تحطيم الحدود...دعاية داعش الكبرى

محمد سرتي
mgodsons@yahoo.co.uk

2015 / 8 / 30

تلقت السيدة التبوكية خبر عدم قبول ابنتها في كلية الطب كالصاعقة، فلم يتحمل قلبها الضعيف الذي توقف عن العمل من هول الصدمة، لتشعل وفاتها غضباً شعبياً عارماً لم يتوقف عند حدود تبوك، المدينة التي تقع أقصى شمال السعودية، بل اجتاح كافة الأراضي والبقاع والمدن والقرى والقبائل والشعوب والأعراق التي تحمل الجنسية السعودية، وصولاً حتى جيزان، التي تقع أقصى جنوب السعودية، وتفصلها عن تبوك مسافة ألف وأربعمائة كيلو متر. وفي قرية حدودية من قرى جيزان، تسمى بني مالك (الداير)، تتداخل أراضيها الجبلية مع محافظة صعدة بحيث لا يمكن للسائح الغريب الذي يدفع به فضوله نحو تلك الجبال أن يميز بدقة فيما لو كان يقف فوق أرض يمنية أم سعودية، إلا إذا أبصر –عن طريق الصدفة- نصباً حجرياً صغيراً نحت فوق أحد أوجهه شعار اليمن، وفوق الوجه الآخر شعار السعودية. ولكن هذا النصب استطاع أن يمنح البعض من أهالي بني مالك مبرراً للتنصل من أصلهم اليمني عندما لم يعد هذا الأصل الفقير والمهمش يشكل مصدر فخر لهم. فعندما كان المالكي يشتاط غضباً على إدارة جامعة تبوك، محملاً إياها مسئولية وفاة المرأة التبوكية المكلومة على ابنتها؛ لم تكن مشاعره تتحرك تجاه نساء صعدة وأطفالها وشيوخها الذين كانوا يدفنون يومياً بالعشرات تحت أنقاض منازلهم، أو تنتزع جلودهم من لحمها نتيجة قوة الانفجارات وشدة حرارتها، أو تتخرم أجسادهم بقنابل النابالم الوهابية.
تختلف اللهجة الأصلية لأهالي بني مالك عن لهجة التبوكيين بحيث تبدو وكأنها لغة مختلفة، وكذلك الحال بالنسبة للعادات والتقاليد والأزياء التراثية والرقصات والأهازيج الشعبية وبقية العناصر الثقافية. في المقابل يعتبر المالكيين أنفسهم فرعاً من قبيلة خولان التي ينتمي إليها غالبية أهالي صعدة. بل وربما يلتقون مع الكثير من الصعديين في الجد الرابع حيث لم يصبح المالكي سعودياً إلا قبل ثلاثة أجيال، وهنا يمكن تمحيص القدرة الثيولوجية لروابط الأصل والفصل، أو النسب الأبوي، أو الحميمية الإثنية، أو صلة الدم المقدسة، أو سمها ما شئت. فصلة الدم هذه التي فقدت قداستها بمجرد ترسيم الحدود السياسية؛ أثبتت كم هي وهمية، مصطنعة، سطحية، ولا تملك جذوراً حقيقية وأصيلة داخل الوعي البشري. فلنتخيل لو تمكن أنصار الله من إنشاء تحالف مبادئي مع كل من أحرار نجران وأحرار العوامية، ونجحوا في تشكيل تكتل كونفدرالي يبدأ من صنعاء ولا يقف عند بغداد؛ هل ستتلاشى –عندها- مباشرة حدة غضب المالكي تجاه جامعة تبوك، وتبدأ شلالات الدمع القاني تتدفق من عينيه حزناً على نساء صعدة بعد أن يكتشف فجأة وجود دماء مشتركة تجري في عروقه وعروقهن؟ هل سيتحول فجأة إلى المذهب الشيعي بعد أن يصبح اعتناق الوهابية ضرباً من العمالة للخارج؟
لقد فضحت نساء صعدة المشاعر التي أبداها ذلك المالكي تجاه المرأة التبوكية بأنها لم تكن صادرة عن حس إنساني أوقيانوسي، بل كانت مجرد مراوغة غريزية تندرج تحت دوافع اللبيدو، أي البحث عن وضعية إجتماعية تحقق له قدر من اللذة. وبطبيعة الحال؛ يعزو فرويد غريزة اللبيدو إلى تشكل الحضارة البشرية على أساس الأسرة الأبوية (النووية) كوحدة أولية لبناء المجتمع البشري، فهي حضارة قمعية تسلطية تنزع لكبح جماح الغرائز الإيروسية للأفراد تحت ذريعة التنظيم والانضباط، ما يجبرهم بالتالي لمحاولة التنفيس عن مكبوتاتهم ضمن إطار تسلطية المجتمع نفسه، كالأعراف والقيم والمسلمات الاجتماعية ذات الطابع الأبوي القمعي، فيحاول كل فرد تجذير نفسه كجزء من تسلطية المجتمع كي يحظى حصوله على اللذة بقدر من القبول الاجتماعي الضامن لاستمرار تلك اللذة، وهو ضمان لا يتحقق في حال الانفصام عن هذه المنظومة التسلطية، كون ذلك يؤدي للاصطدام مع قمعية المجتمع سواء تمثلت في السلطة السياسية أو القيم والمسلمات الاجتماعية. فصاحبنا المالكي –من هذا المنظور- كان يحاول من خلال إبدائه لمشاعر الغيرة على المرأة التبوكية تجذير نفسه داخل مجتمع نفطي ثري يستطيع بثرواته إشباع غرائز أفراده الإيروسية، وفي ذات الوقت كان يحاول نفي تهمة الانتماء اليمني عن نفسه، باعتباره انتماء خاسراً بحسابات الجدوى الاقتصادية.
مع ذلك لا يرى فرويد في إستبدال نظام الأسرة الأبوية بنظام الأسرة الأمومية (Matriarchy) حلاً لمشكلة القمع والكبت الاجتماعي، أو التخلص من قضية اللبيدو اللاأخلاقي في الحالات الشبيهة بصاحبنا المالكي. حيث يعتقد فرويد أن ثمة غريزة ذاتية مضادة تعمل في الاتجاه المعاكس للأيروسية (غريزة الحب)، وصفها بغريزة الموت، وهي الغريزة التي ستؤدي في النهاية –حسب فرويد- إلى تدمير الحضارة من الداخل، أو على الأقل إبقائها في حالة اضطراب وصراع دائمين، سواء على مستوى الأفراد، أو على مستوى الجماعات (الأسر، القبائل، الدول، القوميات، العرقيات، الأديان). وباعتبارها غريزة ذاتية (أي مستقلة، ولا علاقة لها بنظام الأسرة) فهي تهدد أيضاً المجتمعات القائمة على نظام الأسرة الأمومية، كمجتمعات الحيوان، كونها (غريزة الموت) الدافع وراء سلوكيات التوحش في مجتمع الغابة. وبذلك يقدم فرويد تصوراً مغايراً تماماً لما قدمته أبحاث لويس مورغان ولوريمر فيسون وماركس وإنجلز حول أصل العائلة البشرية. خصوصاً أبحاث مورغان ولوريمر الميدانية بين قبائل الهنود الحمر والاستراليين الأصليين، والتي أثبتت -تجريبياً- بأن ظهور المجتمع البشري (مجتمع الإنسان العاقل) كان بمثابة طفرة نوعية غير مسبوقة في العلاقات الاجتماعية الحميمية، أنتجت مجتمعاً يكتنفه الشعور بالتلاحم والألفة والمحبة والوئام بشكل يتعارض مع فكرة وجود غريزة موت أصيلة لدى الإنسان. فتمخض –بطبيعة الحال- عن هذه الطفرة نوع من المشاعية الثورية في العلاقات الجنسية بين أفراد المجتمع الواحد. ولعل قصور نظرية "غريزة الموت" في البرهنة القاطعة على وجودها لدى الإنسان يكمن في اعتماد فرويد بشكل أساسي على المقاربة البيولوجية التجريدية بين الإنسان وأسلافه، بينما سلك كل من مورغان وإنجلز المنهج التجريبي الاستقرائي، فخرجوا برؤية أكثر موضوعية.
> إنجلز: أصل العائلة 27
ولربما لم يكن فرويد ليقلق على مستقبل الحضارة الإنسانية لو كان قد تسنى له القيام بدراسة ميدانية تجريبية لمجتمع إنساني حضاري يقوم على أساس الأسرة الأمومية، كمجتمع الموسو (Mosuo) على سبيل المثال، في مقاطعة يونان جنوب غرب الصين، والذي لا يزال حتى اليوم يحتفظ بنفس عاداته الأسرية التي تضرب بجذورها لآلاف السنين. وهو مجتمع يكاد يخلو من مشاكل غريزة الموت، ويتمتع أفراده بحرية منقطعة النظير، وبقدر كبير من السلام والمحبة والتعاون والمسئولية تجاه بعضهم البعض، وفقدان نوعي لمشاعر الغيرة والحقد والحسد التي في الغالب ما تنتج عن الكبت والقمع والطبقية والاستبداد، وليس عن غريزة الموت كما يزعم فرويد. بل والأكثر من ذلك؛ أن مجتمع الموسو يمثل نموذجاً متمرداً حتى على النتائج التي توصل إليها مورجان وإنجلز وماركس، كونه لا يزال -حتى اللحظة- يحتفظ بذات القدر من الحميمية الاجتماعية التي تم رصدها لدى أول تجمع بشري على الإطلاق، دون أن يعيقه ذلك من التدرج في سلّم الحضارة والتطور الطبيعي. وهي مسألة غاية في الأهمية، من شأنها أن تحدث انقلاباً خطيراً في جوهر الماركسية العلمية إذا ما نجحت في إعادة تحديد كل من موضعي العربة والحصان:
أيهما جاء تبعاً للآخر: التغير الاجتماعي في شكل الأسرة البشرية؛ أم تغير وسائل وعلاقات الإنتاج؟
هل ظهرت الأسرة النووية نتيجة للتحول إلى الزراعة والرعي؛ أم نتيجة لحصول انتكاسة تخلفية في مسيرة الحضارة انحرفت بها (لسبب مجهول) نحو مرحلة أكثر بداوة وأقرب إلى الحالة الحيوانية؟
أذكر حتى عهد قريب؛ أن المجتمع الزراعي في شمال شمال اليمن، وتحديداً منطقة عسير، كان مجتمعاً أمومياً بامتياز. فالمراة كانت تقوم بكل شيء تقريباً: تحصد وتزرع وترعى الماشية وتستقبل الضيف.... بالإضافة لوظيفتها كأم وزوجة وربة منزل. أما دور الرجل فيقتصر على الأمور الأمنية والعسكرية، وربما السياسية. ولكن المحير في الأمر أنه رغم تمتع المرأة العسيرية بهذا القدر من الوضعية المركزية؛ كانت تحرم تماماً من الميراث، حتى النصف الشرعي لا تحصل عليه إلا ربما عن طريق المحاكم. وهي مسألة غريبة جداً وغير مفهومة. ولكن ربما التفسير الأقرب إلى المنطق، خصوصاً بعد ثورة اليمن، أن هذا الظلم الاقتصادي للمرأة ليس أصيلاً في المجتمع اليمني، بل ثقافة دخيلة تم فرضها قسراً من قبل جهة خارجية ذات طابع طبقي عنصري لا ينسجم مع الروح الحضارية العريقة للمجتمع اليمني. ولعل مما يؤكد على هذا التوجه أمران: الأول ما حدث لمجتمع الموسو إبان الثورة الثقافية عندما أجبرتهم الحكومة الصينية على التحول إلى نظام الأسرة النووية، وبالفعل؛ اضطروا مجبرين للرضوخ حتى خبت جذوة الثورة الثقافية ليعودوا تلقائياً لفطرتهم السليمة. فالأسرة النووية بالنسبة لهم مسخ ثقافي حقيقي، وهي بالفعل كذلك ليس فقط بالنسبة للموسو، بل للمجتمع البشري ككل، فهي الأساس الحقيقي لنشوء الطبقية الاجتماعية وملحقاتها الاقتصادية والسياسية.
والأمر الثاني ما حدث قبل أسابيع من مظاهرات نسائية مسلحة في اليمن. فبعد عودة المجتمع اليمني إلى ذاته؛ انبهر العالم بمنظر جحافل النساء اليمنيات وهن يتظاهرن في شوارع صنعاء ممسكات بأسلحتهن الرشاشة، يطالبن السيد عبدالملك الحوثي بالسماح لهن بالمشاركة في القتال. وهو منظر صادم، أحدث انقلاباً حقيقياً في التصور النمطي للمرأة العربية التي طالما تشكل حولها نموذج معياري للمازوخية المقززة. المرأة السلعة التي ما خلقت إلا لتنتقل ملكيتها إلى من يدفع أكثر في حال السلم، أو إلى المنتصر في حال الحرب. وإذا باليمنيات يخرجن لينتفضن على تلك النمطية المزيفة، ويشرعن في البوح بأسرارهن الدفينة والمكبوتة: وهي أن اليمن كانت من أوائل الدول التي حكمتها امرأة، منذ أن عرف الإنسان لنفسه تأريخاً. وأن بنات بلقيس اليوم قررن الأخذ بثأرها من ملك اليهود. وربما هي ثورة أمومية عالمية، ثورة الطبيعة الأم، التي يرجع الفضل في إشعالها لعظيمات كوباني، المقاتلات الكورديات البطلات اللاتي علّمن الرجال دروساً في الشجاعة ربما كانوا في حاجة ماسة إليها.
إن التحول إلى الزراعة والرعي لا يقتضي حتماً التحول إلى نظام الأسرة النووية، إلا إذا تم هذا التحول الأخير قسراً بطريق القوة. وإذا علمنا أن المستفيد الوحيد من هكذا تحول هي الرأسمالية وخصوصاً الصهيونية منها، التي تعتمد على أكذوبة الشعب المختار، أو الطبقة النبيلة المصطفاة إلهياً، لتبرير استعباد هذه الطبقة للآخرين اقتصادياً وسياسياً؛ عندها ربما تتضح أمامنا الصورة –بعض الشيء- عن ماهية تلك القوة الشيطانية التي تدخلت في مسيرة التطور الإنساني الطبيعي لتحرفه عن مساره التحرري إلى مسار توحشي حيواني يعيدنا القهقري إلى حياة الغاب، حيث الاستعباد والاستبداد والقهر، أو ربما حيث غريزة الموت. وكانت نقطة البداية لهذا الانحراف المصطنع هي نشوء الأسرة النووية. من هذا المنطلق؛ فإن أفضل نقطة ينبغي أن تبدأ عندها ثورة الإنسان الحر ضد الشعب المختار هي تدمير الأسرة النووية، والعودة بالإنسانية إلى نقطة ما قبل الانحراف.
ستواجهنا صعوبات بالتأكيد، من قبل أولئك المرضى، المعاقين نفسياً، الذين لا يمكنهم التعايش مع فكرة مساواتهم ببقية البشر. فهم لن يتورعوا في استخدام جميع الوسائل والأساليب القذرة للترويج لأكذوبة قداسة النسب الأبوي، والأصل والفصل، والأسرة النووية. وهم –مع الأسف- نجحوا إلى حد بعيد في إقناع المغفلين منا بذلك. فحربنا معهم إذاً فكرية ثقافية أكثر منها عسكرية.
إن الكائن البشري لا يولد ملائكياً بالفطرة، فليست جميع الأمراض النفسية مكتسبة، ولكن عبقرية نظام الموسو أنه نجح حتى في احتواء أولئك الذين يولدون مرضى، أي السيكوباث، الذين من المستحيل تعديل سلوكهم الإجرامي. إلا أن هذا النوع من المخلوقات لا يمكنه الاستئساد إلا في ظل النظام الاجتماعي الطبقي. وبالتالي؛ استطاع نظام الموسو نزع أقوى أسلحتهم وأشدها فتكاً. ويساورني أحياناً الشك بأن كلاً من أفلاطون ومزدك، وخصوصاً مزدك، قد استلهم من الموسو أطروحته حول الوسيلة الوحيدة، وأقول الوحيدة، لاجتثاث الشر في هذا العالم من جذوره.
> علي شريعتي: بناء الذات الثورية 31.
هل فعلاً الإسلام ثورة مزدكية؟
مما يؤكد على هذه الحقيقة أننا لا نجد في الفقه الإسلامي برمته، بكافة مذاهبه دون استثناء، ما يحرم قطعاً انتساب الطفل لأمه. وحتى تلك الآية اليتيمة التي يحاول البعض رفعها على أسنة الرماح (أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) هي آية خصوص سبب لقضية زيد بن حارثة، وليس فيها من عموم اللفظ شيء، ولا حتى بلي الأعناق. هذا لو افترضنا عدم تعرضها للتحريف كما حصل مع آية الإفك. بل إنه بالرغم من الجهود المضنية التي كنا نحاول من خلالها التنظير لقدسية الأسرة النووية في الإسلام؛ لم تكن تتكلل جهودنا بالحد الأدنى من الموضوعية العلمية، وذلك نظراً لخلو التراث الإسلامي برمته، بنصوصه وأحكامه الفقهية، من الكمية الحرجة التي يمكن الاتكاء عليها للخروج ببحث علمي حقيقي يثبت قدسية الأسرة النووية في الإسلام، وليس مجرد ثرثرة أدبية جوفاء. بل ربما أذيع سراً لو قلت أن الأصل في الإسلام هو قدسية الأسرة الأمومية. وهذا بحث يطول، خلاصته أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي بإمكانه إعادة الأمور إلى نصابها دون الحاجة لنزع الحجاب.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن