاستراتيجية الامريكية، وتشاركها الدول الاوربية الموقف نفسه، تجاه النظام السوري وكأنها ‏تقوم (حتى الآن، على الأقل) على مبدأ "الضغوط السياسية - الدبلوماسية المتصاعدة في شدتها مع ‏التلويح الدائم بالخيار العسكري". فقد استطاعت الإدارة الامريكية، وفي خلال الثلاث اعوام الأخيرة، ‏من تجريد النظام السوري من دوره الإقليمي، وخاصة بعد فرض انسحابه المهين من لبنان في أواخر ‏شهر نيسان/ ابريل من هذا العام. وتحاصره اليوم داخل حدود سورية وتضيق عليه الخناق.
بدأ الضغط الامريكي على النظام السوري بإقرار الكونغرس الامريكي في 11تشرين الثاني/ نوفمبر 2003 ‏‏"لقانون محاسبة سورية واستقلال لبنان"، وصادق بوش على العقوبات في 11 ايار/ مايو 2004.
واتفقت دول الاتحاد الاوربي (25 دولة) بكامل عددها على "تأجيل" اتفاق الشراكة مع سورية بتاريخ ‏‏25 ايار/ مايو 2004. وصدر قرار مجلس الامن رقم 1559 في ايلول 2004. لكن ما فاقم من ‏ازمة النظام السوري هو اغتيال رئيس الوزاء اللبناني السابق رفيق الحريري في 12 شباط/ فبراير ‏‏2005، الذي اتهم به فوراً النظام السوري، وأدى الى تشكيل لجنة تحقيق دولية برئاسة القاضي ‏الألماني ديتليف ميليس على اساس قرار مجلس الامن رقم 1595. لقد فجر عمل هذه اللجنة تماسك ‏النظام السوري وافقده توازنه، ليأتي انتحار- او نحر - وزير الداخلية السوري غازي كنعان قبل ايام من ‏اعلان ميليس لتقريره في 21 تشرين الأول/ اكتوبر 2005 الذي يتهم فيه الحكومة السورية بعدم التعاون معه ‏ويعلن عن دلائل تشير على تورط مسؤولين سوريين كبار في عملية اغتيال الحريري، فأتى قرار ‏مجلس الامن رقم 1636 بعد تقرير ميليس بأسبوع ليزيد من ورطة النظام السوري وخنقه، لأن جوهر ‏هذا القرار يعطي للجنة التحقيق الدولية صلاحيات تمس "السيادة الوطنية"، مما يعني انها أصبحت ‏ناقصة (كما حصل في عراق صدام حسين)، هذا من جهة. وأعطاها صلاحيات مطلقة للتحقيق وإصدار ‏مذكرات اعتقال بأي فرد كان، مهما كان موقعه، والمسؤولين الذين ذكرهم ميليس في تقريره يشكلون ‏‏"مركز " وقلب السلطة السورية. لهذا السبب يمكن ان نفهم ما كان يعنيه الرئيس بشار الاسد في خطابه ‏الأخير بداية الشهر الجاري (تشرين الثاني/ نوفمبر) بقوله انه - أي القرار - يقول لنا: "اقتل نفسك او اقتلك". اذن‏، فإن قبول النظام السوري بهذه الضغوط والقرارات الدولية يعني امكانية تفكيكه داخلياً. في المقابل، ‏فإن رفضه لها سوف يعرضه الى عقوبات وضغوطات اشد قد تصل الى استخدام القوة ضده، بعد إنهاكه، ‏للإجهاز عليه.
والحال، فإن الإدارة الامريكية - ودول الاتحاد الاوربي - تسعى، من خلال تشديد الحصار والهجوم ‏المتواصل على النظام السوري، وعلى كافة الجبهات، من اجل دفعه الى السقوط "كثمرة ‏ناضجة" (انظر جيو سياسية اغتيال الحريري، بوبل دو موند، بيروت، اذار/ مارس 2005).
‏ مما يدعو للقول إن سيناريو الإدارة الامريكية - والى حد ما الدول الاوربية - بالضغوط المتزايدة على ‏السلطة السورية هو سيناريو ديناميكي، حده الأدنى هو تطويع النظام السوري وإعادة هيكلته وصولاً ‏الى احتمال إسقاطه، وعلى ارضية استنزاف النظام السوري - وإفقاده - لأي هامش للمناورة ان كان على ‏الصعيد الدولي او الداخلي. وإن كان برزت مؤخراً مؤشرات على محاولة السلطة السورية شد لحمة ‏صفوفها وتماسكها، وخاصة الحلقة الضيقة لها وعمودها الفقري.
محاولات الاصطفافات:
على خلفية ما ذكر اعلاه، وفي الايام التي سبقت اعلان تقرير ميليس، صدر في دمشق في 16 تشرين الأول/ ‏أكتوبر بياناً باسم "اعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي" بتوقيع التجمع الوطني الديمقراطي (يضم ‏خمسة احزاب هي الاتحاد الاشتراكي وحزب الشعب الديمقراطي وحزب العمال العربي وحركة ‏الاشراكيين العرب وحزب البعث الديمقراطي) وتحالفين للأحزاب الكردية ولجان احياء المجتمع المدني ‏وعدد قليل من الشخصيات. وفور صدوره بسويعات اعلنت جماعة الاخوان المسلمين انضمامها وكذلك ‏فعل فريد الغادري، المقيم في الولايات المتحدة، وحزبه (حزب الاصلاح السوري) وتحالفه، وتلاهم ‏اخرون.
اثار صدور الإعلان ضجيجاً إعلامياً، وكيف لا؟ وسورية اليوم في قلب العاصفة، كما آثار، وما يزال ‏لغطاً حوله وأيدته مجموعات وتحفظت عليه اخرى وعارضه آخرون .. إلخ، لماذا؟
في الواقع، ان اول ما يثير الانتباه هو الشكل المحدود والضيق والإقصائي - بخلاف ما هو وارد في ‏نص الإعلان - لآليات الإعداد له. فأية عريضة او بيان حول الديمقراطية تحوز اليوم على ‏التوقيع "السهل" لعشرات الاحزاب والهيئات والشخصيات. وثاني الأمر، هو ان الإعلان والانضمام ‏المباشرة - بسرعة مذهلة - لجماعة الاخوان المسلمين، كشف عن كونه حصيلة توافق وتنسيق بينهم ‏مع استبعاد التشاور مع العديد من القوى والشخصيات داخل سورية.
لم يخلق هذا الإعلان التفافاً حقيقياً حوله حتى الآن. ولكنه سارع، بسبب السجال حوله، الى الدفع ‏السريع للواجهة لقضية "البديل"، كما دفع حكماً الى اعادة اصطفافات سياسية جديدة. على سبيل ‏المثال صدر في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري "اعلان حمص"، ويتضمن افق سياق ديمقراطي مختلف عن ‏اعلان دمشق وأكثر تماسكاً منه. وهذا لم يمنع حوارات اخرى تدور بين عدد اخر من القوى السياسية ‏والشخصيات لإدار اعلان ثالث يقال انه سيكون اكثر وضوحاَ وتوافقية، وربما اعلان رابع او ‏خامس.
من جهة اخرى، لا بد من القول ان نص الإعلان لم يأت بجديد، فأغلب ما ورد به من مطالب ومحاور ‏إنما هي تكرار لما كانت تطالب به العديد من الأحزاب والهيئات السورية في الداخل منذ سنوات. لكن ‏الجديد فيه هو تبني - أخيراً - التجمع لهذه المطالب، بعد ان التصقت به سمة سعيه الدائم لإرضاء كل من ‏النظام السوري والمطالب الشعبية بالديمقراطية .. لذلك فإن التحاق التجمع الوطني الديمقراطي، ‏ولو متأخراً، بالمطلب العام بضرورة "التغيير الديمقراطي الجذري" هو موقف ايجابي (انظر محمد ‏مقداد، اعلان دمشق ومأزق قواه السياسية، اخبار الشرق، تشرين الأول/ اكتوبر 2005).
من الواضح لكل مطلع على الوضع السوري، بأن جماعة الإخوان المسلمين قامت خلال السنوات ‏الخمسة الماضية بمراجعة هامة لخطابها، الذي تحول الى خطاب "ديمقراطي" وشبه ليبرالي، يقول ‏انه يعترف بالآخر ويدعو الى تداول السلطة. كما لا يخفى على احد بأن جماعة الاخوان هي اكثر اطراف ‏المعارضة تنظيماً وكفاءة ودينامية في نشاطها، حتى لو لم يكن نشاطها الخاص بارزاً حالياً داخل ‏سورية. كما انها استطاعت، وخاصة في الأعوام الثلاث الأخيرة، من نسج شبكة علاقات مع معظم ‏اطراف المعارضة السورية ودخلت الى المعادلة السياسية كطرف رئيسي فيها، بالطبع هذا لا يعني انها‏ ،أو أي حزب اخر غيرها، ذات نفوذ جماهيري، وفتحت قنوات حوار مع عدد من حكومات الدول ‏الكبرى.
لذلك يمكن القول إن صدور اعلان دمشق ليس بعيداً عن هذه المعطيات، ويجب قراءته وفقها.‏ لكن "اعلان دمشق" يعاني كنص من اشكالية اساسية، قد تكون مقصودة او فرضها الاتفاق بين ‏اطرافه، هي انه نص ملتبس في كثير من فقراته ومتناقض.
وسنعطي مثالين: الأول، تقول احدى الفقرات في الإعلان "بناء دولة حديثة، يقوم نظامها السياسي ‏على عقد جديد، ينتج عنه دستور ديمقراطي عصري .. المواطنة معياراً للانتماء" وفقرات اخرى عن ‏الحريات الديمقراطية وتداول للسلطة وانتخابات حرة ودورية.
في الوقت نفسه، نجد فقرة اخرى كانت وما تزال اساس سجال ونقد شديدين للإعلان، وهي فقرة كما ‏وردت في الإعلان توشك ان تشكك بصدقية اجزائه الأخرى. يقول الإعلان:" الإسلام دين الأكثرية ‏وعقيدتها .. مع الحرص الشديد على احترام عقائد الآخرين .."، ان يكون الاسلام بمذاهبه المتعددة ‏هو دين الأغلبية وأنه مكون اساسي لثقافتنا فهذا امر متفق عليه. ولكن ان يضع سلفاً افقاً "عقائدياً" ‏لأكثرية على اساس مذهبي في مشروعه "للتغيير الديمقراطي" يعيد الى الذاكرة التجربة العراقية ‏الجارية. وهذا بخلاف مع جاء في فقرة سابقة من الإعلان تنص على "دولة حديثة .. والمواطنة ‏معياراً". وما يعزز من هذا الميل هو استناد النص على كلمتي "نحن" و"الآخرين" المكررة في ‏العديد من فقراته. وما قد يؤكد الى استناد اعلان دمشق على فرضية انه ينطق باسم الأكثرية التي ‏دينها وعقيدتها الإسلام، ولكنه بالرغم من ذلك يمد يده للآخرين من الأقليات الدينية او القومية هو الفقرة ‏التالية: "اننا ندعو ابناء وطننا واخوتنا من ابناء الفئات السياسية والثقافية والدينية والمذهبية الى ‏المشاركة معنا ..". وهنالك امثلة اخرى على تكبيل الفقرات التي تعني بمتطلبات التغيير الديمقراطي من ‏اجل بناء تجربة ديمقراطية تقوم على مبدأ المواطنة بغض النظر عن الجنس او العرق او الدين .. بفقرات ‏ذكرنا اهمها تعكس وعياً لا يرى من إمكانية، سوى إعادة بناء سورية الديمقراطية من خلال تفاهم ‏وديمقراطية "الطوائف"، وهذا ما لا نأمله لبلادنا. ولو حصل ذلك لسبب او آخر، مثل انهيار الدولة ‏والمجتمع بعد غزو خارجي مثلاً، فأغلب الظن ان ما سيحصل سيكون اقرب لتجربة افغانستان او العراق ‏التي ستسود في "ديمقراطيتها" جيل جديد من امراء الحروب والطوائف.
المثال الثاني او "الالتباس" الآخر في اعلان دمشق يتعلق بمدى وضوح مواقفه من النظام القائم؟ فمن ‏جهة نجد الإعلان يقول بـ"ضرورة التغيير الجذري في البلاد، ورفض كل اشكال الإصلاحات الترقيعية ‏او الجزئية او الالتفافية" وتأكيد الإعلان على "اننا نتعاهد على العمل من اجل انهاء مرحلة الاستبداد" ‏.. إلخ.
في الوقت نفسه، فإن الإعلان يقول في فقرة اخرى: "ان عملية التغيير قد بدأت .. وهي ليست موجهة ‏ضد احد" ودعوته للمشاركة فيها لمن اراد من "اهل النظام".
يمكن ان نجد نفس الالتباسات تجاه قضية "الخارج" - مثال ثالث - فمن جهة يقول اعلان دمشق ‏‏"رفض التغيير الذي يأتي محمولاً من الخارج". بينما تعلن التوضيحات التي صدرت معه بأن الاعلان ‏يتوجه الى الرأي العام الخارجي "للقول إن سورية ليست قوقعة فارغة سياسياً .. وهي تتمتع اليوم ‏بوجود قوى شعبية لها تاريخ طويل في النضال الديمقراطي، جديرة بالثقة ويمكن الحوار معها".
كما تجاهل اعلان دمشق الطابع القومي للقضية الكردية، مثلما تجاهل تماماً قضية العدالة الاجتماعية ‏واعادة توزيع الثروة الاجتماعية في بلاد اكثر من نصف سكانها (ومن مختلف الأديان والمذاهب ‏والطوائف والقوميات و..) يعيشون في فقر مدقع او تحت حافة الفقر.‏
بالنسبة لنا لا يشكل اعلان دمشق سوى "لحظة" - بالتأكيد هامة - من لحظات دينامية الحراك والصراع ‏السياسي والاصطفافات الجارية في سورية اليوم. ومن الضروري التعامل معه ومع الاعلانات الأخرى ‏بروح التعاون والحوار والسجال، من اجل التوصل الى افضل توافق للقوى السياسية (اليسارية ‏والقومية والليبرالية) والاجتماعية في سورية لبناء اوسع تحالف ممكن للانتقال الديمقراطي على ‏اساس برنامج واضح ومكثف ضد العدوان والتبعية وضد الدكتاتورية ومن اجل الديمقراطية والحرية ‏والعدالة. ديمقراطية تنهض على اساس المواطنة، وفصل الدين عن الدولة، والمشاركة المباشرة ‏والواسعة والواعية للمواطنين. وأخيراً، تبقى الممارسة الفعلية على الارض هي المحك والاختبار ‏الحقيقي لأي برنامج او اعلان.
مما لا شك فيه ان الحراك العام في سورية ما يزال محصوراً على النخب، ولم تنزل الشرائح الاجتماعية ‏الواسعة بعد الى ساحة الفعل. وما تزال النخب المعارضة أسيرة صراع الإرادات والاستراتيجيات بين ‏الدول الكبرى، وعلى رأسها زعيمة الامبراطورية الولايات المتحدة، من جهة، وبين سلطة استبداية في ‏سورية، من جهة اخرى. ورهانات اغلب هذه النخب تنوس بين الاثنين.
ما ندعو إليه هو التوجه الى ‏غالبية الشعب السوري من المنتجين و المفقرين والمهمشين وصانعي الثروة والحياة والثقافة (النقابات ‏والمنظمات المهنية والمعلمين والطلبة ..)، انها المعنية الأولى بمصيرها ومصير بلادها وهي الضحية ‏الأولى لآليات القهر والاستغلال للنظام الدكتاتوري، وهي التي سيكون الضحية الأولى في أي عدوان ‏عسكري امريكي او دولي على سورية. قد يكون هذا هوالمدخل الحقيقي لما يسمى الخيار الثالث، اما في ‏حال غيابه فلا شيء يبشر الآن بمستقبل قريب مزهر لسورية. والسير على الطريق ما يزال شاقاً وصعب



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن