خوذَة الجندي العراقي عبد علي !.

الحكيم البابلي

2015 / 10 / 22

* قبل عدة سنوات، في أميركا، قمتُ ببيع محلي التجاري لبيع الخمور، بعد أن إحتفظتُ به لمدة 21 عاماً كانت من أقسى وأمَر سنوات حياتي، وأشدها ظلمةً وتعاسةً وألماً، حيث واجهتُ خلالها أخطر الحوادث والمواقف في حياتي، كون محلي كان يقع في منطقة سُكنى الأميركان السود، وهذه تعتبر من أخطر المناطق لمن يحاول أن يكسب عيشه، ولكن .. وكما يقول المثل ألأميركي
A man s gotta do what a man s gotta do
خاصةً لمن كان له عائلة وأطفال ومسؤولية تُلزمهُ بالتضحية ونكران الذات، وكما يقول الإمام علي: "أفضل الأعمال ما أكرهتَ عليه نفسك"، وهذا ما أُسميه ب ( معاناة الإرادة ).

كنتُ وعمالي نُدير المحل من خلف الزجاج نوعية واقيات الرصاص، خوفاً وتفادياً من السطو المسلح ( هولد آب ) في مثل هذه المناطق، لهذا كنتُ أحمل مسدسين على الدوام، وأثناء دخولي وخروجي من وإلى المحل التجاري، إضافة لبعض الأسلحة الأخرى التي كانت في حوزتنا قانونياً عند الحاجة لها في حالات الضرورة القصوى !.
هذه الحالة الخطرة لم تكن خاصة بيَ وبمحلي فقط، بل كانت نفس حالة 90% من المحلات التجارية في مناطق سكنى الأميركان السود، وبغض النظر عن نوع المحل ومساحته أو نوع التجارة التي تُمارس فيه، كذلك كانت هذه نفس الحال التي تسير بموجبها وعلى نمطها الحياة اليومية في مناطق الأميركان السود، وهذا واضح ومعلوم ويحدث كل يوم وكل ساعة في أنحاء الولايات الأميركية والموَثَق حتى في الأفلام الأميركية.

* بعد كل تلك السنوات الطويلة الشاقة المُتعبة التي بنيت فيها عظمي وعمودي الفقري، ووفرت من خلالها العيش اللازم والرفاهية لعائلتي، أحسستُ انني مُتعبٌ جداً ومعطوبٌ ومُستَهلَك نوعاً ما، نفسياً وجسدياً وفكرياً، وربما وصلتُ لمرحلة الإشباع ولن أتحمل المزيد!، والضغط على النفس والجسد في حالات كهذه مُخاطرة كبيرة جداً حسب مفاهيمي وسقف ثقافتي.
لهذا قمتُ ببيع المحل التجاري مع البناية، وأخذتُ راحة لمدة سنتين متواليتين، فكرتُ بعدها بشراء مشروع عمل آخر ولكن في مناطق سكن الأميركان البيض هذه المرة وحيث كنتُ أسكن وعائلتي منذ بداية زواجي.
لهذا رحتُ أبحث عن أي محل تجاري أكون قادراً على شرائه وإدارته، حيث المحلات في مناطق البيض أغلى بكثير جداً من شبيهاتها في مناطق السود. ولكن في هذه المرة ستكون معي زوجتي أو واحدة من بناتي لمساعدتي حيث مخاطر المهنة في مناطق سكن الأميركان البيض -بالمقارنة- ضئيلة جداً وتكاد لا تُذكر.
وهكذا بدأت البحث والتنقيب في المناطق التي تحوط سكني بمسافة قطر دائرة سعتها عشرة أميال.
المهم …. ذهبتُ يوماً تُرافقني زوجتي لرؤية محل لبيع الخمور كان معروضاً للبيع ويقع على مبعدة 12 ميلاً من بيتي، لكنه لم يرق لنا أبداً، كونَ محتوياته قديمة وبحاجة إلى عمليات ترميم وصيانة وتجديد كُلي بكلفة عالية بحيث ستكون "البطانة أغلى من الوجه" كما يقول المثل العراقي العامي!.
حين خروجنا من المحل أضعنا طريق العودة إلى البيت!، ولم نكن نملك يومها ( نافِكيشِن ) لتدلنا على الطرق مهما كانت صعوبة إيجادها، وأثناء محاولتنا للوصول إلى أي طريق يؤدي إلى البيت رأينا محلاً آخراً لبيع الخمور على جانب الطريق، فترجلنا ودخلنا المحل عسى أن يعجبنا وهنا سنعرض على صاحب المحل المبلغ الكافي والمُقنع أـو المُغري لشراء المحل.
ولكن .. هذا المحل أيضاً -وكسابقه- لم يكن بصورة مُغرية أو حتى لا بأس بها، ولهذا لم نُباشر أي حديث أو سؤال مع صاحب المحل الذي كان جالساً خلف ( الكاونتر ) يتجاذب الحديث مع شاب ربما في العقد الثالث من عمره. قمنا بشراء زجاجتي كوكا كولا وهممنا بالخروج، وفجأةً لمحتُ خوذة باللون الأخضر الغامق مُلقاة بإهمال على طاولة خلف الرجلين يعلوها طبقة خفيفة من الغبار. وإنتبهتُ بسرعة البرق إلى الكلمات المكتوبة بالصبغ الأبيض على مُقدمة الخوذة وبالخط العربي الذي كُتب بإهمال وعدم إتقان كما يظهر: (( عبد علي ))!!، وهو حتماً إسم صاحب تلك الخوذة، وخمنتُ بأن ( عبد علي ) هذا لا بد أن يكون جندي عراقي، حيث لم يسبق لي أن سمعتُ أو علمتُ بأن العرب الآخرين يستعملون إسم ( عبد علي )، وهو أما إسم عراقي أو ربما خليجي !!. وهذه الأحداث التي أرويها لكم كانت بعد الغزو الأميركي للعراق بسنوات قليلة.
حدقتُ في الخوذة لبضعة ثواني، ثم سألتُ الرجلين:
- هل هذه الخوذة كانت تابعة لجندي عراقي ؟.
أجابني الشاب مباشرةً:
- نعم .. وكيف عرفتَ ذلك !؟.
قلتُ له:
- لإنني عراقي وأقرأ الكتابة العربية.
سألني الشاب بعد أن نهض عن كرسيه بإهتمام:
- وماذا تقول هذه الكِتابة؟.
- تقول إسم صاحب الخوذة، عبد علي.
سألني مرة ثانية:
- تلفظ الإسم ببطيء رجاءً.
قلتُ له:
- عبد علي .
قال:
- هل أنت من لاجئي الحرب القادمين إلى الولايات المتحدة الأميركية ؟
قلتُ:
- لا .. أنا أعيش هنا منذ سنة 1974 ، ولكن دعني أسألك سؤالاً أعرف أنه غير لائق كونه قد يُحرجك، وبإمكانك عدم الإجابة عنه إن شئتَ:
- هل قتلتَ صاحب هذه الخوذة في واحدة من المعارك هناك ؟.
قال:
- لا أبداً، ولحسن حظي لم أقتُل أحداً أثناء تأديتي لواجب الخدمة العسكرية، كوني لا أؤمن بالعنف، لكني كنتُ أؤدي واجبي فقط كجندي هناك، بعدها أصابتني شظية عبوة ناسفة هناك، تسببت في حدوث إعاقة لساقي الأيمن، لهذا عدتُ إلى أميركا. وحدث أنه قبل إصابتي، وأثناء التقدم من جهة الكويت إلى داخل العراق، كانت هناك الكثير من الآليات العراقية المعطوبة والمصابة بالصواريخ والقنابل الأميركية جواً وبراً، وكانت المئات من أجساد وبقايا الجنود العراقيين متناثرة حول تلك الآليات، وقمنا بأخذ الكثير من حاجياتهم كتذكارات ( سوفنير ) كما يفعل كل الجنود في حروب العالم، وقد جلبتُ معي هذه الخوذة ومسدس روسي الصنع ويشماغ أحمر وخنجر مُطعم بالفضة.
صمتُ للحظات وأنا أحاول إستعادة بعض تلك المشاهد في مُخيلتي، والتي طالما شاهدناها على شاشات التلفزيون الأميركي، وكنتُ أسمع خِلال تلك اللحظات إنهيار وتكسر عوالم كثيرة في داخلي، حرصتُ على عدم إنهيارها لسنوات طويلة !!، قلتُ له بعدها:
- هل تبيعني هذه الخوذة ؟.
قال وبسرعة من كان قد فكر وقرر ذلك:
- نعم بالتأكيد .. ولكن يعتمد الأمر على المبلغ الذي ستعرضه عليَ.
بعد صمت قصير ولحظات تفكير كنتُ أسمع في أثنائها تأفف وتذمر زوجتي قلتُ له:
- ما رأيك بمئة دولار ؟.
صمت هو الآخر مُبتسماً وكأنه يسخر من العرض!، وأظنه كان يفكر بسرعة ويحاول أن يمتص مني أكبر مبلغ مُمكن بعد أن لمس مقدار إهتمامي بتلك الخوذة العراقية، ثم قال:
- لا .. ليس ذلك مبلغاً مُغرياً أبداً، فقد عرض عليَ أحد الزبائن قبل أيام مبلغ 700 دولار!!.
- قلتُ له وأنا أعلم يقيناً أنه يُبالغ:
- من حقك أن تبيعها بمليون دولار إن كان هناك شاري حقاً، فالخوذة ملكك الآن، وأنت من سيقرر الثمن حتماً، لكني أعرض عليك مبلغاً جديداً هو 200 دولار وهو مبلغ كبير بالنسبة لخوذة حربية، ولن أعطيك أكثر من ذلك، ثم ما الذي ستجنيه من الإحتفاظ بخوذة لجندي عراقي ؟.
أجاب بسرعة وهو يقهقه بمودة:
- وما الذي ستجنيه أنتَ منها يا سيدي ؟.
لكني لم أُجيبه على سؤاله، حيث لا أعتقد أنه كان سيفهم ويستوعب نوع العلاقة التي ربطتني خلال دقائق معدودات بهذه الخوذة.
الحق لم يكن في جيبي أكثر من مبلغ 200 دولاراً، ومع إلحاح زوجتي ونكدها وتذمرها وتكرار (أوامرها) لي بمغادرة المحل، لم يتبق أمامي إلا الرضوخ للواقع ومغادرة المحل، بينما الشاب يحاول إغرائي أثناء مغادرتي مع زوجتي وهو يصرخ خلفنا بلهجة ودودة:
- طيب طيب يا سيد .. إعطني 500 دولار فقط وستكون مُلكَكَ.
لكني لم ألتفت، بل خرجتُ من المحل وتذمرات زوجتي تصك سمعي.
لاحقني الشاب إلى حيث سيارتي وهو يعرج وقال لي: طيب .. هل تود شراء المسدس الروسي أو اليشماغ الأحمر أو ربما الخنجر العربي المُطعم بالفضة ؟.
قلتُ له وأنا أتحرك بسيارتي مغادراً:
- هذه الحاجيات لا تعنيني ولا تستهويني، أريد الخوذة فقط.
قال بإصرار ووجه جامد كوجوه لاعبي البوكر:
- ليس بأقل من 500 دولار.
ضغطتُ على دواسة البنزين وغادرتُ مِربض وقوف السيارات إلى الشارع في طريقي لإيجاد بيتي بعد هذه الجولة التي آلمتني وفتحت في داخلي جروحاً قديمة كنتُ أظن إنها قد إلتئمَت !.
طوال الطريق إلى البيت كنتُ حزيناً مُكتئباً وشارداً مع أفكاري بحيث لم أسمع أو أفهم كلمة واحدة من تذمر زوجتي وإعتراضها على رغبتي في شراء خوذة حربية لا تساوي دولاراً واحداً برأيها وحسب قولها!!!!!!!.

* ليلتها جافاني النوم، وأصابني الأرق ووجع الرأس لدرجة مُزعجة جداً، تذكرتُ أخوتي ( نبيل وفيصل ) اللذان قُتلا في معارك الحكام المسوخ صدام والخميني، وكأن تلك الخوذة كانت تابعة لإحدهما.
لا أدري لماذا سحرتني الخوذة الخضراء لتلك الدرجة غير الطبيعية!، بحيث ندمتُ لإنني لم أعد في نفس اليوم لشرائها، لإنها كانت تصرخ بيَ وتطلب مني أن أنقذها وأعود بها إلى بيتي حيث ستكون مُعززة مُكرمة للبقية الباقية من حياتي وليس من حياتها.
في صباح اليوم التالي ركبتُ سيارتي ورحتُ أبحث عن محل بيع الخمور الذي رأيتُ في داخله تلك الخوذة العراقية. لكنني لم أهتدي له رغم بحثي الدقيق المتواصل ربما لثلاث ساعات، مَشَطتُ خِلالها كل تلك المنطقة السكنية طولاً وعرضاً، ولكن دون فائدة تُذكر!، فكأن ذلك المحل إختفى من فوق الخريطة كما كانت تختفي الطائرات والسفن الماخرة عبر أجواء ومياه مُثلث برمودا !!.
عدتُ بعد أيام في جولة أخرى لتلك المنطقة وأنا أحمل المبلغ الكافي لشراء الخوذة التي قررتُ هذه المرة أن أشتريها حتى لو كلفتني أضعاف ما طلب فيها ذلك الجندي الأميركي الجريح، لكن محاولاتي الصبورة المتكررة باءت بالفشل، وكأن ذلك المحل التجاري كان حُلماً وليس حقيقة!.

* خلال السنوات المنصرمة لم أستطع أن أنسى خوذة الجندي ( عبد علي )، كنتُ أحياناً أفكر بالموضوع وأتسائل في سري: من كان عبد علي هذا في حياته المدنية قبل زجه قسراً في الجيش العراقي كما كان الحال مع الآلاف المؤلفة من ( أولاد الخايبة ) كأخوتي وغيرهم!؟.
كم كان عمره يا ترى ؟، وماذا كانت أوصافه ؟، لونه ؟، تفاصيل وجهه ؟، نوعية شخصيته ؟، لكنته ؟، ومن أية قرية فقيرة متواضعة تحدر؟، وماذا كان يفكر قبل موته بلحظات ؟، وهل تعذب بسبب جراحه -ربما- قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ؟، وماذا كان حال أُمه المسكينة بعد قتله ؟،
وعشرات ومئات الأسئلة التي سبق أن راودتني بعد إستشهاد أخوتي نبيل وفيصل، لدرجة بدأتُ أشعر وبكل صدق وتعاطف ومحبة بأن ( عبد علي ) كان أحد أخوتي وابناء بيتي وأمي التي ماتت متأثرة حزناً بعد أن فُقِدَ أخي الكبير نبيل في معارك ( ديزفول ) في الأشهر الأولى من تلك الحرب الهمجية اللعينة، ولم يعثروا حتى على جثته ليُعلِموا أهله وزوجته وأطفاله بأنه تم إستشهاده ودفنه كما يُليق بأي جندي أو إنسان أو حتى حيوان نفق على قارعة الطريق!.
الإنسان في بلادي وفي كل الشرق لا قيمة له للأسف، كالكلب بالضبط، يموت في الحروب المستمرة ولا أحد حتى يعلم أين تم دفنه !!، هكذا كانت أحوال الحرب بين العراق وإيران، حيث كانوا يحفرون بالبلدوزرات والجرافات حفر كبيرة وعميقة ليدفنوا فيها العشرات من جنود الطرف الآخر الميتين، بعد أن يسلبوهم حاجياتهم الخاصة التي من المفروض أن يقوم الطرف المُعادي بإيصال -ولو- الهوية الشخصية للميت إلى منظمات الصليب الأحمر أو غيرها، ولكن …
ويظهر أنه حتى الأميركان الذين يدعون التحضر تعلموا من شعوبنا الشرقية عدم إحترام الجندي الميت للطرف الآخر، والذي لا قيمة له كالكلب!!، بينما هناك آلاف المقابر للكلاب الميتة في أميركا قد لا يُصدق القاريء مدى البذخ الخرافي الحجم الذي يرافقها !!!!.
كل تلك الأمور كانت تدعوني للبكاء مرات ومرات وأنأ أسترجع في ذاكرتي ذلك الخط العربي غير المتناسق وبالصبغ الأبيض فوق مقدمة الخوذة والذي يقول لنا بأن هذه خوذة إنسان عراقي من وادي الرافدين كان يحمل إسم ( عبد علي )، وكان ذات يوم يتنفس ويعمل ويأكل ويعيش ويضحك وربما يُفكر في الزواج وتكوين عائلة متواضعة ستعيش قرب واحدة من أنهار العراق وروافدها لتنهض كل صباح على صياح الديكة وهي تستقبل بكل فرح وسعادة وطمأنينة الحياة والشمس المعطاءة التي أشرقت فوق أرض الرافدين لملايين السنين !!، ولكن …... وآه من لكن هذه.

الحق إنني لستُ من المؤمنين بالجنة والنار والحياة الأخرى !!، مع ذلك أقول:
- لا أعرف أين أنتَ اليوم أخي عبد علي، كما لا أعرف أين هم أخوتي نبيل وفيصل، ولكن .. أينما تكونون أُرسل لكم بطاقة حب وإعتزاز صغيرة تقول لكم: سامحونا جميعاً، وعسى أن نلتقي يوماً وبطريقةٍ ما .. عِبرَ هذا الكون الرهيب، من يدري … ربما !.

المجد للإنسان.
october - 21 - 2015
طلعت ميشو.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن