الهوية والثقافة والعنف

سعد محمد رحيم

2015 / 12 / 20

تصبح الهوية بوصفها انتماءً وملاذاً حاجة ملحة لكثـر من الأفراد والجماعات في حيّز ذي طابع محتدم صراعي، ضاج بالتنوع، لاسيما مع غياب سلطة القانون القوية، وانعدام العدالة. وبقراءتنا لخرائط النزاعات الأهلية والحروب العرقية، في العالم، وطوال قرون الحضارة منذ آلاف السنين، نعرف أن معظم هذه الصراعات حاصل بسبب سوء الفهم وسوء القراءة وسوء التقدير للذات والآخر، والمستثمَر في لعبة مصالح متضادة لفئات ومؤسسات لها برامجها وستراتيجياتها وأهدافها المتناقضة مع مصالح الأكثـرية التي تكون وقوداً وضحايا في تلك الصراعات من غير أن تجني سوى الخراب والأوجاع والموت. فملايين البشر قضوا بسبب أوهام، وصراع سرديات لا تخلو من الزيف، وتقاطعات مصالح لا شأن لهم بها.

في الصراعات الأهلية غالباً ما يبرز العرق والثقافة دالتين لهوية الأفراد والجماعات المتصارعة حيث تكون الدالتان متعاشقتين.. ولكن يجري نسيان حقيقة أن هذا التعاشق يرتبط بعوامل تاريخية، وليس قدراً مفروضاً من خارج التجربة التاريخية للجماعة المعنية..
الثقافة جذر وإن لم يكن الوحيد. وهنا لا توجد الثقافة صافية في نصوص أصلية تنتمي إلى ماضٍ حقيقي أو أسطوري أو حقيقي مؤسطر. بل الثقافة في راهنها ( وإن ادّعت الاستناد إلى مرجعيات قديمة ) بأثقالها من التأويلات والتعقيبات والشروح والانزياحات التي اقتضتها مصالح فئوية أو مؤسسية ( مصالح سلطة )، أو غذاها سوء القراءة وسوء الفهم وسوء النوايا والتحيزات.. الخ. أي أن هذا الشكل من الفعل الثقافي ليس مستقلاً، ليس موضوعياً، ولا حيادياً، لا يحصل من تلقاء نفسه، فهو يخضع لعملية إنتاج وإعادة إنتاج مصممة بإرادة وستراتيجيات غائية موجّهة مؤسسياً في ضوء حسابات ومصالح ظاهرة أو مستترة.
في هذا السياق يكون صراع الهويات هو صراع سرديات وصراع تأويلات قبل أن يكون منازعات في المجال السياسي أو قتالاً على الأرض.. إنه الصراع الناشئ في الميدان الذي تتحرك فيه السلطة المنشبكة بالمعرفة بغض النظر عن الأقنعة التي تتخذها السلطة، وبغض النظر فيما إذا كانت المعرفة صائبة أو زائفة.
إن أفكار دهاقنة الفكر الليبرالي الغربي ما بعد الحرب الباردة أمثال فوكوياما وبريجنسكي وهنتنجتن وهنري كيسنجر هي امتداد موضوعي لفكر التنوير، في منحاه السياسي، بعدما تعرّض ذلك الفكر لهزّات وإزاحات وانحرافات اقتضتها إكراهات السياسة ولعبة المصالح. وبعدما بات البعد الإنساني يُضمر في فكر الغرب الذي اتجه نحو عقلانية أداتية. وهي العقلانية التي انتصرت على حساب الحرية، لاسيما بعد دخولنا إلى ما يُعرف اليوم بعصر العولمة الذي يضج بالتناقضات والمفارقات، حيث تنفتح الأسواق والحدود بعضها على بعض وتتوسع آفاق الاتصال والتواصل في مقابل تشظيات عميقة راحت تحصل في بنى المجتمعات وتمزقها على أساس الهويات الاثنية والثقافات الفرعية. وتوفر أسباباً مضافة للصراعات والحروب والعنف والإرهاب. وحيث تدافع الثقافات التي ترى نفسها مهددة بالانقراض من طريق تبني ردود فعل سلبية، وانكفاء حول هوياتها الضيقة، ومعاداة الآخر. وكما يقول الدكتور عبد الله إبراهيم "فالعولمة بتعميمها النموذج الغربي على مستوى العالم، واستبعادها التشكيلات الثقافية الأصلية؛ إنما توقد شرارة التفرد الأعمى؛ ذلك أن بسط نموذج ثقافي بالقوة لا يؤدي إلى حل المشكلات الخاصة بالهوية والانتماء، إنما يتسبب بظهور إيديولوجيات متطرفة تدفع بمفاهيم جديدة حول نقاء الأصل وصفاء الهوية. إلى ذلك فإن عملية محاكاة النموذج الغربي ستقود إلى سلسلة لانهائية من التقليد المفتعل الذي تصطرع فيه التصورات، وهو يصطدم بالنماذج الموروثة التي ستبعث على أنها نُظم رمزية تمثل رأسمال قابل للاستثمار الأيديولوجي عرقياً وثقافياً ودينياً".
إن إيديولوجيات الإرهاب الحديثة ما هي إلا نتاج استثمار سياسي يتصل بتوجّهات ومصالح تتعدى الحدود الوطنية، وحتى الإقليمية. وقد خلقت العولمة مناخاً مساعداً لتفاقم ظاهرة الإرهاب وانتعاشها وانتشارها. ومهما قلنا عن دالات العنف الماكثة في النصوص الأصلية المقدسة منها والدنيوية، بشروحاتها وتأويلاتها فليس النص هو المحرِّك الرئيس بل المؤسسة المتبنية له والخطاب ( المنقوع بالسياسة مهما تقنّع وأنكر ) الذي يعيد صياغة وإنتاج ذلك النص ( القديم ) ويؤوله على وفق حسابات الحاضر من منظور المؤسسة ومصالحها في سياق سياسي ـ ثقافي عام. ليصبح جزءاً من مفاعيل الصراع والعنف.
وما يجب أن نفهمه هو أن "الثقافة ليست ذات أهمية متفردة في تقرير حياتنا وهوياتنا. هناك أشياء أخرى، مثل الطبقة، والعنصر، والنوع، والمهنة، والسياسات، لها دورها المؤثر أيضاً، ويمكن أن يكون دوراً شديد القوة" على حد تعبير أمارتيا صن.
نعرف أن ثقافة أية أمة أو جماعة هي إرث هائل ومتنوع، وحين تُحدد تلك الأمة أو الجماعة هويتها، في مرحلة من تاريخها، فإنها تبرز جوانب من تلك الثقافة وتخفي أخرى أو تتناساها. حيث أن أولوياتها بهذا الشأن تكون محكومة بجملة الظروف التي تعيشها، والتحديات التي تواجهها، والغايات التي تتوخاها. والعملية برمتها تحدث في ضوء مفاعيل شبكة علاقات القوة، والمصالح الاقتصادية والسياسية الخاصة بالمؤسسات المتحكمة بمفاصل السلطة بأشكالها، وتأثيرات مراكز القوى والضغط.. فضلاً عن أن الثقافات "لا تُحدد فقط بما هو داخلي بالنسبة إليها وإنما بكيفية تشكيل نفسها ضد ثقافات أخرى وبواسطتها". وبالتالي لا نكون إزاء ثقافة نقية صادرة من منبع جوهراني قديم، وإنما إزاء اختيارات وتأويلات وتحيّزات وإقصاءات تقتضيها تلك العوامل.
إن وعي الفرد بأن له هويات متعددة، يبعده عن حفر خندق العزلة بينه وبين الآخرين، فهو إذذاك سيعثر حتماً على ما يشترك فيه معهم.. ولأغراض غير شريفة حاولت مؤسسات بعينها سجن الأفراد داخل هوية مفردة متلقاة.. وهناك من تحدث عن حتمية ثقافية لا يمكن للفرد التملص من عقابيلها.. هذه الحتمية الخالقة لهويات مفردة متصادمة، وإلى الأبد..
يورد أمارتيا صن في كتابه ( الهوية والعنف ) واقعة الشغب الدامي الذي حصل بين الهندوس والمسلمين حيث "قتل السفاحون الهندوسيون المسلمين الفقراء المستضعفين بسهولة، بينما ذبح السفاحون المسلمون الهندوس الفقراء من دون اهتمام. وعلى رغم أن الهويات الاجتماعية لهاتين الجماعتين من الفرائس المستوحشة كانت مختلفة تماماً. فإن هوياتهم الطبقية ( كعمال فقراء لا يملكون وسائل اقتصادية ) كانت متماثلة. لكن لم تكن ثمة هوية أخرى غير العرقية الدينية أتيح أن تكون لها أي أهمية في تلك الأيام التي سادت فيها النظرة الاستقطابية المركزة على تصنيف انفرادي. إن وهم واقع صدامي متفرد اختزل الكائنات البشرية تماماً، وحرّم الأبطال من حرية التفكير".



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن