شرعية الدين السياسي !

شوكت جميل
shawkatjamel33@gmail.com

2015 / 8 / 15

لا غرابة أن يعضَّ تيار الدين السياسي بنان الندم ، و قد أسقط الشعب المصري نظام حكمه الرجعي المؤذن بقرو أوسطية دينية ، و من ثمّ طرحه أرضاً عن كرسيه بجدارة ، و لا غرابة أن يعض هذا التيار التعس بالنواجذ على لافتة "الشرعية " تلك التي مزقتها قبلاً نفس النواجذ ؛ في محاولةٍ بائسةٍ يائسةٍ بغيةَ الاستجداء لبعض التعاطف و الدعم ، من هنا أو هناك ، من الداخل أو الخارج ، لمظلوميةٍ فارغة المحتوى و ظالمة ؛ لعل و عسى يثوب إلى سدة الحكم أو تثوب سدة الحكم إليه . أقول : لا غرابة ؛ فلطالما كان للمصلحة منطقٌ قاسٌ لا يلين ؛ لا يتورّع أن يقلب الأمور ، و لا يروعه أن يزيّف الحقائق .


أما الغرابة حقاً ، و أما الذي يقع في نفسي موقع الدهش حقاً ؛ فهو تماهي طائفةٌ من دعاة التنوير _أو أدعيائه ؛فلست أعلم على وجه اليقين_ مع هذا التيار الرجعي و منافحته هذه الدعوى الباطلة ، و كأني بهم يصطفون كالبنيان المرصوص أو قل كالجَرِيد المسنّد ، في ظهر الرئيس المخلوع في خطابه الأخير، يشدُّ أزره في مواجهة شعبه الهادر بزوال حكمه ، و هو يتلو متوعدا مرتعدا ! و هم يتلون معه سورة "الشرعية" ، و هناك من الفكهين من أحصى ترددها في خطابه هذا ؛ فبلغ الستين أو نحوها! ، و جعل صاحبنا ، يلوح بها _أي الشرعية_ "بعبعاً" و رهباً لشعبه _ و ما هو بشعبه _ و لا يعلم المسكين إنما هي منتهى أمل الشعب ، و الحق ،إن وجدنا بعض العذر للغرير في مذهبه هذا ؛ و قد طمست المصلحة بصيرته ؛ فلسنا نجد عذراً لأولاء "المتناورين" ، و كيف فاتهم مقصد "الشرعية" و معناها ، فإن دلّ هذا علي شيء فإنما يدل على سقم الفهم ،و بلادتهم التي ما بعدها بلادة ، هذا إذا أحسنّا الظن بهم ؛ فأول ما يتعلمه الناشئة في "روضة" التنوير و الحرية :

اولاً : الشعب هو مانح الشرعية.

ثانياً : الشعب هو مصدر السلطات.

و ليعلم هؤلاء "المتناورون" أن ثمة شيء في الفقة السياسي يسميه عقلاء القوم " الشرعية الثورية " ، و التي تشجب ما عداها و ما سبقها من شرعيات ، أليست الثورات جميعاً نقيضاً "للشرعية الدستورية" و آثمة و مجرمة طبقاً للدستور ، أليس قلب نظام الحكم ، جريمة يعاقب عليها القانون ؟..إذن فالثورة جريمة! ، لولا هذا المصطلح السياسي ،"الشرعية الثورية" ، و لو قد أنكر هؤلاء على النظام الذي تلى حكم الدين السياسي في مصر شرعيته رغم أنه جاء للحكم بانتخابات حرة ،تذرعاً بشرعية موهومة قد أسقطها الشعب في 30 يونيو ؛ فعليهم أن ينكروا أيضاً ،و على قدم المساواة ، شرعية حكم الدين السياسي نفسه ، تذرعاً بشرعية موهومة أسقطها الشعب في 25 يناير !

و الحق ، الأمر أعمق بكثير جداً، من هذا الحديث الغث و السطحي عن "الشرعية" ، و لو قد علم أصحابنا "المتناورون" ،ألف باء تنوير ، لكانوا قرأوا النص التالي ، ثم طرحوا سؤالاً...أما النص ، فهو البند الثالث من وثيقة حقوق الإنسان ، الذي صاغته الجمعية الوطنية للثورة الفرنسية و هي تضع الدستور (1789_1790):

3_ كل سلطة مصدرها الشعب وحده ،و لا يحق لأي فرد أو أية جماعة أن يأمروا أو ينهوا إلا إذا استمدوا السلطة من الشعب .


أما السؤال ، أين حكم الدين السياسي من هذا البند ، و أين هذا البند منه ؟ ؛ و حسبنا ثلاث من الدين السياسي ؛ فنتبين الهوة الهاوية :

1_الشرعية مصدرها الشريعة...(و ليس العشب فأكثر الشعب من الفاسقين)

2_السلطة مصدرها النص المقدس...(و ليس الشعب فإنما الناس يتبعون أهواءهم...و لا اجتهاد مع نص)

3_المعارضون لنظام الحكم الخلافي الراشد أعداء الله.
.................

أنا لا أرى شعباً فيما تقدم ، اللهم سوى بعض الفسقة و أعداء الله ، و لا أعلم ماذا يرى هؤلاء "المتناورون" في هذا من "شرعية " ؟..إلا
أن يقصدوا شرعية الشريعة ، لا شرعية الشعب ؛ و في هذا الحال ، يحق لنا كل الحق أن نطلق عليهم " المتناورين الشريعيين " ،إذا وافق أهل اللغة على ذلك!


و حتى لا يُلحَد بالكلام إلى غير مقصده ، فأقولها :لست أرى النظام الحالي في مصر غاية الأمل و لا منتهى الطلب ، و لكني قطعاً لا أراه و الحكم الإخواني في السوء سواء كما يذهب بعض المتنطعين المتناورين ، و إنما أراه مرحلة طبيعية من مراحل التطور ، وهو رهن بجد و كد التنوريين و الشعب و القوى السياسية نحو مزيد من الحرية و العدالة الاجتماعية ، و يكفي أننا خرجنا من حكم ديني كان خليقاً أن يردنا عشرة قرون إلى الخلف ، و يكفي أن لا يقال اليوم للمعارض السياسي :إنما هو "عدو لله "، و لا يقال له أيضاً :"عدو للشعب "إلا و جوبه هذا الكلام من الأكثرية بالنفور و الازورار ، و يكفي أن يُعترف _ و لو رسمياً _ بأن الشعب مصدر الشرعية و السلطات ..لقد وصلنا في مرحلة التطور إلى بداية الإنسان العاقل ، فما بالكم ، لا تدخرون جهداً أيها "المتناورون الشريعيون " إلى ردنا لمرحلة القردة_ ودعك من الخنازير الآن_؟!!!




و عودةً إلى حكم الدين السياسي و الشرعية ،فقد كان لي فيه حديثٌ ، في مقال بعنوان " عقد فاوست أم ورقة اقتراع؟" مؤرخاً في "6/12/2013" و لا أحسب أن شيئاً قد تغير ، وما زلت أراه عقداً فاوستياً....



تدور رائعة كريستوفرمارلو المسرحية الشهيرة"دكتور فاوستوس"_القرن السادس عشر_ حول العلامة الألماني فاوست ، تلك الشخصية التي طالما ألهمت كثيرين،و أخافت كثيرين لقرون،وأحسب أنها ما زالت حاضرةً بقوةٍ في السياسة كما هي في الفن ...و تروي لنا المسرحية كيف باع فاوست روحه لمفستوفيليس "كبير الأبالسة" ؛ و أبرم معه عقداً، ليقوم الأخير بخدمته طوال حياته ، و ليحقق آماله و أحلامه،وليلبي كل رغباته و نزواته ، أدبيةً كانت أم حسِّيةً ،معرفيةً أم شهوانية....في نظير أن يحصل على روحه بعد مماته،و بعد أن يكون قد عبّ حتى الثمالة من اللذة والسعادة....وفي مثل هذة"الصفقات الفاوستية" لا يُمنح المرء حرية الإختيار سوى مرة يتيمة واحدة و ذاك قبل أن يمهر العقد باسمه الكريم..أما و إن فعل..فقد قُضي الأمر؛حينها لا فكاك من العقد ، و لا من سبيلٍ للرجعة فيه،و لا مسمحة للنكوص عنه ، فهو لون من العقود يقوم فيها الواحد من هؤلاء بإرادته الحرة، ببيع إرادته و حريته و روحه جميعاً "بورقة واحدة"و "بَيعة واحدة" و للأبد!.

أما من ركب رأسه و أبى إلا نقض البيعة ، فلن يجني سوى التمزيق؛كما مزق الأبالسة جسد فاوست في النهاية وقد أحس بالغبن و الخسران و الندم.

و في إعتقادي أن هذا ما يجدر به أن يدور في ذهن و يقر في ضمير كل من أمسك" بورقة اقتراع" مُتَلمساً طريقه صوب شفا التصويت لصالح الدين السياسي،لا أقول هذا تعريضاً بأحد،و لا ""شيطنة"و لا حتى اتهاماً بل وصفاً.

و حتى لا نلقي الكلام على عواهنه؛ فنتهم بالتحامل و التعسف،يصبح لزاماً علينا أن نطرح هذا السؤال:كيف تفهم و تتعاطى قوى الدين السياسي مع المفردات التالية: صندوق الانتخاب،الديمقراطية،الشرعية؟...و الإجابة :تقبل قوى الدين السياسي هذه المفردات "الكافرة" على مضضٍ طالما كانت مرادفة للمصطلح الفقهي الأصيل"البيعة"، أنظر!..ليس من قبيل الصدفة أذن أن تسمى "بالبيعة"،و البيعة في مفهوم الخلافة في عنق الإنسان حتى مماته،ومن مأثوراتهم:(من خرج عن البيعة فاضربوا عنقه!)،حتى لو نهب ولي الأمر مالك،و جلد ظهرك! ، أما الديمقراطية كما نفهمها نحن كحكم الشعب بالشعب و لصالح الشعب ، أو بالأدق أغلبية الشعب ، فليس لها مكان في فكر الدين السياسي ، و الجواب حاضر على لسانهم :(إنما أكثر الناس من الفاسقين) ، و لك أن تستنتج أن الفاسقين لا يحسن بهم أن يحكموا، و أن الفاسقين لا يحسن بهم أن يستبينوا لأنفسهم خيرهم من شرهم ، لذا إنما نحن نقبل بيعتهم لا رأيهم ، و بعدها عليهم أن يتنحوا جانباً، تاركين الأمر لأصحابه و أهله.

وإذا تَبَنينا مفهوم"العقد الفاوستي"أو"البيعة المخلدة" ؛ فلربما فَهمنا بشكل أكثر وضوحاً التناقضات الصارخة و الطبيعة الدموية للنظام المعزول الأخير في مصر..فإذا تحامقت و سألت رموز ذلك النظام :كيف أعلنتم أنكم باقون في الحكم لخمسة قرون على الأقل ، أفلا تعلمون أن الشعب هو المالك الوحيد لإرادته و يؤتي بمن يريد، و يُذهب بمن يريد؟..أجابوك:كان هذا قبل التوقيع على العقد و البيعة...كما أنه ليس عليك أن تُدهش لخروج بقايا هذا النظام بعد أن اسقطه الشعب "مانح الشريعة و مانعها"و قد خرج عليه الشعب بالملايين..أقول ليس عليك أن تدهش لرفع هذا النظام شعار عودة الشرعية!؛فهو يرى أن حرية الاختيار للشعب و أرادته و شرعيته إنما قد باعها له جميعاً، أول مرة في الصندوق و للأبد ، و لا يعني شيئاً أن يخرج ثلاثون أو حتى تسعون مليون ، إن هي إلا أعداد منزوعة الاختيار تحت العقد الفاوستي.

.............................
بيت القصيد

أحسب أن جهاد التنوريين يجب ألا ينصرف إلى دفاع عن نظام أسقطه الشعب "مانح الشرعية" تحت دعاوى الشرعية! ، و إنما إلى العقول التي ستخطو إلى صناديق الإقتراع حتى لا تتكرر المأساة!!







https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن