بين تونس والسودان حواران مختلفان

خالد فضل
tabashier_2007@yahoo.ca

2015 / 10 / 15


شكّل منح جائزة نوبل للسلام للعام2015م , للرباعي المدني التونسي , نقطة حاسمة ومهمة في مسيرة العمل الديمقراطي المدني في المنطقة العربية والافريقية , ذلك أنّ الاعتراف بدور وجهود تلك الهيئات الوطنية التونسية الأربع قد جاء هذه المرّة من واحدة من أعلى الهيئات والموسسات الدولية ذات المصداقية العالية , وعدم تأثرها المباشر بسياسات دولة أو دول من ذوات السطوة العالمية . والرباعي التونسي الذي رعى عملية الحوار الوطني التونسي خلال العام 1013م , كان قد تمكّن بالفعل من قيادة تلك العملية الحيوية والتي قادت محصّلتها النهائية الى وضع تونس على المسار الصحيح كبلد يطمح الى اتمام عملية البناء الديمقراطي والانتقال نهائيا من خانة البلدان الموبؤة بالاستبداد والديكتاتورية , وهو المسار الذي اندلعت لاجله ثورة الشعب التونسي في مطلع العام 2011م كباكورة لما عرف لاحقا بثورات الربيع العربي , ولعل عبارة ذلك الأستاذ التونسي التي صارت من القول المأثور في المجتمعات العربية (لقد هرمنا في انتظار هذه اللحظة التاريخية), قد عبّرت في الواقع عن توق جماعي في أوساط المجتمعات المقموعة للإنعتاق من ربقة الجلادين (الوطنيين ) مع الأسف . كما أنّ تشكيل الرباعي التونسي الذي استحق جائزة نوبل للسلام لهذا العام , ينمّ عن دور مستمر ومتعاظم للهيئات والمنظمات الوطنية المدنية , فهي في الواقع تمثّل صميم انشغالات الناس العاديين بمختلف ميولهم واتجاهاتهم بعيدا عن سطوة الآيدولوجيات الحزبية , والمطامح (المشروعة طبعا) للوصول الى السلطة تلك المطامح التي تبلغ حدّ التكالب والتهافت في بعض الأحيان كما سنرى في التجربة السودانية الراهنة مع الحوار الوطني , فالاتحاد العام للشغل يمثل قطاعات الموظفين والعمال العموميين بمختلف نقاباتهم واتحاداتهم المهنية في سلك الخدمة المدنية , أمّا اتجاد الصناعة والزراعة والصناعات التقليدية فيمثل القطاعات المنتجة في القطاع الخاص , والاتحاد الوطني للمحاميين يشكل أحد دروع الدفاع عن مصالح الناس والزود عن الحريات العامة , وكذلك الهيئة الوطنية للدفاع عن حقوق الانسان والتي تشكل ذروة النظام الديمقراطي , فالديمقراطية كما هو معلوم ليست غاية في ذاتها بل هي وسيلة لضمان وكفالة وصون حقوق الانسان , ذلك الانسان الذي يعتبر بحق هو الغاية التي من أجلها تستغل الوسائل .
هذه ملامح عامة للتجربة التونسية في مضمار الحوار الوطني المثمر , وبقيادة وتسهيل من هيئات وفئات وطنية فاعلة ومؤثرة وتمتلك قواعد شعبية عريضة تمثل تلك الهيئات مصالحها المباشرة , فماذا عن التجربة السودانية ؟ فقد طرح موضوع الحوار الوطني من جانب الرئيس السوداني عمر البشير في ينائر (كانون ثاني)للعام 2014م , منذ ما يقارب العامين تقريبا , وجاءت تلك الدعوة في خطاب ألقاه البشير على حشد من قادة الأحزاب السياسية السودانية التي اختارها البشير لبدء حواره معها , وقد غاب عن ذاك الاجتماع منذ البداية , مجموعة الأحزاب المعارضة التي تشكل تحالفا باسم (قوى الاجماع الوطني) , وعلى رأسها الحزب الشيوعي السوداني , شذّ عن اجماعها حزب المؤتمر الشعبي بزعامة د. حسن الترابي ؛ عرّاب سلطة الاسلاميين السودانيين , ومدبر ومنفذ انقلاب الانقاذ في يونيو1989م, وقد تمّ اقصاؤه بوساطة تلامذته بعد أن دانت لهم السلطة بالقهر والقمع والارهاب الفظيع الذي مارسته ضد كل المخالفين من السودانيين ,في حادثة أثارت الكثير من علامات الاستفهام حول دوافعها , وما إذا كانت إحدى تدابير الاسلاميين ومؤامراتهم للإنحناء أمام عاصفة الضغوط الرهيبة والعزلة شبه التامة في الوسط المحلي الاقليمي والدولي , فأرادوا بابعاد الترابي عن الواجهة درء وتخفيف حدة تلك الضغوط , بيد أنّ واقع الحال يشير الى أنّ التنافس والصراع كان قد بلغ ذروته وسط قيادات الجبهة الاسلامية في اطار التنافس حول السلطة والثروة والاستحواز والنفوذ مما استدعى وقوع ذلك الانقسام , وبالفعل فإنّ قسما من الاسلاميين انفرد بالسلطة بعد ابعاد الشق الآخر بتهمة موالاة الترابي , وحتى داخل جهاز الأمن والشرطة والجيش تمت عمليات تصفية واسعة للمشتبه في موالاتهم للترابي , فأحيل المئات من الضباط للمعاش , وتمت فبركة محاولات انقلابية وهمية كذريعة للتخلص من بعضهم , لكل ذلك , ولأن التلاميذ زجّوا بشيخهم في السجن مرارا خلال عشر السنوات التالية لانقسام ديسمبر1999م, تمّ قبول حزب الترابي ضمن قوى المعارضة السلمية , حتى جاءت دعوة البشير المار ذكرها فخفّ الترابي لحضورها ضاربا عرض الحائط بكل تعهداته ومواثيقه مع قوى الاجماع الوطني بل صار الترابي وحزبه من أكثر المتمسكين بالحوار الوطني بصورة جعلتهم ملكيين أكثر من الملك كما يقال , وهنا تثور الاستفهامات مرّة أخرى عن دواعي الدعوة للحوار الوطني أساسا , وهل تعتبر غطاء للغاية الأساسية وهي اعادة توحيد قيادات الحركة الاسلامية في السودان بعد أن ضاق الخناق على جماعة الاخوان المسلمين في مصر وبلدان الخليج والسعودية وليبيا وتونس ؟ وهل للتنظيم العالمي للاخوان دور في اعداد مسرحية الحوار الوطني السوداني لزوم اخراج مسألة اعادة التوحيد بين الترابي وتلاميذه وكأنها تطور طبيعي لحوار شمل كل السودانيين حسبما تصر أبواق الدعاية الحكومية على وصف الحوار الجاري حاليا , وهو أبعد ما يكون عن صفة الشمول . فقد قاطعه الى جانب قوى الاجماع الوطني المار ذكرها , تنظيم الجبهة الثورية المسلّح , وهو تحالف سياسي عسكري يضم الحركة الشعبية لتحرير السودان (شمال), وثلاثة تنظيمات تحمل اسم حركة جيش تحرير السودان بقيادة (مني أركو مناوي , عبدالواحد محمد النور, وأبوالقاسم الإمام , وقد انضمّ الأخير للجلسة الافتتاحية لمؤتمر الحوار في 8اكتوبر الجاري بعد وساطة من الرئيس التشادي ادريس ديبي , ولا يعرف على وجه الدقة إنْ كان حضوره ذاك يمثل خروجا عن الجبهة الثورية أم مناورة واستكشاف !التنظيم الآخر في الجبهة الثورية هو العدل والمساواة السودانية , ويقوده د. جبريل ابراهيم الذي خلف أخاه د. خليل ابراهيم مؤسس الحركة (تم اغتياله قبل بضعة أعوام في منطقة بولاية شمال كردفان), كذلك قاطع دعوة البشير للحوار الوطني طيف واسع من التنظيمات والحركات السياسية الشبابية ولم تشمل الدعوة منظمات المجتمع المدني الناشطة في مجالات حقوق الانسان .
لذلك تبدو المفارقة بائنة بين دعوة الحوار الوطني التونسي بقيادة اللجنة الرباعية التي استحقّت جائزة نوبل للسلام هذا العام وبين دعوة الحوار الوطني السوداني التي أطلقها الرئيس البشير , وأصرّ على احتكارها وتوجيهها وفق مخطط معد مسبقا فيما يبدو هدفه الأساسي اضفاء نوع من الشرعية على الاستمرار في السلطة , مع انحناءة طفيفة للضغط الشعبي المتزايد والذي مثّلت هبة سبتمبر2013م في الخرطوم وبعض المدن الأخرى نذرا لحجم الرفض الشعبي لسياسات وممارسات سلطة الاسلاميين , كما شكّل العنف المفرط الذي واجهت به حكومة اليشير المتظاهريين السلميين وأعداد الضحايا والمصابين خلال يومين فقط شكّل صدمة قوية وسط عامة المواطنين مما زاد من عزلة النظام الحاكم , وقد تجلّت العزلة في صورة العزوف عن المشاركة والتصويت في الانتخابات التي نظمها حزب البشير في أبريل من هذا العام وجاءت نتائجها حسبما خطط لها بفوز البشير بالرئاسة بنسبة جاوزت94%, وهي من النسب المعتادة بالطبع في نتائج انتخابات الديكتاتوريين , ولكن مع دوران عجلة الحوار الوطني السوداني في الخرطوم منذ 8أكتوبر ولمدة 3شهور حسبما أعلن , فإنّ حوارا آخرا ينتظر الانطلاق , ليشمل هذه المرّة القوى المتباينة فعليا , فبموجب نص قرار الاتحاد الافريقي 539في أواخر اغسطس الماضي , يجب على الحكومة السودانية أن تحضر مؤتمرا تحضيريا للحوار الوطني الذي أطلقته , ويشمل ذلك الملتقى التحضيري , الجبهة الثورية , وحزب الأمة القومي , ومنظومة قوى الاجماع الوطني وممثلين لقوى المجتمع المدني , لبدء حوار فعلي بمسارين , أحدهما يتعلّق بالحل الشامل والآخر بقضية دارفور, وقد أعلن الرئيس البشير من بكين التي زارها الشهر الفائت رفضه لقرار الاتحاد الافريقي , وتحدى بتمزيق أي قرار يصدر عن الاتحاد الافريقي أو مجلس الأمن الدولي , وقال إنّه لن يتنازل عن رئاسة الحوار لأي شخص أو جهة أخرى , ولن يشارك في أي حوار خارج السودان . هذه هي الأجواء التي يجري فيها الآن الحوار الوطني في السودان , ووسط تهديدات يطلقها البشير بأنّ هذه آخر سانحة للتسوية السلمية وتوعد المقاطعين للحوار بالحسم العسكري والأمني ,وبقراءة خريطة المقاطعين لحوار البشير لا يجد المرء صعوبة في القول بأنّهم يشكلون غالبية الشعب السوداني ,وقواه السياسية الحيّة , بل وفوق هذا وذاك يشكل الغائبون أصحاب البرنامج الآخر المقابل لبرنامج حكمه الاسلامي , ومنهم من يحمل السلاح منذ سنوات مناضلا من أجل قضايا حقيقية تواجه بناء الدولة الوطنية السودانية , فأي حوار وطني جاد يتحاشى القضايا الحقيقية ؟ لهذا تبدو المقارنة منعدمة بين الحوار التونسي ونظيره الحوار السوداني , فإذا كان الحوار التونسي قد كلل بالنجاح واستحق قادته جائزة نوبل فإنّ حوار البشير لم يجد التفاتا من غالبية الشعب السوداني ناهيك عن المحيط الاقليمي والدولي !



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن