الجوقة المسرحية

منصور عمايرة
mansoamair@yahoo.com

2016 / 3 / 11

الجوقة المسرحيّة * منصور عمايرة
لم تكن الجوقة المسرحية في المسرح منذ بداياته حالة تزيينية أو فضلة، بل كانت تشكل رؤية فنية رئيسة في المسرح اليوناني، وهي بالتالي تتمثل بدور شخصية مسرحية تمثل الرؤية العامة، وهي لا تتكلم بلسان المفرد بل بلسان الجماعة، ولعلّ أرسطو يؤكد على أهمية التراجيديا واكتمالها، لأنها تتضمن كل العناصر التي تجعل منها عملا مسرحيا قابلا للتمثيل وليس السرد، ولذا نجد أرسطو يشير إلى الكوميديا بأنها في البداية لم تأخذ مأخذا جديا، لأن الأرخون وهو الحاكم الأثيني "لم يسمح رسميا بمنح شاعر كوميدي جوقة من اللاعبين الكوميديين إلا في وقت متأخر، وكان الممثلون قبل ذلك من المتطوعين"1، وهذا يؤكد أن الكوميديا لم تكن ذات أهمية بداية، لأنها لم تكن تتضمن عنصرا رئيسا فيها وهو الجوقة؛ ولكن الكوميديا سيكون لها حضور عندما تصبح الجوقة في مضمار إطارها الفني، وكأن أرسطو يؤكد أن الجوقة عنصرا رئيسا في المسرحية، في التراجيديا والكوميديا، وإذا لم تتضمن المسرحية الجوقة يكون هناك اختلال فني حسب رؤية أرسطو، وهذا الاختلال يجعل نوعا مسرحيا دون النوع الآخر، ولذا لم تواكب الكوميديا اليونانية التراجيديا اليونانية من الناحية الاحترافية؛ لأنها لم تشتمل على عناصر المسرحية الفنية، وهنا الإشارة إلى الجوقة. وبما أن المسرح اليوناني هو حالة خلاقة لاحقة على الملحمة اليونانية، وقبل ذلك هي حالة خلاقة لاحقة على الطقوس الدينية اليونانية، والتي تمثلت بالنشيد الديني الديثرامب، وبالتجسيد الذي تشكل من خلال التغريب والاختفاء والتقنع، وهذه الطقسية تمثلت بعبادة ديونيسوس كما يشاع، ولذا فإن المأساة والملهاة كانت نتيجة للاحتفال بديونيسوسن سواء أكان بالمرح أو بالحزن. وعبادة ديونيسوس أو الاحتفال بديونيسوس، أو الطقوس الدينية اليونانية تمثلها رؤية طقسية جماعية، والطقوس الدينية اليونانية كانت ذات وجود قبلي على الملحمة. وهناك حالة ثقافية أخرى كان لها حضور قبل الملحمة أيضا، ويرتد إليها المسرح اليوناني، تلك الحالة التي تمثلت بالأقصوصة اليونانية، وهذه رؤية ثقافية عامة ذات حضور لدى كل الشعوب، وخاصة أن الشعوب بداية تعتمد على الطبيعة اللسانية، لنقل الثقافة من مكان إلى آخر، إنها الحالة الشفاهية التي كانت تدور على ألسنة الناس، وهكذا ينتشر الخبر عبر اللسان، وعن طريق أناس متخصصين كجوالين في مرحلة لاحقة، كانت تمثل بما يعرف بالقاص أو المحدث أو الراوي أو الشاعر الجوال أو الحكواتي، وهذه الرؤية كما أسلفت متوافرة لدى كل الشعوب؛ لأن الأصل في نقل الثقافة والمعرفة والأخبار يكون بالمشافهة عن طريق اللسان، وهكذا تنتشر الثقافة. وهذه الأقصوصة أو الحكاية أو الأقاصيص كانت تمثل الرؤية الثقافية الإخبارية عن اليونان، واليونانيون شعب محارب، وقد خاض حروبا عدة مع جيرانه، ومع الآخرين في آسيا، ولذا نشأت الأقاصيص اليونانية مرة أخرى من الحروب والمفاخرة بالنصر، الذي كان اليونانيون يحرزونه على الآخرين في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وربما أبعد من ذلك، إذ يرتد التصارع اليوناني مع الآخر إلى القرن السادس عشر قبل الميلاد، ولذا فإننا نرتب الثقافة اليونانية إذا ما جاز لنا كالتالي، الطقوس الدينية، الأقاصيص والأخبار عن الحرب والقيم وغيرها، الملحمة في مرحلة لاحقة، إذ أن هوميروس قد ولد قبل تشكل روما في العام 753 قبل الميلاد، وستكون الملحمة على أبعد تقدير تشكلت في القرن العاشر قبل الميلاد، وربما الثامن قبل الميلاد، ولكن الملحمة حالة ثقافية جديدة، تشكلت شعرا، ولكنها بنيت على الأقاصيص والحياة اليونانية الجماعية، وكان للملحمة حضور مميز في اليونان، إذ استقر عليه الشعر اليوناني، والترتيب الأخير في الثقافة اليونانية كان المسرح، وهو بني على كل ما كان سابقا عليه من بنى ثقافية كبرى شكلت المسرح، وهنا لا نريد أن نتحدث عن الفلسفة اليونانية كحالة ثقافية أخرى. هذه الثقافة اليونانية المتعددة، كانت ثقافة جماعية، وقد استطردت بالإشارة إليها، لتأكيد أن الجوقة تنبثق أصلا من الجماعة. وعليه، فإن المسرح كان أكثر الفنون أو الأجناس الثقافية الأدبية اليونانية تميزا، لأنه اشتمل على ما سبق من الأجناس، اشتمل على الخبر والشعر والتجسيد، ولكن المسرح يمثل رؤية جديدة مختلفة تماما من خلال التمثيل الفني، وبالتالي فإن المسرح يتشكل من الفكر والفن، وبهذا سيختلف عمّا سبقه، ويأتي أرسطو، ليتحدث عن تقنين أو شعرية المسرح اليوناني، وبدأ الحديث عن التراجيديا، وقد وضع لها أو حدد لها تصورات فنية مازالت تشتغل، ولا يستطيع المسرح أن يستغني عنها، مهما تحدث البعض عن الخروج على القواعد التي وضعها أرسطو، أو أشار إليها مثل الوحدات الثلاث، وما أشار إليه بما يخص فنية التراجيديا، بالإشارة إلى الشفقة والخوف والتطهير، والإشارة إلى الجوقة أيضا. وفي بداية التراجيديا، فالجوقة وقائد الجوقة يمثلان العرض كله، حتى جاء ثيسبس عام 535 ق.م، ليضيف ممثلا، ثم إسخيلوس 525-452 ق.م، ليضف الممثل الثاني، وسوفوكليس 496-405 ق.م، يضيف الممثل الثالث، وبقيت الجوقة عنصرا هاما في الدراما الإغريقية.2 وهذا يعني أهمية الجوقة ودورها بالمشاركة في الفعل.
في مسرحية سوفوكليس أوديب ملكا نرى الكورس/ الجوقة، تتحدث عن مضمون الرؤية العامة التي تعيشها ثيبا، إذ يصيبها مرض طاعون يفتك بأهلها، ويدخل الكورس المؤلف من الشيوخ، بمناجاة طويلة للآلهة: يا كلمة زيوس الحلوة بماذا جئت من فوثو الثرية إلى مدينتنا العظيمة ثيبا؟ ها هي نفسي التي يشدها القلق ترتعد من الخوف. أيها الإله الذي يذعن بنبرات حادة إلى إله ديلوس، الإله الشافي، حينما أفكر فيك فإني أرتعد، ماذا تطلب منا؟ التزام جديد؟ أو التزام منسي ينبغي تجديده على مر السنين؟ وتطلب الجوقة من اللآلهة ابنة زيوس وأرتيمس وفوبوس أن ينقذ مدينة ثيبا: في الماضي حينما كانت أية كارثة تهدد مدينتنا، فإنكن استطعتن أن تبعدن عنها شعلة البلاء.3 وتستمر مناجاة الآلهة، ثم يتحدث أوديب الملك مع الكورس مستفسرا عن الخبر الذي قصه عليه كريون بأن الآلهة غاضبة لمقتل لايوس، وما حل بالمدينة بسبب هذا القتل. إن الكورس لا يخرج عن مفهوم الرؤية العامة التي تنشغل بها المسرحية، فثيبا كلها بما فيها الملك أوديب منشغلة بما حصل في مدينتهم، لذا فإننا نرى أن الجوقة شخصية تمثيلية تعبر عن روح الجماعة، تعبر عن آلام وآمال الجماعة التي تنتسب إليها، وما يهم الكورس حماية مدينة ثيبا من هذا المرض الفتّاك الذي يهجم عليها. ويدخل قائد الكورس بحوار مع أوديب الملك، وهنا يبدو قائد الكورس يمثل شخصية حوارية في المسرحية، يتحدث مع أوديب عمّا أصاب مدينة ثيبا. وله رأي بمجريات الأحداث، إذ يطلب من أوديب أن يلجأ إلى تيرسياس: فإن السيد تيرسياس يملك مذهبه التنبؤ بالغيب، فإن لجأنا إليه للقيام بهذا البحث عن الجاني، فسنعرف حقيقة الأمر بكل دقة.4 إن إنفصال قائد الجوقة عن الجوقة وهو يتحدث إلى الملك، إنما يتحدث باسم الجماعة التي انشغلت بهم المدينة وبالبحث عن القاتل، فقائد الكورس يمثل الكورس كله، ولذا، فإن الجوقة تتموضع في مسرحية أوديب ملكا، لتكون شخصية مسرحية ذات رؤى فاعلة في الأحداث. ثم إن الكورس في مسرحية أوديب يتحدث بالحكمة، ولكن هذه الحكمة نتيجة لسبب: أما من يسلك سبيله، متباهيا بكبريائه في بوادره وكلماته، دون خوف من العدالة ودون احترام للمعابد الإلهية، هذا الشخص أنا أتوقع له مصيرا أليما يعاقب كبرياءه الشريرة".5 الجوقة تشير إلى مسيرة الحياة الطبيعية، حتما ستنال من الظالم، وأن الجاني لا بد أن يلقى عقابه، إنها الرؤية التي تمثل الحكمة، والحكمة فيما يقوله الكورس تمثل رؤية قيميّة في المجتمع، إذن الكورس يرتد إلى ثقافة الإنسان التي تتداولها الأجيال، كرؤية أنثروبولوجية تمثل حياة المجتعمات من خلال ما لديها من تراث تراكمي، وهذا التراث يكون أيضا بالتجربة والاكتساب والتعلم. والكورس يبدو متعاطفا مع ما آل إليه مصير أوديب عندما يقول: لو كنت مت في تلك الساعة لما كنت قد صرت كارثة على نفسي، ولا على أهلي مثلما أنا اليوم. فتجيب الجوقة: وأنا أيضا كانت هذه أمنيتي.6 إن الكورس بهذه الإجابة يظهر التعاطف مع أوديب، وهي حالة عامة، فالمدينة التي كانت سعيدة بأوديب، لم تكن راغبة برؤيته يتردى ويصارع آلامه بسبب آثامه، التي ارتكبها من دون علمه. إن الكورس في مسرحية أوديب ملكا، كان يمثل في حالة قائد الكورس كشخصية في المسرحية، ولكنه يتحدث أيضا باسم الجماعة. وإن الكورس يمثل المجتمع، والكورس يبدي تعاطفا مع أوديب كملك للمدينة. وإن الكورس يمثل رؤية ثقافية للمجتمع. والجوقة في مسرحية أوديب تمثل كراو لمضاعفة الحدث المسرحي، فهي عندما تتعاطف مع شخصية أوديب، تزيد من جرعة الشفقة والخوف مما آل إليه مصير أوديب، وهذه الزيادة تؤثر في المتلقي كما يشير أرسطو لإحداث التطهير، وهذه غاية التراجيديا. وعندما تسرد شخصيات المسرحية في مسرحية أوديب ملكا ترجمة عبد الرحمن بدوي، لم نجد الجوقة كشخصية مسرحية، ولم نجد قائد الجوقة كشخصية مسرحية، لكنها في واقع الأمر وكتشكيل مسرحي، هي شخصية مسرحية، ولها حضور فاعل تماما، ينطبق عليها ما جاء في تعريف أرسطو للتراجيديا.
وبما يخص مفهوم الاحترافية في الجوقة، وقد أشار إليها أرسطو، وهو يعلق على تأخر الكوميديا عن التراجيديا، لأن الأولى لم تكن لها جوقة احترافية، بل أكثر من ذلك، نجد أن الحاكم الأثيني الأرخون، الذي كان مسؤولا عن إدارة المسرح ومسابقات المسرح، لم يجعل للكوميديا جوقة، ولم تكتسب الكوميديا حضورها الأفضل إلا بعد أن أمسى لها جوقة احترافية، وهذه إشارة أولى تؤكد على أن الجوقة تتشكل من مجموعة من الفنانين، لهم قدرات خاصة تساهم ببناء المسرحية، ولم تكن الجوقة ذات رؤية اعتباطية.
وفي كوميديا ارستوفان 448-385 ق.م، مسرحيات الضفادع والزنابير والسحب استمدت أسماءها مما تمثله الجوقات فيها، وذلك من خلال الحركات التي تقوم بها الجوقات.7 نلمح أهمية الدور الذي تلعبة مرة أخرى الجوقة في المسرح اليوناني، وفي الكوميديا التي كانت متأخرة عن التراجيديا، وهذه الإشارة تؤكد أن الجوقة كانت ذات عمل احترافي بعيدا عن الهواية والتطوع. وإذا ما اعتبر ارستوفان ممثلا للكوميديا القديمة نجد أن الكوميديا الحديثة التي مثلها مناندر 342- 291 ق. م، قد تخلت هذه الأخيرة عن الجوقة، وقد كانت عنصرا حيويا في الكوميديا القديمة.8
وإن الجوقة المسرحية كشخصية تكتسب حضورها المواجه للجمهور، والجمهور أصل المسرح، وبتوفرها على إمكانيات فنية، فهي لا تكتفي بترديد حالة البطل على سبيل المثال، كما يحدث في الأغنية/الكورال، وإن كان الكورال في الأغنية يحدث الإحساس والانفعال بدرجة مضاعفة لدى المتلقي، وهذه هي رؤية جيدة متوائمة تماما مع الحدث، ولها دور متعدد في المسرحية. وبما أن المسرح جماعي أصلا، ونتج عن تصور جماعي، فهذا يؤكد أن الجوقة عنصر مهم في المسرحية إذا ما كان لها دور في النص/ المسرح.
في المسرح الروماني، وفي مسرحية سينكا "هرقل فوق جبل أوتيا"، نجد أن من شخصيات المسرحية جوقة الاويخاليات "عذارى"، وجوقة الايتوليات "سيدات ناضجات"، فالجوقة مكونة من عذارى اويخليات قادمات كأسرى بصحبة أميرتهن يولي بنت يوريتوس، وتصف الجوقة هرقل: قرين للآلهة الأعلين ذلك الرجل الذي ملك الحياة والحظ على حد سواء، أما أولئك الذين تمضي حياتهم ببطء وهم يتألمون، فالحياة بالنسبة لهم هي الموت.9 وتستطرد الجوقة بالوصف. ودور الجوقة هنا وصف ما آل إليه حالهن، والحال التي عليها هرقل، وهذه إشارة توضيحية للجمهور، ولكن الجوقة تتحدث بحالة من الكدر والحزن والبؤس، وهذا يبين عن مصيرهن. ثم إن الجوقة تدخل في حوار مع الشخصية أو تتماهى مع شخصية ديانيرا التي تطلب من الجوقة: أما أنتن يا من أحضرتكن معي كصديقات من بيت أبي، ارثين لحظي الذي يتوجب البكاء. الجوقة من بنات ايتوليات: يا بنت أوينيوس نحن نبكي مصائبك ...10 وهنا تشارك الجوقة دور الاشتغال في المسرحية، وهي جزء رئيس بما يجري في المسرحية، سواء من خلال الوصف للحالة النفسية والشخصية للشخصيات، أو المشاركة في الحوار الذي يمنح المسرحية مضاعفة التأثير لدى المتلقي.
في مسرح العصور الوسطى، يطفو على السطح مفهوم المسرح الديني، والمسرح الديني يقوم على تأكيد المثل والقيم الدينية، وبالتالي فإن القداس الديني هو ترتيل وإنشاد جماعي، وهذه الرؤية تؤكد أن الجوقة قد تتسع لتشمل الحضور أيضا. ففي مسرحية آدم في القرن الثاني عشر، نجد الجوقة توضح مفهوم المحرم والمباح كأمر إلهي لآدم: تغني الغناء الجماعي، قال الله لآدم... ثم يقوم الله بتوجيه نظر آدم إلى أشجار الجنة ويقول: تستطيع أن تأكل من جميع هذه الفواكه كما تشاء، " يوجه نظره إلى الشجرة المحرمة" ولكني أنهاك عن الأكل من هذه الشجرة، فإنك إن أكلت منها مت من فورك، وفقدت حبي وأصبحت تعس المصير.11 وهذه الرؤية قيميّة توجه إلى الجمهور كطريق خلاص للإنسان من خلال تقديم النصيحة له، كي لا يرتكب الأشياء التي تسبب تعاسة الإنسان. إن الجوقة تمثل دور الواعظ بما يتلاءم مع طبيعة الموضوع الذي يشتغل، وهنا الخطاب مباشر إلى الحضور، فغاية الدين إقامة الرؤية الدينية وترسيخها لدى الناس. وفيما بعد فإن الجوقة تستمر بتفسير مآل آدم وحواء، إذ " يختبئان في ركن من الفردوس مظهرين أنهما يعرفان سوء حالهما"12 هنا نجد دور الجوقة يتشابه مع بعض حالات الجوقة في مسرحية أوديب ملكا. والقداسات الدرامية الطقوسية وجدت في الأديرة ثم تنتقل إلى الطقوس الدينية في الكنائس، لتمثل قداسات درامية حقيقية، وتكون جزءا لا يتجزأ من الطقوس المقررة.13 وهذا يعطي دورا كبيرا للجوقة، لأنها تمثل الرؤية العامة لمجتمع ديني.
في عصر النهضة، وفي مسرح شكسبير، نجد الجوقة كشخصية رئيسة من شخصيات المسرحية، وتدرج كأول شخصية في مسرحية "روميو وجوليت"، وتبدأ المسرحية بالجوقة، والتي تبدو كحالة وصفية لشخصيات المسرحية ومجريات الحدث. وفي البداية تصف الجوقة في المقدمة قائلة:
في بلدة فيرونا الحسناء،
عائلتان يزينهما كرم المحتد،
تصحو عندهما أحقاد الماضي الهوجاء،
فيلوث دم أهل البلدة أيدي الشرفاء،
لكن من أصلاب الخصمين الرعناء،
يخرج للنور حبيبان،
تعبس لهما الأفلاك،
وتذيقهما أسواط هلاك ...14 فالجوقة في المسرحية تبدو كراو للأحدث، وتروي أحداث المسرحية، ولكن هذا السرد من قبل الجوقة كراو، لا يغني عن تصوير الأحداث التي تتفاعل فيها الكثير من الشخصيات. ولهذا فإن الجوقة تنادي الجمهور قائلة:
فإذا أصغيتم وصبرتم يا سادتنا،
فلسوف نعوض ما فاتكمو من قصتنا15
ثم تتدخل الجوقة مرة أخرى، لتصف حالة روميو وجوليت في نهاية الفصل الأول، وهذه الإشارة برولوج للفصل الثاني أو ما سيقع من أحداث في المسرحية، فالجوقة تلعب دور الراوي في المسرحية، ولكن الراوي لا يغني عن تصوير الأحداث كما ذكرت آنفا.
فالجوقة إذن ذات حضور استدراجي للجمهور، من أجل الإصغاء للحكاية التي ستمثل، وهنا تبدو الجوقة كمقدم لرؤية المسرحية، ولكنها رؤية هامة جدا تتوجه إلى الجمهور، والجمهور هو مدار العرض المسرحي.
وفي مسرح النو الياباني نجد حضورا مميزا للجوقة، وإن لم تدرج في شخصيات المسرحية، فهي تردد ما تقوله الشخصية مثل الكاهن في مسرحية " تامورا " للياباني زيامي موتوكيو، إذ تقول الجوقة مرددة ما قاله الكاهن "الواكي"، وهو شخصية رئيسة في المسرح الياباني:
عبر العديد من الأقاليم إلى مياكو ذات البوابات التسع
حثثنا الخطى إلى مياكو ذات البوابات التسع16
ثم نجد للجوقة حالة توصيف للمكان، وهذا التوصيف يتبع لما قالته الشخصية السابقة على الجوقة، وهي شخصية الفتى الذي يصف المكان أيضا.17
وفي مشهد آخر للجوقة تدخل الجوقة في حوار مع الفتى، وهي تسأله عن اسمه وعن موطنه، وتتحدث الجوقة عن الشخصيات في المسرحية، فهي تتابع وصف تامورا – مورا لنفسه عندما تقول عنه: أنا من صد القبائل البربرية القادمة من الشرق ...18
وتتابع الجوقة مسيرة رحلة تامورا كبطل يقف في وجه الغزاة والمعتدين. والجوقة في مسرحية "سانيموري" لزيامي، تشير إلى القيم الدينية عندما يقول سانيموري :
لن يخيب رجاء المؤمن في
أن يحظى بجنة أميدا ...
تقول الجوقة: يا لها من كلمات مباركة.19
وهي إشارة إلى المسرح الياباني الذي يمثل القيمة الدينية، والجوقة تؤكد هذه القيم. عندئذ يبدو دور الجوقة يمثل التعليم، ويبدو أن هذه الرؤية وجدت في المسرح الديني في العصور الوسطى، فهذا المسرح يشير إلى الالتزام القيمي والعقائدي، ولذا تقول الجوقة وهي تشير إلى سانيموري:
حوّل تفكيرك عن الأشياء الأرضية
واستلهم مملكة بوذا
وحرر نفسك من الشهوات...20
وهكذا فإن الجوقة في مسرح زيامي يمثل الوصف، ويمثل وصف الحالة النفسية أيضا، ويمثل الرؤية العامة للشخصية أحيانا، ويمثل رؤية التعليم كبعد ديني. ثم إن الجوقة في المسرح الياباني تمثل الحكمة أيضا، فالجوقة في مسرحية "سوميدا جاو" للياباني جورو موتوماسا، تشير إلى الأم التي تحدثت عن حزنها، لأنها تفقد ابنها، وهي تقول:
وفجأة فقدت ولدي الوحيد
الذي خطفه تاجر العبيد
فتقول الجوقة ترد على حزن ومأساة الأم :
لو بعد آلاف الأميال
فقلب الأم لا يسلو هكذا يقال ...21
هي إشارة نمطية لطبيعة شخصية الأم، التي تتسم بعاطفة الأمومة والحنين والشوق، وعندما تقول الجوقة "هكذا يقال" تبين عن رؤية تراثية في المجتمع، أو من المسلمات التي تؤكد هذه الحقيقة.
في المسرح الملحمي تبدأ مسرحية الاستثناء والقاعدة - والتي ترجمها عبد الغفار مكاوي - الحديث بلسان الممثلين كجوقة مسرحية: أيها السادة، نحن الممثلون، وسنروي لكم حكاية، القافلة تضم تاجرا واثنين من أتباعه، افتحوا عيونكم لتروا كيف يتصرفون، قد يبدو سلوكهم شيئا مألوفا، عليكم أن تكشفوا عن شذوذه، وقد يبدو لكم شيئا عاديا، مما يحدث كل يوم، عليكم أن تتبينوا وجه الغموض فيه، لا تأمنوا لأقل إشارة، مهما بدت بسيطة في ظاهرها، لا تقبلوا العادة المتوارثة على ما هي عليه، بل فتشوا عن وجه الضرورة فيها، نحن نناشدكم على الدوام أن لا تقولوا هذا أمر طبيعي، إزاء ما يعترضكم من الأحداث كل يوم، حتى لا يستعصي شيء على التغيير والتبديل"22
قد تكون هذه الرؤية دعوة مباشرة لانتباه الجمهور، بدأها شكسبير قبل بريخت بكثير وقد ذكرت في مسرحية روميو وجوليت.
إن بريخت كما يبدو على لسان الجوقة أو مجموعة الممثلين، يقدم رؤيته حول المسرح التعليمي، والذي يقوم على الوعي، والدعوة للتيقظ، ويجب على الإنسان أن يتنبه لكل شيء مهما بدا بسيطا وطبيعيا، والدعوة لرفض المألوف والعادة، إنها الدعوة للتبصر بما يحيط بالإنسان. إن مقدمة الجوقة تبين عن رؤية المسرح الملحمي، الذي يقوم على سرد الحكاية، وتنبيه الجمهور إلى ما يدور أمامه من تمثيل.
وفي نهاية المسرحية، تبدو الجوقة مجموعة الممثلين مرة أخرى عندما تنتهي الحكاية: على نحو ما رأيتم وسمعتم، رأيتم حادثا مألوفا مما يقع كل يوم، ومع هذا فنحن نناشدكم أن تتبينوا الأمر الغريب وراء المألوف، تبينوا السر الغامض وراء ما يحدث كل يوم، وليكن في كل شيء معتاد ما يشعركم بالقلق، تبينوا الشذوذ الذي يستتر خلف القاعدة، وحيثما بدا الفساد لكم فاوجدوا له الدواء".23
إن المسرح الملحمي مسرح يوجه خطابه مباشرة من خلال التمثيل وسرد الحكاية إلى الجمهور. لنتبين أن الجوقة في مسرحية الاستثناء والقاعدة تمثل رؤى المسرح التعليمي الملحمي، كما ارتأى ذلك برتولد بريخت. ولدى بريخت تبدو الجوقة المختلفة، فهي لا تكتفي بالرواية والسرد، بل بالتنبه لما يجري، فالمسرح الملحمي يتوجه إلى جمهور يعي، أو يجب عليه أن يعي ما يحدث أمامه ويدور حوله.
والجوقة في مسرح المقاومة، تمثل تأكيد المقاومة الجماعية، والتحريض على المقاومة والدفاع عن الوطن، وتخليصه من المستعمر، وهي تمثل رؤية مجتمعية، لأنها تعبر عن تطلعات الأمة، وهذه الصورة المتيقظة كبعد مقاوماتي تنبلج الآن في المسرحية، كحق مشروع لمقاتلة المحتل المغتصب، الذي يقتل الشعب بكل وسائل القتال، ويدمر ثقافته، وهذه الدعوة تكتسب أهمية أخرى، وهي دعوة جماعية. وقد حان الوقت ليقف الجميع في وجه المستعمر وجها لوجه، إنها القوة لمواجهة القوة، إذ تعبر الجوقة عن آمال الأمة بالمقاومة والتحرر.
إن الجوقة تعددت في المسرح، وإنها تقوم بدورها كشخصية رئيسية في المسرحية. وبالتالي، لا يوجد في المسرح فضلة، وكل ما يعتمل في المسرح يشارك في الفعل.
***
هوامش:
1- أرسطوطاليس، فن الشعر، ترجمة عبدالرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1953م.2–ينظر فرانك م. هوايتنج، المدخل إلى الفنون المسرحية، ترجمة كامل يوسف وآخرون، نشر بالتعاون مع مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر القاهرة نيويورك، 1970م. 3- سوفوكليس، تراجيديات سوفوكليس، ترجمة عبد الرحمن بدوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، لبنان، 1996. 4-المرجع نفسه. 5- المرجع نفسه. 6- المرجع نفسه. 7- ينظر المدخل إلى الفنون المسرحية، مرجع سابق. 8- ينظر المدخل إلى الفنون المسرحية، المرجع نفسه. 9- سينكا، هرقل فوق جبل أوتيا، ترجمة أحمد عتمان، من المسرح العالمي، ع138، الكويت، 1981. 10- هرقل فوق جبل أوتيا، المرجع نفسه. 11- جان فرابييه، أ.م.جوسار، المسرح في العصور الوسطى، ترجمة محمد القصاص، مكتبة النهضة العربية، القاهرة. 12- المسرح في العصور الوسطى، المرجع نفسه. 13- المسرح في العصور الوسطى، المرجع نفسه. 14- وليم شكسبير، روميو وجوليت، ترجمة محمد عناني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993. 15- روميو وجوليت، المرجع نفسه. 16- زيامي موتوكيو وآخرين، مسرح النو الياباني، ترجمة جميل الضحاك، من المسرح العالمي، ع 308-309، الكويت، 1998. 17- مسرح النو الياباني، المرجع نفسه. 18- مسرح النو الياباني، المرجع نفسه. 19- مسرح النو الياباني، المرجع نفسه. 20-مسرح النو الياباني، المرجع نفسه. 21- مسرح النو الياباني، المرجع نفسه. 22- برتولد بريخت، الاستثناء والقاعدة، ترجمة عبد الغفار مكاوي، روائع الدراما العالمية، المركز القومي للترجمة، ط1، القاهرة، 2010. 23- الاستثناء والقاعدة، المرجع نفسه.
***
منصور عمايرة / الأردن
كانون الثاني 2016
بريد إلكتروني: mansoamair@yahoo.com



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن