علي الوردي وتحدي الحداثة

ابراهيم الحيدري
alhaidari@msn.com

2015 / 7 / 19

يعتبر على الوردي (بغداد 1913-1995.7.13) من أبرز رواد الحداثة والتنوير في العراق حيث تمثل كتاباته الاجتماعية النقدية وأفكاره التنويرية الجريئة من أولى بوادر التحديث التي سعت الى نشر قيم الحداثة والعصرنة في المجتمع العراقي والتي تتمثل في جميع دراساته وبحوثه ومؤلفاته السوسيولوجية الهامة التي حاول فيها تفكيك الظواهر الاجتماعية المعلنة والخفية ونقدها. فمنذ كتابه الأول حول شخصية الفرد العراقي وحتى موسوعته لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، كان الوردي يدعو الى تحديث المجتمع من الناحيتين الفكرية والمادية عن طريق رفد الفكر الاجتماعي بأفكار وآراء حديثة تدعو الى الاسترشاد بما قدمه التقدم العلمي والتكنولوجي في الغرب للنهوض بالمجتمع من تخلفه وركوده ومسايرة ركب التقدم الاجتماعي والثقافي والسياسي في الدول التي سبقتنا الى ذلك قرونا عديدة. وكان خطابه الاجتماعي النقدي مبكراً في طرح آراء وأفكار وقيم جديدة لم يألفها المجتمع العراقي. فهو تحدث عن عوامل التخلف الاجتماعي والاقتصادي والثقافي وعن العصبيات والمنازعات العشائرية وبقايا القيم البدوية الكامنة في نفوسنا والصراعات الاجتماعية التي سات خلال العهد العثماني وعن مشاكل تأسيس الدولة العراقية وعن الأفكار الليبرالية والديمقراطية ونظرية التطور لدارون وغيرها. كما دعا الى دخول المرأة في سلك التعليم والعمل وفتح المجال أمامها لتحسين ثقافتها وتطوير ظروفها الاجتماعية الاقتصادية، وفي ذات الوقت وجه انتقادات لاذعة لرجال الدين ووعاظ السلاطين الذين عارضوا دخول المرأة للتعليم في المدارس الحديثة وامتنعوا عن ادخال أولادهم الى المدارس الحديثة، مؤكدا على أن التعليم تيار جارف لا يستطيع المحافظون الوقوف أمامه. كما شن حملة شعواء ضد وعاظ السلاطين وضد استغلال الدين والطقوس الدينية لمآرب خاصة. وقد لاقت أفكاره النقدية استهجان ومحاربة وصلت الى حد اتهامه بالكفر والزندقة. وكان الوردي في كل كتاباته داعية من أجل تأسيس هوية وطنية جامعة لكل المكونات الاجتماعية العراقية وترسيخها في العقل العراقي.
والوردي من الأوائل الذين دعوا الى تجاوز الصراع التاريخي بين السنة والشيعة باعتبارها ظاهرة اجتماعية سياسية تاريخية لها آثار وخيمة وتداعيات سلبية على الوضع الاجتماعي وطالب النظر الى موضوع الصراع بين الخلفاء الراشدين على انه خلاف تاريخي لا عقائدي تجاوزه الزمن وعلى المسلمين استلهام الدروس والعبر من أولئك القادة التاريخيين الكبار، مؤكدا على ان العراقي أقل الناس تمسكا بالدين وأكثرهم انغماسا في النزاع بين المذاهب. فتراه ملحداً من ناحية وطائفياً من ناحية أخرى. كما دعا الى نبذ الطائفية. فالشخص الطائفي لا يهتم بأفكار المذهب وروحه ومبادئه الأخلاقية، بقدر ما يهتم بما يعزز الشعور بالتعصب للجماعة على أساس الولاء لها وإظهار العداء لغيرها" فالفرد الطائفي ينظر الى طائفته كما ينظر البدوي الى قبيلته"، لذلك فالطائفية هي الوجه الآخر للعصبية القبلية.
ومما يميز على الوردي أنه دعا الى تطبيق النظام الديمقراطي باعتباره الوسيلة الكفيلة بحل الصراعات الاجتماعية والانقسامات السياسية، منطلقا من اعجابه بالنظام الليبرالي الغربي الذي تعد البرغماتية أحد تمظهراته والتي تتمثل بطريقة الانتخابات بوصفها حلاً عمليا لمشكلة النزاع في التاريخ البشري، أي الصراع على السلطة. فالصراع بين الناس يتم في المجتمعات المتقدمة على أساس الاحترام المتبادل وعدم فرض الرأي على الآخر بالقوة. وهذا يعود في الأساس الى النظام الديمقراطي، الذي اعتاد فيه الأفراد ممارسته الديمقراطية جيلاً بعد جيل حتى أصبحت جزءاً من تقاليدهم الاجتماعية والثقافية والسياسية التي يمارسونها في بيوتهم ومدارسهم ومؤسساتهم السياسية. اما في العراق فما زال العراقيون يعيشون في وضع فكري واجتماعي كانت أوربا قد عاشته قبل قرنين تقريبا. فالعراقي لا يستسيغ ان يرى أحدا يخالفه في رأي أو عقيدة ولا يفهم هذه الحقيقة ولا يريد فهمها والاعتراف بها، ولهذا نجده ميال الى الاعتداء على من يخالفه في الرأي أو في العقيدة، ويظن انه على صواب وغيره على خطأ. ويعود ذلك الى ان المجتمع العراقي ما يزال متعدد الاثنيات والأديان والطوائف والثقافات، وان الاتصال بين الريف والمدينة هو اتصال قبلي وريفي وطائفي، وهو ما يؤثر على الحياة الاجتماعية. كما ان العراق يحتاج اليوم الى تخطيط ومعالجة موضوعية وبمشاركة جميع القوميات والأديان والطوائف. فهو يقول: "وعلينا قبل كل شيء اصلاح الاذهان قبل بدء الاصلاح الاجتماعي في البلاد، لان التجارب القاسية التي مر بها الشعب العراقي علمته دروسا عديدة وبليغة، فاذا هو لم يتعظ بها فسوف يصاب بتجارب أقسى منها". وعلى العراقيين التعود على ممارسة الديمقراطية ممارسة فعلية حتى تتيح لهم حرية ابداء الرأي والحوار والتفاهم، دون محاباة ودون ان تفرض فئة او طائفة رأيها بالقوة على الفئات والطوائف الأخرى.
ولا ينكر الوردي الصعوبات والعوائق التي تقف امام تحقيق الديمقراطية وما يصاحبها من فوضى وعنف، فليس بمقدور العراقيين ان يتحولوا بين ليلة وضحاها الى شعب يحترم الرأي والرأي الآخر ويتبادل الحوار ويمارس الديمقراطية. ومن المؤكد انه يحتاج الى زمن يستطيع فيه ممارسة الديمقراطية مرة بعد أخرى، وهو في كل مرة سيكون أكثر مقدرة وكفاءة وتعودا على ممارستها. فالديمقراطية كما يقول الوردي، ليست فكرة مجردة يمكن ان نتعلمها في المدارس او التي نقرأها في الكتب والجرائد او تلقى في الخطب الرنانة، وإنما هي ممارسة عملية من الممكن ان نتعلمها بالتدريج. وإذا بقينا نتظاهر بها قولا ولا نمارسها فعلا، فسوف نبقى كما كنا يتغالب بعضنا على بعض!
يقول الوردي:" قلنا ونعيد القول هنا أن الديمقراطية الحديثة ليست إلا ثورة بيضاء حيث يبدل الشعب حكامه بواسطة الانتخاب حينا بعد حين والشعوب الآن تستخدم أوراق التصويت لعين الغرض الذي كانت تستخدم السيوف من أجله قديماً".
كما يقول الوردي، ان الشعب العراقي منقسم على نفسه وفيه من الصراع القبلي والقومي والطائفي أكثر من أي بلد آخر، وليس هناك من طريق لعلاج هذا الانقسام سوى تطبيق النظام الديمقراطي، الذي يتيح لكل فئة منه ان تشارك في الحكم حسب نسبتها العددية، وعلى العراقيين
أن يعتبروا من تجاربهم الماضية، ولو فلتت هذه الفرصة من أيدينا لضاعت منا امدا طويلا.
لقد كان الوردي نموذجا للنخبة المثقفة التي كانت تحمل على اكتافها مشروع الحداثة وبناء الأمة العراقية وممثلا نموذجيا لنواة الطبقة الوسطى الجديدة التي اتسمت بتحمسها الى البناء والتجديد والابتكار على غرار الطبقة الوسطى في أوروبا.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن