ثنائية خامنئي روحاني

سعد الله مزرعاني
lcparty.lcparty@gmail.com

2016 / 2 / 13


منذ مطلع هذا الأسبوع تعاقب كل من المرشد السيد علي خامنئي والرئيس حسن روحاني على استحثاث الإيرانيين على المشاركة في انتخابات مجلسي «الشورى» «والخبراء». وفيما توجه روحاني الى مؤيدي سياسته والى المواطن العادي، استهدف خامنئي في دعوته أولئك الذين اصابهم إحباط ملحوظ بسبب ما يبدو تقدماً لمصلحة منافسيهم قبيل أقل من أسبوعين على موعد الانتخابات (الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد حذّر من «نتائج كارثية»، ورئيس القضاء من «غزو غربي»، بسبب الاتفاق النووي، سيؤدي الى «اختراق إيران»).

وقد عزز من هذا الاحباط اتخاذ المرشد موقفاً وسطياً، ما حرم الموالين من استخدام سلاح التخوين في وجه منافسيهم. وكان التخوين قد شكّل، مقروناً بالقمع، عاملاً أساسياً في تبديد ما توفّر، سابقاً، لمرشحي المعارضة من تأييد واسع، وفي منعهم، بالتالي، من المشاركة في السلطة (في الحدود المحصورة التي يتيحها الدستور). وبذلك كان يتراجع باستمرار الهامش الذي ميّز التجربة الإيرانية في إتاحة فسحة، ولو محدودة، من حق الاختيار والمشاركة والديموقراطية.
لا شك، إذاً، أن المحطة الراهنة من الانتخابات التشريعية الإيرانية ستكون ذات أهمية خاصة، وربما انعطافية، بالمقارنة مع الكثير من مثيلاتها السابقات. هي، من حيث الشكل، غير مصحوبة بمستوى عالٍ من الصخب والتوتر، إلا أنها مرشحة لادخال تعديلات أساسية على التوازنات القائمة بين ما اصطلح على تسميته (في الخارج) بمعسكري «المتشددين» و«الإصلاحيين»، وبالتالي على مجمل الوضع الإيراني: في سياساته وتوازناته الداخلية والخارجية.
يجب التذكير، بدءاً، بأن حجماً لا جدال فيه من التغيير كان قد بدأ مع «مفاجأة» انتخاب الشيخ «الوسطي»، أو نصف الإصلاحي، حسن روحاني رئيساً للجمهورية في صيف عام ٢٠١٣. وقد ثابر روحاني قبل توقيع الاتفاق النووي وبعده، على التأكيد «أن لا تراجع عن طريق الوسطية والاعتدال» (بعد سنة على انتخابه). أمّا بعيد التوقيع على ذلك الاتفاق فقد أكّد متفاخراً: «هذه صفحة جديدة في التاريخ، لم تحدث عندما توصلنا إلى الاتفاق النووي في فيينا في ١٤ تموز ٢٠١٥، بل في ٤ آب ٢٠١٣ عندما انتخبني الايرانيون رئيساً».
الواقع أن ظروفاً موضوعية متصلة بالصعوبات المتعاظمة القائمة (الاقتصادية)، والمخاطر الجسيمة المتوقعة (عدوان عسكري)، هي التي أدّت الى إحداث تحوّل في مواقف وتوجهات اصحاب القرار في طهران وفي مقدّمهم السيد خامنئي. إن انتخاب روحاني كان تجسيداً لهذا التحول. وقد أُسندت اليه، بسبب ذلك، مهمات وسلطات مناسبة لاختبار فرص حل سياسي بشأن مسألة العقوبات والملف النووي بالترابط والتزامن. لم يدرك التيار «المتشدد» تلك المعادلة إلا متاخراً. محاولاته للعرقلة لم يعد مسموحاً بها بعد أن افتقرت إلى إجازة المرشد، ودوره ونفوذه بدءاً بالتراجع بشكل مضطرد. كان ذلك يتكرّس تصاعدياً طيلة سنتي التفاوض وفق معادلة لم يستطع التيار «المتشدد» حيالها الكثير: أدار المرشد الانعطافة بدراية وحزم، وأدار روحاني وفريقه التفاوض بكفاءة وعزم، وتكرّس ذلك في الاتفاق التاريخي في ١٤ تموز الماضي!
في غضون السبعة أشهر المنقضية على توقيع الاتفاق النووي بين طهران وواشنطن، ومعها الدول الخمس الكبرى، كان «الإصلاحيون» يراكمون أرباحهم، وكان الحال على العكس من ذلك بالنسبة لمنافسيهم: سقط رهان الاخيرين على عدم التنفيذ كما سقط، من قبل، على عدم التوقيع. أكثر ما خيّبهم وفرَّق صفوفهم كان تأييد المرشد لمجريات المفاوضات ومحطاتها منذ البداية حتى النهاية. أدى ذلك الى تعزيز دور روحاني وحكومته، والى استنهاض فريق «الإصلاحيين» بوصفهم فئة لا يمكن الاستغناء عنها، في هذه المرحلة على الأقل، لمعالجة بعض الأزمات وفي مقدمها مسألة العلاقات الخارجية والأزمة الاقتصادية. وقد انعكس تعزيز دور الحكومة، بين أمور أخرى، في خوض جدال علني ضد استبعاد عدد من المرشحين. وكما لم يكن يحصل، غالباً، في السابق، فقد أمكن فرض تراجع ذي مغزى على «مجلس صيانة الدستور» الذي بدا، لفترة وجيزة، مدعوماً في قراراته الاستبعادية من خامنئي نفسه.
وفق الاستثناء القائل بأن «رب ضارة نافعة»، فقد أدّت الأزمة الى استحضار طاقات في المجتمع والإدارة كانت محيّدة أو مستبعدة. تبيّن أن الرئيس حسن روحاني يتمتع بإمكانيات كبيرة، وأنه قادر على الجمع الإيجابي بين التطلع الإصلاحي والواقعية السياسية. من الانصاف وصفه بأنه رجل دولة اجتمعت تحت عمامته الثقافة والاتزان والمبادرة والمثابرة والتخطيط. لقد تمكن، لأسباب وبمقاييس مختلفة، من استعادة الدور الدستوري للرئاسة، كما استطاع المساهمة في تقديم مثال يحتذى على امكان حل نزاعات معقدة بالمفاوضات السياسية. ربما كان الأجدر بأن يكون رجل العام ٢٠١٥، ليس فقط بسبب إنجازاته السابقة بل المتوقعة أيضاً.
لا يمكن فصل الرئيس روحاني عن فريقه. وهو فريق عَمِلَ، رغم كثرة عدد أعضائه وتنوع وتباين مرجعياتهم، بشكل منسق وموحِّد: بقيادة مباشرة من وزير الخارجية محمد جواد ظريف، ومتابعة تفصيلية من روحاني، وإشراف ودعم من المرشد. لكن، وعلى المستوى الشخصي، لم يكن لكل هذا المسار أن يبلغ خواتيمه المتوخاة لولا الانعطافة النوعية في موقف خامنئي وإدراكه العميق لحجم المأزق. لقد قطع المرشد الطريق على مخطّط صهيوني (بالدرجة الاولى) لاستهداف إيران عسكرياً، ولإلحاق خراب هائل بكل المنطقة المحيطة من دون تمييز. لقد صان المرشد مصالح بلاده الأساسية: في الوحدة والوفاق الداخليين اللذين كانا معرّضين للاهتزاز، وفي الإقرار بمشروعية برنامجها النووي وفي كسر العزلة ورفع العقوبات الجائرة...
توقّع الكاتبان الفرنسيّان، في «الليبراسيون»، بليغ نابلي ووليام ليداي، منذ أوائل عام ٢٠١٤ (كما آخرون)، بأن الاتفاق النووي العتيد سوف «يحمل بذور نقاط تحول استرتيجية... وأن يفتح الأبواب أمام حقل كامل من الاحتمالات» («السفير»، ٦-١- ٢٠١٤). يمكن التأكيد أن ذلك لم ينتظر توقيع الاتفاق بل بدأ منذ انطلاقته بعيد انتخاب روحاني. الأرجح أن الانتخابات الإيرانية ستكرس هذه التوقعات الى حدٍ كبير. في الأيام القليلة الماضية كرّم المرشد البحَّارة الذين تصدوا للخرق البحري الأميركي للمياه الإقليمية الإيرانية واحتجزوا منفذيه. بعد ذلك كرّم روحاني طاقم المفاوضات وقدّم لأعضائه أعلى الأوسمة. ليس هذان التكريمان مقطوعي الصِّلة بالانتخابات القريبة. لكن الأمرين يشكلان، مع ذلك، وجهين لعملية واحدة هي التي حكمت مسار المفاوضات، وهي المرشحة أكثر من سواها (أو هكذا ينبغي أن يكون الامر) لإدارة البلاد بنجاح في المرحلة المقبلة: ليس كل المتشددين في ايران حريصين على الثورة والجمهورية. فضائح الفساد أكثر ما انبعثت من صفوف اصحاب المزايدات والتهديدات الفارغة. في المقابل، ثمة في إيران صراع سياسي واجتماعي وثمة قوى خارجية متربصة. «البازار»، من جهته، يبحث عن السلطة والربح. الإصلاح، بالنسبة اليه هو في خدمة هذين وكذلك العلاقات مع الخارج.
التغيير في إيران بدأ. استمراره أكثر من ضروري. تستطيع ايران ان تُمارس دوراً إقليمياً أكثر أهمية وتأثيراً. هذا الدور لا يجب ان يمر، كما دلّت تجربة ناجحة، عبر الاحتكار أو القمع في الداخل، ولا عبر الفئوية والتوتر والعزلة مع الخارج وعنه: ثنائي خامنئي ــ روحاني لا بدّ منه في هذه المرحلة المصيرية.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن