الفكر الاجتماعي في الحضارات الشرقية القديمة 2/2

حسني إبراهيم عبد العظيم
drhosni2512011@yahoo.com

2015 / 10 / 18

ثالثا: التفكير الاجتماعي في الحضارات الشرقية القديمة:
(الحضارة المصرية نموذجا)

قامت على ضفاف نهر النيل منذ أكثر من أربعة آلاف عام قبل الميلاد الحضارة المصرية القديمة التي تعد من أقدم الحضارات التي عرفها العالم القديم, وكانت من أبرز مظاهر هذه الحضارة الآثار العريقة التي مازالت تشهد على عظمتها المادية، وتطورها الفكري, وأنظمتها الإدارية القومية, وبنيانها الراسخ الذي استمر طوال هذه القرون, وأثرت بطريقة مباشرة وغير مباشرة.

وما نشاهده من آثار هذه الحضارة والمتمثل في بعض رموزها كالأهرام, وأبي الهول, ومعابد أبي سنبل, وما وصلنا من أخبارها فيما يتعلق بعمليات تحنيط الموتى, والحساب الفلكي, والأعمال الهندسية, إنما يؤشر على قوة النظم الاجتماعية والدينية والسياسية ولاقتصادية التي كانت خلف هذا التقدم.

ولقد أثرت البيئة الطبيعية بشكل ما في قيام هذا الحضارة, فنهر النيل يجري وسط سهول منبسطة خصبة, سـهّل علي المصري القديم استخدامه في ري الأرض ومن ثم تقدم الزراعة وتنوعها, كما أن مجري النهر صالح للملاحة طوال العام, مما ساعد على سهولة الاتصال بين جميع أجزاء القطر المصري من الشمال إلي الجنوب, وبالعكس. وقد أدي انحصار نهر النيل بين الصحاري التي تحيط به من الشرق والغرب إلى تجمع المصريين حوله, فأقاموا القرى والمدن قريبة من بعضها، مما أوجد تجمعات بشرية قامت بين أفرادها علاقات اجتماعية واقتصادية وثقافية ودينية قوية, فمصر من أوائل المجتمعات التى عرفت فكرة الوحدة القومية بين أبناء شعبها.

وبالإضافة إلي ذلك , فإن اعتدال المناخ, وظهور الشمس على مدار العام, وندرة الظواهر الجوية الخارقة كالأمطار الغزيرة أو الرياح العاصفة, والرعد والبرق والعواصف, وانعدام الكوارث الطبيعية, أثر كل ذلك في التكوين النفسي للإنسان المصري, وجعله يألف الاستقرار والرضا والقناعة, وينبذ الاضطراب فى الحياة العامة والخاصة, وهذا سر إبداعه في فن البناء والعمارة, وحبه للحياة حتى إيمانه بالخلود بعد الموت.

وإذا حللنا اتجاهات الفكر الاجتماعي في الحضارة المصرية القديمة بصورة عامة, يتبين لنا أن هناك أربع سمات أساسية لهذا الفكر نوضحها فيما يلي:

أولاً: الارتباط الوثيق بالدين:

انصب جل تفكير المصريين القدماء على النواحي الدينية, وخاصة فكرة البعث والخلود ويوم الحساب, لقد حرص المصري القديم على البحث عن الحقيقة الأولي في حياة الإنسان, وهي الموت, ووضع المصري القديم كتاب الموتى Book of the Dead الذي وصفه المؤرخ الانجليزي "السير والاس بادج" Sir wallis Badge بأنه أعظم الملاحم في تاريخ الفكر الإنساني, ويحوي هذا الكتاب نصوص المقابر المصرية القديمة, أو النصوص الجنائزية, حيث تصور الإنسان وهو يحاسب علي ما فعل في الدنيا أمام الآلهة, لقد توصل المصري إلى الحقيقة القائلة بأن الروح لا تفني ولا تموت.
وكان من نتيجة الاعتقاد في البعث والخلود نبوغ المصري القديم في فن التحنيط الذي لم تُكشف كل أسراره حتى الوقت الراهن, وكان من نتيجة ذلك أيضاً بناء المعابد الضخمة لعبادة الآلهة, وإنشاء الأهرام التي تعد في الأصل مقابر, وأحسنوا بنائها لكي تكون مكاناً ملائماً للحياة الأخرى, وكانوا يضعون مع الموتى كل أمتعتهم الدنيوية.

ويعتقد علماء المصريات Egyptologists أن المصري يميل إلى التدين بطبعه, ولذلك فإنه يقدر رجال الدين باعتبارهم رمزاً للعقيدة, وكان من نتيجة ذلك أن أصبح للكهنة مكانة اجتماعية متميزة في المجتمع, ونالوا احترام كل طوائفه, ولم تقل مكانتهم عن مكانة رجال الحكم والوزراء في المجتمع.

ولقد تطور الفكر الديني علي يد اخناتون في القرن الرابع عشر قبل الميلاد, حيث دعا إلى عقيدة التوحيد, أي عبادة الآلة الواحد بدلاً من تعدد الإلهة, وقد كان إخناتون فرعوناً في الأصل وهو أمنحتب الرابع, وقد فرض عبادة آتون (قرص الشمس) في عام 3600 ق.م.

ثانيا: الاهتمام بالنواحي التطبيقية:

برع المصريون القدماء في الاستخدام العملي التطبيقي للمعارف التي يملكونها, حيث كانت لديهم خبرات كبيرة أتاحت لهم تحقيق إنجازات عملية هائلة, وقد وضح ذلك في العديد من المجالات:

ففي مجال البناء والعمارة تم تشييد بنايات عملاقة كالمعابد, والمقابر, والأهرام التي كانت معجزة حقيقية بكل المقاييس, فالهرم الأكبر على سبيل المثال الذي بناه الملك خوفو منذ 4600 عام تبلغ مساحة قاعدته 232م2, ويبلغ ارتفاعه 174 متراً، وقد استخدم في بنائه ما يزيد عن مليوني كتلة صخرية ضخمة، أما الهرم الأوسط الذي بناه ابنه خفرع فيقل حجمه بنسبه 20% عن الهرم الأكبر.

وفي مجال الطب والصيدلة, اخترع المصريون العديد من الأدوات الجراحية المتطورة, وتم إقامة مدارس لتعليم الطب , يتم فيها التعليم الطبي بصورة منظمة, ولم يكن يسمح للطبيب بالممارسة إلا بعد اختبارات معقدة, وكان يمنح الطبيب ترخيصاً بالممارسة, يناظر الشهادات الطبية المعاصرة, كما صنع المصريون العديد من الأدوية المستخرجة من الأعشاب التي كانت متاحة في البيئة المصرية في ذلك الوقت.

أما في المجال السياسي والإداري, فقد نشأت في ظل الحضارة المصرية ظاهرة السلطة السياسية, حيث ظهرت فكرة الملك الآله الذي له وحده سلطة الحكم والتدبير, والقائم على موازين القسط والعدالة, وللملك المصري من الناحية النظرية سلطة مطلقة علي الأرض والناس، فكانت طاقات مصر البشرية وقدراتها الزراعية وثرواتها الحيوانية والمعدنية ملك الفرعون (ذلك الإله المتجسد).

وقد عرف المصريون التنظيم التصاعدي في علاقات السلطة, فيقف على رأس السلطة الملك الإله, ثم تأتي بعده طبقة رجال الدين (الكهنة) ثم رجال الدولة (الوزراء) ثم أفراد الشعب في قاعدة هرم السلطة, وقد قسمت الدولة من الناحية الإدارية إلى عدة ولايات يحكمها ولاة من جانب الملك, كما كان الجيش ينظم تنظيماً دقيقاً, ويتسم بالتدرج الحاد في السلطة. وتوصل القادة السياسيون إلي فكرة المعاهدات الدولية, مثل معاهدة السلام التى تمت بن رمسيس الثاني, وملك الحيثيين, وتعد هذه المعاهدة أقدم معاهدة دولية معروفة في التاريخ الانساني.

وفي مجال الفلك بلغوا درجة عالية من التقدم, حيث كانت لدي المصريين معارف فلكية كثيرة مكنتهم من التعرف علي مواعيد الفصول وسماتها المناخية, وأدى ذلك إلى تطور الزراعة, حيث عرفوا مدى ملائمة أنواع معينه من المحاصيل مع فصول السنة المختلفة، وتوصل المصريون القدماء إلى التقويم الفلكي, وكان ذلك في الألف الخامسة قبل الميلاد، وهو أقدم تقويم في تاريخ الإنسان. وقد تجلي نبوغ المصريين في المجال الفلكي في بنائهم لتمثال للملك رمسيس الثاني تشرق الشمس علي وجهه مرتين في العام, يوم ميلاده, ويوم توليه عرش مصر.

ثالثا: ظهور فكرة إجراء البحث الاجتماعي:

بدأت بواكير البحث الاجتماعي في إطار الحضارة المصرية القديمة, وذلك من خلال بعض التعدادات العامة للثروة البشرية والحيوانية والنباتية للمجتمع, من أجل التعرف على مدى كفايتها خلال فترة زمنية معينة.

فلقد سجل " هيرودت" الأبحاث التى كان يجريها ملوك مصر عن السكان والثروة لمعرفة الظروف الاجتماعية والاقتصادية للدولة, وتحديد حاجة كل إقليم من الحبوب وغيرها من المواد الغذائية. وقد أسس المصريون القدماء إلى فكرة البحوث الاحصائية, حيث توصلوا إلى نظم تعداد السكان , وإجراه إحصاءات حول عناصر الثروة, وقد كان تعداد السكان يجري بصورة دورية, وأجريت إحصاءات دقيقة عن الثروة الزراعية والحيوانية والمعدنية للوقوف علي كافة التفاصيل المتعلقة بالوضع الاقتصادي للدولة, ووضع الخطط لمواجهة المشكلات الطارئة.

وتذكر المصادر التاريخية والدينية أن المجتمع المصري القديم كان على دراية بما يعرف الآن بعلم إدارة الأزمة, ويقصد به الإدارة العلمية السليمة للأزمات أو المشكلات التى يواجهها المجتمع, وخير مثال على ذلك ما حدث في عهد نبي الله يوسف عليه السلام, عندما حدثت مشكلة الكساد الضخمة في مصر, والتي وردت تفاصيلها في القرآن الكريم في سورة يوسف.

ولقد كانت المعابد المصرية القديمة بمثابة مراكز للبحث العلمي والاجتماعي، بالإضافة إلى وظيفتها الدينية, حيث كانت مراكز للإشعاع الحضاري, يتم فيها التعليم الديني والبحث العلمي التجريبي, والبحث الاجتماعي, وقد ساعد توصل المصريين إلى الكتابة علي تطور البحوث العلمية والفنون والآداب.

رابعاً: تطور القيم الأخلاقية والاجتماعية:

نشأت في ظل الحضارة المصرية مجموعة من القيم الاجتماعية, والمثل الأخلاقية, حيث تثبت المصادر التاريخية اهتمام المصريين بالجوانب الأخلاقية والإنسانية من أجل المحافظة علي بنية المجتمع واستقراره.

ولقد تبلورت أولى الفضائل في مصر في طاعة الوالدين, والامتثال لأوامر الرئيس, وفي القدرة علي كبح جماح اللسان في جميع المناسبات, ثم يأتي بعد ذلك أدب الحديث, وحسن التصرف في المواقف, والأمانة في أداء الرسالة, والتواضع مع الأخرين.

وبالإضافة إلي ذلك, فقد تأصلت في المصريين فكرة المواطنة, فالشعب المصري من أقدم الشعوب التي عرفت الفكرة الوطنية, القائمة على التماسك والاتحاد في وجه أي خطر سواء كان مصدره الداخل أو الخارج, ويرجع ذلك إلي طول مراحل الاستقرار, ولذلك فإن قيمة الانتماء للأرض تمثل إحدي القيم الأصيلة في نفوس المصريين.

وتكشف الوثائق المصرية القديمة عن اهتمام المصريين ببعض القيم الاجتماعية, مثل تشجيع الزواج المبكر من أجل العفاف وحفظ الأعراض, وإنتاج نشء صالح يخدم المجتمع، وحرم رجال الدين تناول لحم الخنزير, وإجهاض الحوامل, كما نصت البرديات على بث روح التكافل والتعاون بين أفراد المجتمع باعتبارهم ينتمون لوطن واحد مقدس.

وقد كانت المعابد مراكز للبر والإحسان إلى الفقراء, وكان الملوك يرأسون الحفلات التي تجمع فيها التبرعات وتقدم القرابين في مواسم معينة وتوزع على الفقراء والمحتاجين, كما كان الملوك يأمرون بإدخال الفقراء إلى الحمامات العامة مجاناً ومنحهم الطعام والملابس, وقد استخدمت المعابد في بعض الأحيان كملاجئ للعجزة والمرضي بأمراض عضوية أو نفسية.

يتضح مما سبق أن الفكر الاجتماعي في الحضارة المصرية كان يجمع بين النواحي الدينية والعلمية والإنسانية, ويؤخذ على الفكر المصري القديم أنه ربط كل الظواهر بالآلهة, ولم يتمكن المصريون القدماء من صياغة قوانين أو نظريات علمية, على الرغم من امتلاكهم لرصيد ضخم من المعارف, استفادوا بها في النواحي التطبيقية, فقد اكتفي المصري القديم بالاستفادة من التطبيقات المباشرة, ولم يشغلوا أنفسهم بتطوير معارفهم إلى نظريات أو قوانين علميةمحددة.

وقد كان للحضارة المصرية القديمة تأثيرات واضحة علي الحضارات الأخرى, وخاصة الحضارة اليونانية, إذ استفاد اليونانيون من الحضارة المصرية القديمة, خاصة من جانبها العملي التطبيقي, وهناك روايات تاريخية عديدة تحكي عن اتصال كبار مفكري اليونان وفلاسفته بالمجتمع المصري, حيث سافروا إلي مصر وأقاموا فيها طويلاً, ومنهم هيرودوت وأفلاطون.

والخلاصة مما سبق أن الفكر الاجتماعي في الحضارات الشرقية بشكل عام يمثل الأساس القوي الذي قامت عليه كل الحضارات الإنسانية فيما بعد خاصة الحضارة اليونانية التي أسست للنهضة الأوربية القديمة والحديثة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن