الأراجوز يتحدث لنا

هدى توفيق
hudausef@yahoo.com

2015 / 6 / 21

الأراجوز يتحدث لنا
ترجمة: رمسيس يونان


كتاب مسرح الأراجوز لسيرجي أبرازوف وهو شخصية شهيرة في الاتحاد السوفييتي، فهو مدير أكبر مسرح للأراجوز في موسكو. كتاب مسرح الأراجوز هو كتاب للفن بكل أشكاله الإبداعية والأدبية بشكل عام وليس فقط كتابا عن المسرح أو فن الأراجوز، يتناول المؤلف حياته وذكرياته مع الفن الذي بدأه تقريبا وهو في سن السابعة بحس بديهي متجه إلى عشق الفن واختياره كطريق بدأب وإخلاص وحب غامر للفن، هذه الشمعة التي لا ينطفئ وهجها مع عاشقين ومخلصين الفن إلى نهاية العمر الافتراضي بمقياس الزمن والطبيعة والقدر.
بدأ المؤلف ينهل من روافد الفن المتعددة، بالرسم والتصوير والتمثيل، فقد بدأ حوالي ثمانية عشر عاما في الإنتاج المسرحي، وأكثر من خمسة وعشرين عاما في العمل بالكونسترتات.
والكتاب ليس مجرد سيرة ذاتية عن حياة هذا المؤلف ومسيرته الفنية، بل يحوي العديد من الآراء الفكرية والأحكام التي تشمل فن المسرح والنظارة (أي المشاهدين أو المتفرجين) وخصيصة الاهتمام بالتحدث عن النظارة الذي كان المؤلف ينظر إليه خلسة من خلال ثقب في الستارة ليستوضح نوع النظارة (أي الجمهور) هي فكرة تستحق التفسير والتحليل لماذا بدأ كتابه عن الاهتمام بالنظارة أي نوع القاضي الذي سيشمل بين يديه في كل مساءات عروضه وحفلاته المتعددة.
ورغم احتراف المؤلف لفن الأراجوز، التي بها أصبح فنانا مشهورا للغاية، تعرض وتقدم حفلاته في أكبر مسارح أوروبا وأمريكا والاتحاد السوفييتي – حتى توليه إدارة مسرح الأراجوز اشتغل أربعة عشر عاما بالتمثيل في الأوبرا أولا ثم في المسرح.
وسيكون حديثي وكلماتي هي مجرد عرض لهذا الكتاب المهم في اقتناءه وقراءته لأي فنان حقيقة للبحث عن دروب ومسالك الفن العميق والممتع في آن واحد.
ولد المؤلف في موسكو 1901 من أبوين ليس لهما صلة بالفن، فأمه كانت معلمة روسية، وأبيه مهندسا بالسكك الحديدية، ورغم ذلك فقد كانت الدفقة الشعورية الأولى للحس الفني التي خلقت هذا المبدع العظيم، ما كان يحكيه ويخترعه الأب من حكايات خرافية للتسلية دونما القصد أنه خلق عملا فنيا فقد كان يروي للمؤلف وأخيه حكايات أفانا سييف وجويمز وهانز أندرسن، ووصف مشاهد عن تاريخ روسيا وبقية أقطار العالم. فلاديمير خونوماخ واسكندر الأكبر والإلياذة والأوديسا لهوميروس. وعلاوة على ذلك كان الأبوين يتميزان بحس موسيقي مرهف. لقد كان المؤلف مغرم بالطبيعة والقراءة عنها، وتمثل هذا في أول كتاب قرأه لبويهم عن حيتة الحيوانات، فيصرح المؤلف قائلا "أن ملاحظة الطبيعة والحيوانات تدرب المرء على التفكير المقارن بالصور الحسية، أي التفكير بالطريقة التي لابد منها لكل من يريد الاشتغال بالفن ".
ولقد كانت البداية رغم عدم القصدية من تلك الأبوان اللذان يعتبران الشئ الجوهري لتمهيد الطريق الصحيح لنشأة المؤلف بين قراءة الكتب، وحكي الحكاوي، واصطياد السناجب والديدان الحمر من البرك لإطعام أسماك المؤلف وأخيه، التي كانت تعيش في برطمانات وأحواض الإكواريوم ولديهم الكثير منها على شتى الأشكال والألوان.
التحق المؤلف بمدرسة التصوير والنحت والعمارة قسم التصوير، ثم انتقل إلى قسم الحفر، ثم ذهب إلى المسرح بعد أن قضي عدة سنوات في دراسة التصوير والحفر، ورغم ولع المؤلف بالتصوير في طفولته ودراسته للفن أيام صباه، فهو لا يندم مطلقا على نفاذ تلك السنوات في الرسم والتصوير والحفر لأنه استفاد واعتبرها أمر جوهري يخص حرفته الحالية وهي حرفة الأراجوز وهو التدريب الجيد على استخدام العين ليحول كل ما يشاهده في العالم ويحس به إلى مادة بعينها. لقد لعبت أيضا الصدفة في حياة هذا الفنان الواعد حينما تخلف عن دراسة الرسم ليلا وتوجه إلى مسرح موسكو لمشاهدة رواية (العم فانيا) حتى أصبح ممثلا وليس مجرد مشاهد فنان.
لقد كان اشتراكه في لعب الأطفال له تأثير كبير، مثل ممارسة لعبة (الزوار) مع أخيه، ثم البقرة التي خاطته له عمته بقرتين من القماش محشو بالقطن، وعمته هي الشخص الثاني بعد أبيه الذي يدين له المؤلف بالكثير، حيث غرست فيه إجلال العمل، ونقدها له الذي جعل منه ممثلا منزوع عنه آفة الغرور كجرثومة وليس كدافع للنجاح.
وبدأ العمل بالدراسة طبقا لطريقة ستانيسلافسكي، حتى حظي بالنجاح في الامتحان أمام نميروفيتش دانتشتكو الذي لفت انتباهه أثناء الامتحان كممثل ناشئ وكانت بداية تلك الأدوار، في مسرحية (الطائر الأزرق) إحدى مسرحيات سترلنك الشهيرة – كانت المهمة تتلخص في تحريك عصا طويلة سوداء، يتحرك في طرفها رقعة طويلة من الشاش سابحة في الفضاء، وهذه المهمة الآلية هي في الواقع أصبحت مهمة فنية، وهي إحداث الفزع من الشبح أي خالق الشبح وهذا يتوقف على مدى الشعور في تحويم تلك الرقعة من الشاش، وعلى حدة دوراتها، وتحليقها المفاجئ إلى أعلى، وهبوطها المنقض إلى أسفل أثناء طيرانها الحلزوني، فكان هذا نوعا من التجارب، أي نوعا من الديالوج بغير كلمات، ولكنه مع ذلك ديالوج.
وكان هذا الدور (الرجل المجلل بالسواد) بمثابة الشعور الأول الذي أحس فيه المؤلف أنه ممثل فعلا، ثم تمثيل دور (تارتاليا) لرواية توراند التي أخرجها فاحنابخوف وقدمت في حفل مخصص لرجال المسرح بمناسبة عيد رأس السنة وقد أداه من قبله الممثل شوكين، ورغم قوة الملاحظة الكافية لتمثيل شخصية خلقها ممثل آخر، إلا أنه كان يوجد قدرة على تقليد تلك الشخصية وتقمصها، أما كيف يتوصل إلى خلق الشخصية، فهذا ما لم يكن له علم ولا دراية به بعد.
"على الممثل أن يضع نفسه في الموقف المعين"، هكذا نصحه ستانيسلافسكي.
بدورتيرابو لرواية لابيريشول، الذي كان عقيما بالنسبة للمؤلف، حتى كان اقتراح المخرجة كينبي كوتلوباي أن يصنع له أراجوز يمثل تيرابو، وكانت تلك الشرارة التي أطلقت كل تلك النيران المتوقدة ليصبح الأراجوز حرفته إلى نهاية العمر وفنه الخالص. وقد تم عمل هذا الأراجوز ثلاث مرات حتى يتأكد المؤلف شعوره بالانسجام والأحكام وبالتالي يثير فيه الإحساس بالغبطة والحرية الباطنة التي هي من خصائص الممثل المهمة.
وبداية يخبر المؤلف، أنه عندما مثل دور تيرابو في صورة حاقدة وقبيحة، تبعث على الاشمئزاز وهذا صواب، لكن لابد أن يلصق هذا فقط بالشخصية (أي شخصية تيرابو) وليس شخصية الممثل نفسه، فلا ينبغي أن يحسب المشاهد أن الممثل الذي يمثل شخصية رجل شرير هو نفسه رجل شرير، لأنه لو توهم ذلك لكره مشاهدته، وهذا أمر ينبغي أن يفهمه الممثل جيدا، إنه قانون لا ينطبق فقط على الممثل، بل على كل ما يراه المشاهد على خشبة المسرح.
أيضا من آفات الممثل الاستعراض، وقد أعطانا المؤلف مثال ذلك بهلوانة في سيرك تلعب على العقلة، وقد أدت ألعابها في نشوة وطرب لا حد لهما، ولكنها عندما فرغت من ألعابها، وثبت إلى وسط حلقة السيرك، ورتبت على فخذها وهي تصيح آه في دلال ثم خطت إلى جانب في خفة ورشاقة، وهي تبتسم ابتسامة الإغراء، إنها من المؤكد لم تكن في حاجة إلى اجتذاب النفوس من جديد بعد ما أدته من ألعاب بمهارة ورشاقة فائقة، فتلك وسائل أخرى لا تمت إلى الفن بصلة أي إبراز جمالها الأنثوي. وهذا ما كان يبرره بعض الممثلين تبريرا خاطئا، بما كان يسميه ستانيسلافسكي (الانفعال)، إنه تبرير خاطئ على الممثل أن يتقمص دوره فقط، ويؤديه في حدود سماته، وصفاته دون المغالاة بحجة مفهوم الافنعال، فيعرضون لنا عواطفهم بلا حياء على خشبة المسرح، وعندما يجدونها غير كافية لتبرر مسلكهم يرددون ما قاله ستانيسلافيسكي من ضرورة خروج الممثل عن نفسه وهي قاعدة صحيحة ومفيدة، ولكن يجب لدى تطبيقها أن يخرج الممثل حقا عن نفسه.
الإلهام/ هل هو العنصر الأساسي الذي يؤجج قريحة الممثل على خشبة المسرح لتمثيل أدواره إنه خطأ فادح كما أخبرنا فلاديمير دافيدوف في كتابه (قصة من الماضي) حيث قدم لنا تحليلا واضحا لإحساسات الممثل وهو على خشبة المسرح: إنه لخطأ شنيع أن يظن الممثل أن الأعصاب والإلهام مواد يمكن الاعتماد عليها في بناء دوره، إذ لن ينجم عن جهده في هذه الحال غير (انتشاء ذاتي) لا معنى له. لابد أنه يوجد إلهام، لكنه لا يأتي إلا بعد تمثيل الدور والغوص في تقمصه، ودراسة الدور وتأديته دون التفكير في الإلهام، فيكون من كل مشهد تمثله يغمرك بالهام ينبعث من نفسه دون حاجة إلى استثارته.
أيضا على الممثل أن يولد مغزى لدوره من خلال معاني الرواية، ومضامين الأدوار الأخرى داخل المغزى الرئيس للرواية، بإدراك صلته المتبادلة مع الأدوار الأخرى، وهذا ما يجب أن يفعله كل ممثل لا مخرج الرواية فقط.
لا يندم المؤلف إطلاقا على تمضية كل هذا الوقت في المسرح أو الكونسرتو لمدة ثلاث عشرة عام قبل أن يبدأ في احتراف حرفته فن الأراجوز، فهذا بدوره أعطاه خيال وقوة ملاحظة استغله في أعماله القادمة، دون أي أسف لإنفاقه العديد من سني شبابه في دراسة الفن وفن التصوير والحفر والموسيقى وأخيرا في المسرح الأنسانى وقد كان هذا في آخر أدواره دور البروفيسور دوسا الفقير، ومنذ ذلك الحين أي منذ ثلاث عشر سنة، لم يرتد المؤلف قط ملابس المسرح أو يزين وجهه بالمكياج.
وقد التقى المؤلف بأراجوزه الأول وهو في سن السابعة من خلال دمية صغيرة مضحكة، أهدته له أمه كانت تدعى بي با بو وقد كان أول عرض له أمام فاترينة محل أبتيم بائع الفطائر، ثم صنع ماريا امرأتين عجوزين، تاتيانا سيدة بنفسجية وبيكانيتي زنجي صغير، وكان الزنجي يتولى التهكم على المغنيين، لما كان يتلقاه المؤلف شخصيا من دروس في فن الغناء حيث كان المؤلف في فترة ما من حياته يتردد على معهد كونسرفتوار الخاص ليتلقى دروسا في الغناء تبعا لمنهج ستانيسلافيسكي، وبدأ ترسيخ فن الأراجوز كحرفة مع الزنجي بيكانيتي الذي كان يتهكم على طريقة الغناء، أو السنتمنتالية الزائفة التي أصبحت السخرية منها إحدى النواحي الجوهرية من عمل المؤلف في قاعات الكونسرتو، ومن عمله جزئيا على خشبة المسرح، ثم وهو يحكي قصص مضحكة كأقاصيص الأطفال، لكنها مؤثرة ولا تخلو من شاعرية وسبب ذلك أن الأراجوز لديه قدرة مذهلة على التزام الجد في جميع الظروف والحالات، فربما تلك القصة لو رواها رجل لبدت سخيفة، لكنها على لسان دمية صغيرة تبدو عليها ملامح الجد وثبات وجه الأراجوز يؤكد تركيز أفكاره وجديته.
وقد استخدم شارلي شابلن قناع التركيز الفكري وثبات أسارير الوجه هذا على الشاشة البيضاء، ولولا الاحتفاظ بعينيه وحاجبيه بمظهر الجدية التامة، ما كان ليقنعنا بما لا يصدق من التصرفات وما بها من غرابة وشذوذا، وبهذا استطاع أن يجعل من فن البلياتشو شعرا رقيقا، وكذلك حال الأراجوز.
ثم صنع امرأة عجوز وغنت مع بيكانيتي أغنية (كنا جالسين وحدنا) لتشايكوفيسكي، وكان غناؤهما يثير الضحك، ثم البروفيسور أو الجنتلمان الذي غنى مع صديقته العجوز أغنية (لقد كان يوما سعيدا) من تلحين بوريسوف. وأصبح للقرد شريك آخر قرد وغنى معه أغنية فرتنسكي (لحظة واحدة) من تلحينه وإن كانت على نقيض أغنيته (لقد كان يوما سعيدا) فالعاشقان في أغنية بوريسوف يتقابلان في الخريف، والغرض من كلاهما هو ابراز عنصر السخرية، والقضاء على النواحي السنتمنتالية، وكانت هذه أول فرقة مسرحية للأراجوزية كفن واحتراف للمؤلف، وإن كانت مجرد عروض لا تحوي أي مضمون أو فكرة من وراءها لكن للحقيقة أنه بهذه الفرقة، قد خلق هذا النوع أي الأغاني الغرامية تمثلها الأراجوزات التي لم تكن قد رؤيت على خشبة المسرح من قبل.
إحياء ذكرى بتروشيكا (الأراجوز البلدي القديم في روسيا)

فرغ المؤلف من صنع جميع الأراجوزات التي يحتاج إليها، وعثر على نص من مجلد صغير في مكتبة تبيع الكتب القديمة وكان النص يحوي كل العبارات التي كان يقولها بتروشيكا الشعبي وكان المجلد مزودا برسوم توضيحية تكفي لمساعدته على صنع الأراجوزات. ثم أضاف البيانولا ومعه ببغاء يعرف كيف يلتقط البخت، ولم يكتف المؤلف بهذا، فقد قام بزيارة محترف هو وزوجته إيفان افينو جنوفيتش زيتسيف حتى حصل على مطلبه كاملا. وهو عبارة عن زعافة من الفضة تتألف من قطعتين من المعدن بينهما لسان صغير يجعل صوت بتروشيكا حاد ومسرسع ورسم دريئة يسهل طيها طلب من نجار صنعها ثم كسوتها حرير أحمر، إلا أنه باء بالإخفاق وكان سببه أنه لم يكن هناك هدف حقيقي وراء تلك العرض والهدف بمعنى الفكرة وراء العرض، أي الرسالة التي من أجلها يتحرك الأراجوزات. فلابد للممثل أن يدرك الرواية في مجموعها، باعتبار ذلك وسيلة للتعبير عن فكرة بعينها.
يخبرنا الكاتب بصراحة عن إخفاقه في نجاح بتروشيكا والبيانولا والببغاء أن الفشل كان مصدره جريمة كبيرة وهي عدم الإخلاص، أي عدم الاندماج التام في أحداث القصة، خاصة في موضوع المشاهد التي كنت أمثلها بينما أداء زيتسيف كان يتفق تمام الاتفاق مع ذوقه ونظرته إلى الحياة وفهمه للفن.
وعلى الممثل أو المخرج أن يتساءل (ماذا سأقول للمستمعين عندما أمثل هذه المسرحية أو تلك؟ وليس في وسعك شئ ولو مجرد البدء في العمل قبل الإجابة عن هذا السؤال).
ثم اتجه إلى العامة في الشارع والقطار والمنازل لتقديم فرقته المسرحية من الأراجوزات وأعماله وهو يحمل دريئته التي بقيت له من حفلة بتروشيكا بها جيوبا داخلية يمكن حفظ الأراجوزات فيها والانتقال بها بسهولة في أي مكان، فأدى ذلك إلى اتساع نطاق جمهوره حتى جعل من فن الأراجوز حرفته، إلى جانب المدارس والمصحات وكلية جنيز الموسيقية وغيرها من الأماكن، وكانت هذه الحفلات لمجرد الكسب.
وجاء التخلي عن الأغاني والتحول إلى اللغة الدارجة وإخراج المشاهد الدرامية، وبدأ ذلك بحكايتين هما (الزوج) و (وجع الأسنان)، وكانتا حكايتان مكتوبتان في صيغة حوار ومن السهل إعدادهما للإخراج المسرحي أما الستار المسرحي، فقد جعل بتروشيكا وبيكانيتي هما اللذين يقومان بتغيير المناظر أمام الجمهور، ولكنهما فشلا، ولم يحققا البهجة والمتعة المرجوة، ولقد كان مرد هذا الإخفاق أن المؤلف لا يتعلق بالصوت وحده، وإنما بحاجة الممثل أيضا أن تطابق عواطفه عواطف الأراجوز، بل تطابق جسمه، فبدأ ذلك بحوار بين مدير مسرح وممثل ناشئ ونجح ولكنه لم يحقق حلم المؤلف بخلق مشاهد ذات بناء درامي، ونتيجة لفشل المؤلف في إخراج الحكايتين مع الذكر – عدل المؤلف عن الحوار كلية، وانصرف إلى التمثيل الصامت، وبدأت تلك الأدوار الصامتة التي بدأها (الساموفار) الذي كان مجرد دور لتأدية الأراجوز أعمال يدوية ثم (إعادة الشباب) ثم (بيكانيتي العاشق) واستخدام التشوير بعمل يدوي يقوم به الأراجوز كعامل مهم استعاض به المؤلف بالحبكة غافلا أهمية الموضوع أو الفكرة.
عامل الوقت هو قانون أشد وأدق في مسرح الأراجوز منه في أي نوع آخر من المسارح (فقصة بيكانيتي العاشق) كانت لا تستحق أكثر من دعابة وجيزة، فهو موضوع ساذج لا يحتاج لتلك الحبكة الطويلة.
من خلال رحلة المؤلف للبلدان الأجنبية اكتشف سَبيبْل في براغ من صنع المثال نوزيك والممثل سكوبا، حيث في تشيكو سلوفاكيا يستخدموا حتى معظم مسارح الأراجوز ماريونيت التي تحرك بوساطة خيوط وهي تختلف عن الأراجوزات القفازية، ثم رؤية مسرح الأمريكيين أراجوز في صحبة أوركسترا صغير جدا مكون من ثلاثة آلات بينهما الكمال وهي آلة لها صوت انسيابي يخلو في الوثبات الحادة التي تالفها من البيان أو الماندولين، وأيضا استخدام ريمو بفانو في مسرح نيويورك الذي كان يديره ثلاث أصابع، وقد لقن المؤلف درس هام في صياغة أطراف الأراجوز تبعا لما تتطلبه شخصيته وسلوكه، لا تبعا لما يقتضيه التماثل مع جسم الإنسان. إلا أن المؤلف يفضل الأراجوز القفازي، الذي يتحرك مع دقة حركة الأصابع للإنسان، فأصابع الإنسان أداة مرهفة جدا للحركة المتسعية لأن حركاته تخلو من الهزات حيث يغني الإيماء اللطيف عن الإفصاح، ذلك الأيماءالذي يلعب دورا هاما في الفن أيا كان نوعه، وقد أصبح الآن في المسرح الذي يديره المؤلف أوركسترا حقيقي متعدد الآلات.
في ربيع سنة 1927 عرض المؤلف دورين جديدين هما أغنية غرامية من تلحين دارجوميزسكي تدعى (الكاتب الشرعي) وأغنية من أغاني الغجر (مجرد معارق) ثم أغنية كورتشماريوف (الشماس) وأيضا من الأدوار الإيجابية التهويدة (أغنية لتنويم الطفل) من ألبوم أطفال لموسورجسكي وقد مثل فيها المؤلف دور الأب الذي يغني لطفله لحمله على النوم، وتوالت صنيع أدواره الإيحائية مثل (ليلة الصيف تلك) من تلحين جريتشانينوف، ثم قصة العشق الفتاك التي تعلمنا أن شخصية الأراجوز وسحنته وصفاته التعبيرية قد توحي إلينا أحيانا، إن لم يكن بالموضوع فعلى الأقل بالحبكة المسرحية واستعاض بهذا الدور في العشق الفتاك بأوبرا{ هابانيرا }وهي في الأصل رقصة أسبانية ملحنها بيزيه ومؤلفها بروسبي ميريمييه وهي أوبرا بطلها دون جوزيه وكارمن، وأراد المؤلف من تمثيلها بالأراجوزات أن يسخر من طريقة بعض المغنيات ذوات الذوق المبتذل في تأدية دور كارمن بشئ به قدر كبير من المبالغة في العشق الفتاك الذي جعل منه المؤلف موضوع تمثيله والسخرية منهن.
بعد حصر المؤلف لأدواره الإيجابية والسلبية تبعا لموقفه من النص الأصلي، جاء موضوع التهكم من شخص بعينه أو نوعا من الأشخاص ثم النوع الثالث التهكم على موضوع بعينه، وكانت بداية هذه الأنواع الجديدة من الفن متمثلة في رئيس إدارة المتاحف بوزارة التعليم في ذلك العهد ويدعى فيلكس كن وكان بالرغم من كبر سنه، شديد المرح، كما كان خطيبا فلما يوجد له مثيل وصاحب لكنه لا ينضب له معين، وبعد ذلك صنع أراجوز آخر يمثل نميروفيتش دانتشنكو وجعل الأراجوزين يظهران معا ويتناقشان مناقشة حامية في شأن نادى رحال المسرح، ثم التهكم على نفسه بأراجوز صنعه يشبهه لهذا الغرض ولكن الدور أخفق إخفاقا تاما.
ثم محبوبو الجماهير المزهوون بقوة حناجرهم واتقاد عواطفهم مضحين في سبيل ذلك بمغزى الأغنية وفحواها الموسيقى وقد اختار لها المؤلف أغنية (التوريادور) أي مصارع الثيران، ثم الفارس الشجيع التي أدت فكرتها إلى صنع فكرة المخفية برأس كبيرة ذات عينين متحركتين وفم يفتح ويقفل عن طريق روافع الفم والعينين متصلة بعقد المغنية، بحيث يكفي شده قليلا كي ينفتح فمها، ويرتفع جفناها عن عينين واسعتين جاحظتين فضلا عن اليدين الإنسانيتين التي كانت الأدارة الرئيسية كأفضل أداة للتهكم على منظر المغنيات المولعات بالأغاني العاطفية المفرطة في دلالها واختار لهذا الدور أغنية شائعة تدعى (عد يا حبيبي وسأصفح عن كل شئ).
كان المايسترو بأسلوب تهكمي أظهر فيه المؤلف المايسترو على نحو يريد هو أن يراه الناس، إذ صوره الحاكم المطلق الذي لا ينبعث نغم إلا بإذنه، وانتقل المؤلف إلى محاكاة تهكمية لموضوع هو مشهد من مشاهد السيرك، ولب الموضوع هو الخطر الفتاك الذي يهدد المروض ويستثير عواطف المشاهدين، ثم حكاية الأرنب السكران إحدى حكايات ميخالكوف الذي توافر بها الشكل والمضمون والحوار الذي كان من أهم العثرات التي يتعرض لها المؤلف ثم استلهم من موهبة اليدين لإخراج قصيدة ماياكوبسكي التي تعبر في كنهها عن مزحة أو فكاهة والفكاهة عادة تتألف من أفعال وأسماء ويقل فيها استعمال الصفات فالواقع إن إيجازها هو لبابها وهي عبارة عن مزالق العشق الشديدة الانحدار، تعني دون ريب شيئا واحدا بالنسبة للجميع لذا أراد المؤلف أن يحتفظ في هذا الدور بالأفعال مجردا إياه من كل صفة فردية. وقد اتخذ الرسام اندريه جونتشاروف هذا الأراجوز أساسا لتصميم غلاف كتابي على لسان المؤلف (أستاذ الأراجوز) الذي صدر سنة 1939، ولم يلبث أن أصبح هذا التصميم رمز لمسرح الأراجوز المركزي في موسكو. ثم مجلة لونكار التشيكوسلوفاكية قد اتخذته كذلك رمزا لها. وانتقل المؤلف لاستخدام الوجه كتعبير للتهكم على الخطباء الصفقاء، أولئك الذين يستطيعون إفاد أي موضوع بتكرار العبارات المعادة المحفوظة ثم قام بعمل أراجوز لهتلر، فحوله إلى زوجه رجل يدمن الخمر.
لا شك أن البروفات والجمهور هما من أهم العناصر لنجاح الممثل واستمراره ويمكننا تلخيص ذلك في مقولة قالتها المخرجة كسينيا كوتلوباي ذات مرة للمؤلف (إن الممثل لا يستطيع التمثيل إلا أمام جمهور، وإنه من الخطأ محاولة التمثيل أثناء التدريب، ولقد احتجت إلى سنوات عدة كي افهم ما تعنيه، فالجمهور هو وحده الذي يتيح للممثل أن يفتح عيون العواطف التي تنطوي عليها الدور، حتى لو كانت الشرايين قد أعدت جميعها من قبل }

فى نهاية الأمر، تستطيع بعد هذه الرؤية الشاملة لأعمال هذا المؤلف والمخرج والممثل العظيم سيرجي ابرازوف كما أخبرنا في نهاية كتابه العبقري أن لباب عملي الفني هو التهكم أي مكافحة المشاعر الزائفة والعواطف الخادعة والتفاهات والعيوب والأكاذيب وليس هناك غير عدد قليل من أدواري ينطوي على عنصر رومانسي مثل أغنية موسورجسكي (التهويدة) والدب القطبي وإلى حد ما أغنية تشايكوفيسكي (كنا جالسين وحدنا) ولكن حتى هذه الطائفة من الأغاني لا يخلو الأمر من عنصر التهكم.
وأخيرا علينا أن ننصت جيدا لصانع فن الأراجوز العبقري وهو يطلق حكما مفصليا ومحوريا في حياة أي فنان إيجابي وحقيقي ودؤوب وهو أن من أهم ما يحتاج إليه الفنان لتنمية مواهبه هو القدرة على الإصغاء إلى آراء الآخرين، وعدم فقدان الرغبة في ذلك على الأخص مع مرور الأيام، وهو أمر شائع بين أولئك الذي يرسم لهم الخط وهذه المقولة الهامة هي استخلاص تجربة فنان عظيم استمرت أكثر من خمسة وعشرون سنة.

كتاب مسرح الأراجوز
المؤلف :سيرجى أبرازوف
ترجمة :رمسيس يونان
دارالطباعة الحديثة
عرض وتقديم :هدى توفيق



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن