التشكيلة الوزارية العراقية الجديدة ... مدخلا للإصلاحات المنشودة أم مجرد إستبدال وجوه بأخرى

داخل حسن جريو
dakhiljerew@gmail.com

2016 / 4 / 6

التشكيلة الوزارية العراقية الجديدة .... مدخلا للإصلاحات المنشودة
أم مجرد إستبدال وجوه بأخرى ؟
أ.د. داخل حسن جريو
عضو المجمع العلمي العراقي .

قدم رئيس مجلس الوزراء العراقي تشكليته الوزارية الجديدة التي وصفها بحكومة التكنوقراط لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من وضع العراق المتردي على كافة الأصعدة , لتكون هذه التشكيلة مدخلا للإصلاحات التي يطالب بها الشعب العراقي منذ سنوات وبات اليوم حديث الشارع , وركب موجتها سياسيي المحاصصة الطائفية والأثنية ممن عاثوا في العراق فسادا وجعلوا منه دولة فاشلة . فيا ترى من هم التكنوقراط أمل العراق المنشود . يتداول قادة الكتل السياسية في الوقت الحاضر بكثرة مصطلح حكومة التكنوقراط دون أن يدرك الكثير منهم على ما أعتقد مفهوم المصطلح , وربما إختلط عليهم الأمر بين مفهوم التكنوقراطية ومفهوم الديمقراطية . يشير قاموس المعاني إلى أن مصطلح التكنوقراطية هو مصطلح سياسي نشأ مع اتساع الثورة الصناعية والتقدم التكنولوجي ، وهو يعني حكم العلماء والتقنيين ، وقد تزايدت قوة التكنوقراطيين نظراً لازدياد أهمية العلم ودخوله جميع المجالات وخاصة الاقتصادية والعسكرية منها ، كما أن لهم السلطة في قرار تخصيص صرف الموارد والتخطيط الاستراتيجي والاقتصادي في الدول التكنوقراطية ، وقد بدأت حركة التكنوقراطيين عام 1932 في الولايات المتحدة الأمريكية ، حيث كانت تتكون من المهندسين والعلماء والتي نشأت نتيجة طبيعة التقدم التكنولوجي . أما المصطلح فقد استحدث عام 1919 على يد وليام هنري سميث الذي طالب بتولي الاختصاصيين العلميين مهام الحكم في المجتمع الفاضل .
إبتداءا نقول وفي جميع الأحوال لا يستقيم حكم يقوم على التكنوقراطية وحدها . إذ لا يستطيع كائن من يكون حل مشاكل العراق ما لم يكن مزودا برؤية واضحة ويستند إلى قاعدة جماهرية واسعة مساندة لبرامج الإصلاح والدفاع عنها ضد كل من تسول له نفسه العبث بمقدرات العراق وتعكير صفوه وأمنه وإستقراره. وهذا يتطلب الإتفاق أولا على بعض الأمور الجوهرية والأساسية في إطار مرجعية فكرية وسياسية واضحة متفق عليها, تتضمن الآتي ضمن أمور أخرى:
1. تحديد شكل ومضمون الدولة , دولة ثيوقراطية أم دولة مدنية , إذ أن لكل منها مواصفاتها ومتطلباتها .
2. تحديد العلاقة بين حكومة المركز وحكومة إقليم كردستان ومجالس المحافظات بصورة واضحة لا لبس فيها.
3. تحديد العلاقة بين العراق ودول العالم كافة على أساس التكافؤ والتعايش السلمي وتبادل المصالح المشتركة ,وعدم التدخل في الشؤون الداخلية .
4. حصر السلاح بيد القوات المسلحة بصنوفها المختلفة , بوصفها الجهة الوحيدة المسؤولة عن ضبط أمن البلاد داخليا وخارجيا .
5. نبذ كل أشكال نظام المحاصصة الطائفية والأثنية , وإجتثاث كل ما ترتب عليه من آثار في أجهزة الدولة المختلفة .
6. سيادة القانون والتأكيد على إستقلال القضاء قولا وفعلا , وتطهيره من الفاسدين والمفسدين.
7. إجتثاث الفساد ومحاسبة المفسدين وكل من تسبب بهدر المال العام, وذلك بالوسائل القانونية.
8. نبذ كل أحقاد الماضي , وكل ما من شأنه إثارة الأحقاد والضغائن بين فئات الشعب المختلفة.
9. تجريم كل أشكال العنف والإرهاب تحت اي مسمى أو أي مسوغ.
10. تطهير الجهاز الحكومي من المرتشين والفاسدين وممن خانوا الأمانة الوظيفية.
11. التعليم والصحة والعمل حق لكل مواطن تتكفله الدولة .
12. المواطنة أساس الهوية العراقية بصرف النظر عن الدين والطائفة والقومية .
13. حرية الرأي والمعتقد وإقامة الشعائر والطقوس كل حسب طريقته حق لكل مواطن , بشرط عدم المساس بالأمن العام أو تعطيل الحياة في مرافق الدولة المختلفة .
14. إعادة كتابة الدستور ليكون وثيقة وطنية شاملة لجميع العراقيين.
15. تنظيم الحياة الحزبية وفق المفاهيم المدنية العصرية الحضارية.
وبذلك يمكن للوزراء الجدد وضع برامج وزاراتهم لتنفيذ برامجها الإصلاحية وإنتشالها من أوضاعها المزرية ضمن مدد زمنية محددة, والنهوض بالعراق ليتمتع شعبه بحياة حرة كريمة أسوة بعباد الله في كل مكان .
يتوهم كثيرا من يعتقد أن مهمة كهذه مهمة يسيرة , ذلك أن العراق يقف على أعتاب مرحلة سياسية خطيرة , ربما تكون الأخطر في تاريخه الحديث التي باتت تهدد وجوده وكيانه, حيث إنتقلت الخلافات والصراعات إلى التحالفات والكتل السياسية المشاركة في العملية السياسية المنبثقة من غزو العراق وإحتلاله عام 2003 , إذ لم تعد تلك الصراعات محصورة بين هذه الكتل والقوى المعارضة للعملية السياسية والساعية إلى تقويضها وتدميرها, فضلا عن إستمرار العمليات الإرهابية المسلحة التي ما زالت الجماعات الإرهابية تحتل أجزاء واسعة من العراق وتعبث في أمنه وترويع سكانه في معظم أنحائه, وإستمرار مداخلات القوى الدولية والإقليمية بشؤون العراق الداخلية التي ما إنفكت تصب الزيت على النار بمساندة هذه الكتلة السياسية او تلك, وتسخير وسائل إعلامها لخدمة أغراضها والترويج لمشاريعها التفتيتية دون أي إكتراث لمصالح العراق .
أن ما يحصل حاليا في العراق من فوضى سياسية عارمة وإنتقاله من أزمة إلى أخرى , وتفشي الفساد في مفاصل الدولة المختلفة , وعدم قدرته على التصدي لمافيات الفساد , إنما يعود بالدرجة ألأساس إلى نظام المحاصصة السياسية الطائفية والأثنية الذي إختطته الإداراة الأمريكية للعراق في أعقاب غزوه وإحتلاله عام 2003. نجحت الإدارة الأمريكية بإقامة نظام حكم في العراق يقوم على الإنتخابات , ولكنه في المضمون بعيد تماما عن نظام الحكم الديمقراطي المتعارف عليه, ذلك أنه يفتقر إلى الحكم الرشيد تماما , ولا يخضع لأي شكل حقيقي من أشكال المساءلة , وعاجز عن محاسبة المفسدين وسراق المال العام الذين أفقروا البلاد والعباد وأوصلوا العراق إلى حافة الإفلاس ,ويفتقر إلى القضاء العادل والنزيه.
تناقلت وسائل الإعلام الأجنبية قبل أيام عن رشى بملايين الدولارت قدمتها بعض شركات النفط الأجنبية لمسؤولين كبار في الحكومات العراقية السابقة والحالية للحصول على عقود في جولة التراخيص النفطية التي وصفها المسؤولون حينذاك بأنها أكثر العقود شفافية في العالم . وليس من المتوقع إتخاذ أية إجراءات فعالة بحق من وردت أسماؤهم بتلك التقارير , اكثر من تشكيل اللجان لإمتصاص غضب الرأي العام , تحفظ بعدها نتائج التحقيق كما جرت عليه العادة في حالات فساد سابقة كثيرة .
وربما الأهم من كل ذلك فقدان الأمن والأمان في جميع انحاء العراق بسبب عجز الحكومات المختلفة , التصدي للمجاميع الإرهابية والمليشيات المسلحة وعصابات الجريمة المنظمة, في وطن لم يعد فيه المواطن آمن على روحه وماله , فكيف يمكن لجائع أو مريض أو أمي أو خائف من مصير مجهول, أن يمارس أي شكل من إشكال إبداء الرأي الحر أو المشاركة الفاعلة والمسؤولة في أي نشاط سياسي في مجتمع يفتقر إلى أبسط مقومات الحياة .
وأزاء هكذا حال , هل من طريق لإنقاذ العراق من محنته في ضوء عجز الأحزاب والكتل السياسية القائمة حاليا من إصلاح حال العراق , ليعيش شعبه حياة حرة كريمة آمنة مستقرة بعيدا عن كل اشكال العنف . وهل ستكون التشكيلة الوزارية التي قدمها مؤخرا رئيس الوزراء إلى مجلس النواب من شخصيات وصفت بأنها من التكنوقراط وممثلة لجميع مكونات المجتمع العراقي بحسب ثقلها السكاني, إلى مجلس النواب والتي يبدو أنها تحضى بمقبولية من الإدارة الأمريكية والقوى الإقليمية ذات العلاقة بالشأن العراقي , بداية الطريق لإصلاح العملية السياسية الفاسدة أصلا, بينما تواجه هذه التشكيلة معارضة شديدة من معظم الكتل السياسية في مجلس النواب الذي يفترض حصول موافقته لتبصر الحكومة النور , وهم أنفسهم ما إنفكوا يملؤون الدنيا صخبا وضجيجا عبر صحفهم ووسائل إعلامهم بمناداتهم بالإصلاحات وإجتثاث الفساد ونبذ المحاصصة الطائفية والأثنية السياسية, وكأنهم بذلك يقصدون الآخرين دون أنفسهم, بينما هم جميعا نتاج نظام المحاصصة. وبات الجميع يتحدث اليوم عن إستحقاقاته الإنتخابية بموجب الدستور القائم أساسا على المحاصصة , وهم بذلك يقصدون حصصهم من الوزارات التي يرون بأنها أرث شرعي لهم يجب تقسيمه وفق القسام الشرعي للورثة.
ومن مفارقات نظام المحاصصة الطائفية والأثنية القائم حاليا في العراق أن جميع الكتل السياسية التي لديها أعضاء في البرلمان ترى أن لها الحق دستوريا أن يكون لها وزراء حسب إختيارها , ولا تفكر إطلاقا بلعب دور المعارضة المتعارف عليه في النظم الديمقراطية, وبخلافه ترى أن غبنا قد لحق بها , ذلك أنها ترى أن الفوز ببعض مقاعد مجلس النواب يجب أن يضمن لها حصة في الغنيمة المتمثلة بثروة العراق التي يفترض أن توجه لمصلحة البلاد والعباد , في صيغة غريبة أطلقوا عليها بالتوافق بين الكتل السياسية الذي يضمن لكل منها حصته من ثروات العراق بحسب حجمها في مجلس النواب , فضلا عن إبعادها عن كل أشكال المساءلة عن صفقات الفساد التي تتورط فيها ونهب المال العام . ولا عجب نرى النهب المستمر للمال العام دون تقديم أي من المسؤولين الكبار ممن تورطوا بسرقة المال العام حتى يومنا هذا إلى القضاء ليقول فيهم كلمة الفصل . وستكشف الأيام القادمة مدى قدرة العراق على تجاوز محنته الحالية وإنقاذ شعبه من براثين الفقر والمرض والجوع والحرمان من أبسط مستلزمات الحياة.
فهل يا ترى أن التشكيلة الوزارية المقترحة حاليا هي تشكيلة تكنوقراطية كما يحب مقترحوها وصفها , وبإلقاء نظرة سريعة نرى أن التشكيلة تضم شخصيات جامعية قد يمكن وصف بعضها بالتكنوقراط من حيث الشكل , إلاّ أنه لا تتوفر معلومات كافية عن خبراتهم وممارساتهم العملية وإنجازاتهم الفعلية والتي تبدو في معظمها متواضعة, إذ لا تكفي المؤهلات الجامعية وحدها لقيادة أية وزارة , ما لم تكن مقترنة بالخبرة والحكمة والجرأة وحسن تصريف الأمور, والقدرة على القيادة ومواجهة التحديات وتذليل العقبات وإختيار البدائل وتصحيح الإنحرافات , وإثارة روح العمل والإبداع لمن هم في معيتهم , وتوظيف الموارد المتاحة لمصلحة التنمية المستدامة, ومشهود له بالكفاءة والنزاهة.
وفي جميع الأحوال لا يمكن لأية حكومة تكنوقراط أو سواها أن تنجح في أداء مهامها ما لم تكن حكومة منسجمة تحت قيادة واحدة, ومستندة إلى تأييد شعبي وبرلماني واسع , إذ لوحظ فشل جميع الحكومات السابقة على الرغم من كون أعضاؤها يمثلون جميع الكتل السياسية الممثلة بمجلس النواب , إلاّ أنه ثمة تعارض مستمر بين الحكومة ومجلس النواب على مدى السنوات المنصرمة, وكأن الحكومة ليست من إختيارهم ومصادقتهم , وكثير ما يتصرف قادة بعض الكتل وكأنهم قادة معارضين للحكومة التي تشارك كتلهم بعضويتها ويتمتعون بإمتيازاتها,ولا يرغبون بمغادرتها حفاظا على مصالحهم.
وإزاء هكذا تجاذبات وخلافات سياسية حادة وتشبث مستميت بالسلطة , فأنه ليس من المتوقع أن تنال التشكيلة الوزارية المقترحة ثقة مجلس النواب بسهولة, وربما تؤدي إلى الإطاحة برئيس مجلس الوزراء نفسه , أو قد يعاد تنقيحها بعناصر يتم إختارهم من قبل الكتل السياسية على وفق قاعدة التوافق,وبخاصة الأعضاء الكرد الذين مازالوا يصرون على ما يطلقون عليهم حصتهم الوزارية بموجب إستحقاقهم الإنتخابي . وتمارس الأحزاب الكردية ضغوطا على كل من يعنيهم الأمر عبر رفع سقف مطالبها الأخرى التي لا علاقة لها بالتشكيلة الوزارية لتزيد الأمور تعقيدا لتسهيل تمرير مطالها . وبذلك يكون العراق مفتوحا على جميع الإحتمالات , وربما تقويض النظام السياسي الحالي برمته. وخلاصة القول أن حال العراق لا يمكن إصلاحه ما لم يتم إصلاح النظام السياسي القائم حاليا في العراق , وذلك بإعادة نظر جذرية جادة وشاملة بمقوماته وأسسه.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن