الداروينية ونشوء الإنسان (2)

رياض عبد
abedrt@btinternet.com

2015 / 4 / 7

لقد أشرت في الجزء الأول من مقالي الى التبعات المهمة على الطبيعة البشرية للمشي على ساقين وسوف أسهب هنا في بعض أهم هذه التبعات وسوف أركز على بعض الجوانب السايكولوجية والإجتماعية.
ولكن قبل أن أدخل في هذه التفاصيل أعتقد أن من المهم أن أشير هنا الى بعض الفروق المهمة بين النظرة التطورية الداروينية الى الطبيعة البشرية و التكوين البايولوجي للإنسان (وهذا ينطبق على كافة الكائنات الحية بطبيعة الحال) وبين النظرة الغيبية الدينية لأصل هذه الكائنات والصفات. فالنظرة التي تؤمن بالخلق الإلهي لا يمكن لها أن تطرح الفرضيات أو التساؤلات على مسببات صفات البشر أو الكائنات الحية الأخرى وذلك لكون الجواب على كافة التساؤلات هو الجواب نفسه في كافة الأحوال الا وهو أنها مشيئة الخالق. وهذا الجواب هو تفسير الكمال والخطأ والتصميم الجيد والسيء على حد سواء. أي بمعنى آخر يصبح طرح أي سؤال من هذا القبيل هو عبارة عن مضيعة للوقت لا طائل من تحته فالمؤمن بالخلق يؤمن كذلك بإن من غير الممكن معرفة ما في عقل الإله عند خلقه للكائنات وإعطائها صفات معينة لذلك لا معنى من طرح هكذا سؤال. لذا فعند الغيبيين هناك مساحات شاسعة من علوم البايولوجيا هي مغلقة تماماً وهم لا يجرأون على وطئها لئلا يتهمون بالكفر والتساؤل في شؤون الخلق الذي هو من المحرمات في بعض الأديان وخصوصاً الإسلام. وعلى العكس من هذا فإن إحدى أهم مصادر قوة الطريقة الداروينية في التفكير البايولوجي هو إفتراض أن كافة الكائنات وكافة الصفات التركيبية والوظيفية والسلوكية (بضمنها السايكولوجية) قد نشأت بفعل الإنتخاب الطبيعي إضافة الى عوامل طبيعية أخرى وأن من الممكن إكتشاف ودراسة الظروف الطبيعية التي أدت الى نجاح وتكاثر صفات معينة وفشل أخرى. وهذا في الحقيقة هو جوهر دراسة البايولوجيا أي العلوم الحياتية بشكل عام. فعلى العكس مما يتصوره البعض فأن علوم الأحياء لا تقتصر على عملية وصف لما هو موجود من كائنات حية في عالمنا اليوم (وهي نظرة سكونية غير متكاملة لطبيعة الحياة) بل هي كذلك محاولة لفهم القوى الديناميكية المتغيرة بشكل مستمر والتي أدت الى فشل الملايين من الكائنات و إنقراضها والى نجاح كائنات أخرى وتكاثرها. وهذا السؤال لا يمكن الحصول على أي إجابة عليه الا بإتباع النظرة الداروينية. وهنا من الممكن أن نتفهم المقولة الشهيرة لثيودور دوبجانسكي العالم البايولوجي المعروف في النصف الأول من القرن العشرين بإن لا يمكن فهم أي شيء في علوم الأحياء من دون الإعتماد على الداروينية. فكيف لنا أن نتساءل مثلاً عن المسببات لكثرة جين معين من الجينات البشرية (وهذا مرادف لصفات بشرية معينة) في مجموعة بشرية وندرة الجين نفسه في مجموعة أخرى دون الأخذ بالإعتبار عوامل بايولوجية كالإنتخاب الطبيعي؟ وبإختصار فبدون النظرة الداروينية تصبح دراسة العلوم الحياتية عملية عقيمة لا تعدو أن تكون وصفاً لما نشاهده في لحظة ما دون أي إمكانية لفهم الديناميكية التي تحرك المنظومة الاحيائية. والأهم من هذا كله هو عدم إمكانية التفكير بالإفتراضات العلمية ومن ثم دراستها وأما دحضها أو إثباتها وذلك لكون هذه الإفتراضات نابعة من فرضية النشوء العشوائي للصفات ومن ثم نجاح وإنتشار بعضها بواسطة الإنتخاب الطبيعي دون الحاجة الى إله خالق وهذا ما يعتبره الغيبيون غير جائز. وقد لخص العالم نيكولاس تنبرغن الحائز على جائزة نوبل في البيولوجيا في ستينات القرن الماضي أهمية الداروينية في فهم أي ظاهرة حياتية عندما إقترح بإنه ينبغي على أي باحث أن يأخذ بعين الإعتبار 4 أنواع من المسببات لفهم أية ظاهرة بايولوجية. والمسببات هي أولاً الوظيفة التي يؤديها التركيب أو العضو للكائن (في السلالات الماضية وفي الوقت الحاضر) ثانياَ المراحل التكوينية للتركيب أو العضو أثناء حياة الكائن ثالثاً المراحل التطورية التي صاحبت تكوين التركيب في السلالات الماضية وكذلك في الكائنات الأخرى الشبيهة ورابعاً فهم كيفية عمل التركيب أو العضو (فسلجة وكيمياء وغيرها). والواضح أن دراسة هذه المسببات الأربعة (وتعرف بأسئلة تنبرغن الأربعة) لايمكن فهمها وسبر أغوارها دون فهم الداروينية.
وأعود إذن الى موضوع المقال وهو التبعات السايكولوجية والإجتماعية للمشي على ساقين. لقد أشرت في مقالي السابق الى أن عوامل مناخية أدت الى إنحسار الغابات في بعض أنحاء شرق أفريقيا قبل حوالي 7 ملايين سنة مما أدى الى تكوين بيئة جديدة تعرف بالسافانا وهي مناطق سهلية شاسعة مغطاة بالحشائش الكثيفة العالية. ويبدو أن أسلافنا الذين كانوا متكيفين على المعيشة في الغابات وعلى تسلق الأشجار قد وجدوا فرصة للإنتقال الى بيئة جديدة توفر فرص ممتازة للبقاء والتكاثر ولكن في نفس الوقت تضمنت البيئة الجديدة تحديات هائلة. فالسافانا فيها أنواع متعددة من الحيوانات المجترة الصالحة للقنص والتي من الممكن أن توفر سعرات غذائية من الصعب الحصول عليها في الغابات الكثة التي عاش فيها أسلاف البشر قبل ذلك. ولكن في نفس الوقت تكثر في السافانا الحيوانات المفترسة التي تشكل خطراً مميتا على أي كائن ومن ضمنه الإنسان البدائي. لذا فإن الإنتخاب الطبيعي وجد حلولاً لهذه التحديات تتمثل في التغيير التدريجي للهيكل العظمي البشري من المشي على الأطراف الأربعة الى المشي على ساقين. وهذا التطور تضمن تغييراً في شكل العمود الفقري ليكون أكثر إنتصاباً وتغييراً في شكل وتركيب الأقدام لتكون أقل قدرة على مسك الأغصان وأكثر تكيفاً على تحمل ثقل الجسم في الوقوف والمشي والركض وكذلك تغير طول وشكل الأطراف العليا وتركيب اليدين والتي تحررت مع مرور الزمن بالكامل من وظيفة المشي. وقد إستغرق تحقيق هذه التغييرات الجذرية في تركيب الهيكل العظمي أكثر من ثلاثة ملايين سنة تعاقب خلالها عدد من أصناف الكائنات ما قبل البشرية وأدى الى تكوين جنس الهومو الأول الذي يستطيع المشي والركض على ساقين دون الإستعانة بالأطراف العليا إطلاقاَ. وإضافة الى تطور المشي على ساقين والذي ساعد الإنسان البدائي على النظر من فوق الحشائش لتجنب الحيوانات المفترسة ولتحسين القدرة على الصيد والقنص فإن من الواضح أن الإنسان البدائي (أو حتى الإنسان الحديث) غير مؤهل بايولوجياً لمقارعة الحيوانات المفترسة بمخالبها وأنيابها القاتلة وقدراتها الهجومية الفائقة ولا حتى الحيوانات المجترة الضخمة التي تفوق قوتها العضلية قوة البشر بما لا يقاس. فكان الحل الذي وجده الإنتخاب الطبيعي هو في زيادة عدد الجماعة البشرية و تطور القدرة على التنسيق فيما بينهم للعمل الذكي كفريق متلاحم. ولكي يتحقق هذا كان لابد من تطور هائل في قدرات الإنسان العقلية والتي أدت الى إزدياد حجم دماغ الإنسان. وقد إستمر نمو الدماغ البشري لفترة تزيد على 6 ملايين سنة الى أن وصل الى حجمه في صنف الهومو سابينس الذي ننتمي اليه جميعاً. وبالإضافة الى هذا فإن تضخم الدماغ وتحرير الأطراف العليا من وظيفة المشي قد فسح المجال لتطوير قدرات الإنسان اليدوية. فمع أن الإنسان ليس الكائن الوحيد الذي يصنع الأدوات (فقد أثبتت الدراسات أن الشمبانزي وكذلك أنواع أخرى من الحيوانات لها القدرة على صنع أدوات بدائية) فإن الإنسان قد طور القابلية على صنع الأدوات الى مستوى غير مسبوق عند أي من الكائنات الأخرى. وقد إستغرق تطور قدرات الأنسان على صنع الأدوات عدة ملايين من السنين. فعلى سبيل المثال فإن صنفاً من الإنسان البدائي المعروف ب هومو إيركتس الذي عاش قبل 3 ملايين سنة وإنتشر من أفريقيا الى أنحاء كثيرة من آسيا كان يصنع نوع محدد من الآلة الصخرية الحادة والمدببة وبشكل ثابت لم يتغير لمدة مليون سنة. ومع أن صنع هذه الآلة الصخرية كانت تحتاج الى مهارة عالية لا مثيل لها عند باقي أصناف البرايميت فإن من المذهل حقاً بإنه لم يتمكن أي فرد (على حد علمنا) من الهومو إركتس من تطوير أو تحسين هذه الآلة البسيطة طوال هذه الفترة الشاسعة التي إستمرت لأكثر من 40000 جيل!
وبظهور صنف الهومو سابينس وهو صنف البشر الذي ينتمي إليه كافة البشر اليوم بدأت تتكاثر أصناف الأدوات المصنوعة. ولإسباب غير مفهومة جيداً فقد حصل إزدياد إنفجاري لأنواع وتصاميم الأدوات التي صنعها أسلافنا في ال60000 سنة الأخيرة. ويعتقد الكثير من الباحثين أن هذا التغير في القدرة العقلية قد حصل ليس بفعل إزدياد حجم الدماغ (إذ ليس هناك دليل على زيادة حجم الدماغ في هذه الفترة) بل هو نتيجة لتغييرات في الإرتباطات العصبية داخل الدماغ والتي أنتجت القدرة على الكلام (والذي له أساس بايولوجي أكيد) وقد أدى هذا الى تضاعف القدرة على التفكير والتنسيق مع الآخرين وقد أدى هذا بدوره الى ظهور مواهب إبداعية لم يكن لها وجود في الإصناف البشرية التي سبقتها (على سبيل المثال الأعمال الفنية الخلابة في كهوف فرنسا والتي تعود الى قبل أكثر من 35000 سنة والتي تعتبر من أقدم الأعمال الفنية في العالم).
وقد أشرت في مقالي السابق الى التعارض بين تطور المشي على ساقين مع نمو الدماغ وذلك لكون المشي على ساقين يحدد سعة قناة الولادة عند النساء وقد أدى هذا الى ولادة الإنسان خديجاً غير متكامل النمو. فالدماغ البشري على العكس من معظم اللبائن (بما فيه البرايميت الذي ننتمي اليه) يكتمل نموه بنسبة %25 في داخل الرحم و%75 المتبقية في السنين الأربعة الأولى من الطفولة (ويستمر تكوين الدماغ البشري لسنين عديدة بعد ذلك حتى بداية العشرينات من العمر ولكن دون زيادة ملحوظة في الوزن أو الحجم وذلك من خلال تغيرات في الإرتباطات العصبية داخل الدماغ).
وأحد أهم التبعات لولادة الإنسان خديجاً هو إعتماده إعتماداً تاماً ومطلقاً على الأم (أو بديل الأم) في كل شيء ولمدة طويلة وبشكل غير مسبوق مقارنة بباقي اللبائن. ووضعية الإعتماد الكلي للطفل كون سايكولوجية بشرية تتميز بتكوين إرتباط عاطفي غاية في الأهمية مع الأم (أو بديل الأم كالجدة أو غيرها) تبدأ من ناحية الطفل في عمر 6 شهور وتستمر الى عمر 4 سنين أو نحوه (وبعد هذا السن يستمر الإرتباط العاطفي ولكن بشكل يسمح للطفل بهامش أوسع للحركة المستقلة). يحاول الطفل خلال هذه الفترة أن يتواصل بشكل وثيق وقريب مع الأم وعند عدم إستطاعته ذلك أو في حالة عدم تلبية الأم حاجة الطفل الشديدة الى الشعور بالأمن والطمأنينة وذلك من خلال اللمس أو مجرد القرب الجسدي يشعر الطفل بألم نفسي عميق وإذا تكرر ذلك على مدى شهور أو سنوات فإن من الممكن أن يؤدي هذا الى عواقب سايكولوجية قد تؤدي الى إضطرابات في الشخصية أو حالات عصابية مزمنة مثل القلق المزمن وغيرها. والمثير للإنتباه أن عمر الستة شهور الذي تبدأ فيه ظاهرة الإرتباط العاطفي في الظهور (والذي إكتشفه جون باولبي كما ذكرت في المقال السابق) من ناحية الطفل يتزامن مع بدء الطفل بالحبو أي بالتحرك المستقل عن الأم والذي قد يعرض الطفل الى مخاطر جمة في البيئة الأصلية التي نشأ فيها الإنسان ولذلك فإن نشوء الإرتباط مع الأم في هذا العمر كان له فوائد واضحة تساعده على البقاء. كذلك فإن طبيعة وقوة الإرتباط العاطفي مع الأم تشكل نموذج للإرتباطات العاطفية التي تحصل عند الإنسان في بقية حياته. فعلى سبيل المثال العلاقات بين الجنسين في كافة المجتمعات البشرية تتميز بكونها طويلة المدى وهي تتضمن مشاركة الرجل بشكل من الأشكال للمرأة في إعالة الأطفال. وفي هذا يختلف الإنسان عن معظم اللبائن (ولكن هناك أنواع من الطيور لهم سلوك مشابه).
لذا فإن هناك علاقة عضوية بين المشي على ساقين وولادة الأنسان خديجا ونشوء القدرة على الإرتباط العاطفي الطويل المدى (في البداية مع الأم ومن ثم مع الغير) وبين هذا وبين إستعداد الرجل لتقديم الدعم والرعاية الى المرأة التي تنجب له الأطفال. وهذه السيكولوجية البشرية تختلف إختلافاً جوهرياً عن بقية البرايميت واللبائن حيث الذكر أما لايعير الأنثى وأولادها أي إهتمام فيما عدا المجامعة الجنسية (كما هو الحال لدى الشمبانزي) أو ينحصر إهتمام الذكر على منع أي ذكر آخر من التقرب من حريمه (كما هو الحال عند الغوريلا) ولكن دون أن يعير الإناث أو الأطفال إهتمام خاص.
وإضافة الى هذا فإن إزدياد عدد أفراد الجماعة البشرية الذي أشرت اليه أنتج شبكة من العلاقات الإحتماعية غاية في التعقيد ولهذا فإن أجزاء كبيرة من الدماغ البشري لها وظيفة تحليل وفهم البيئة الاجتماعية والمساعدة على تحديد السلوك آخذاً بالإعتبار تبعات أي فعل على الآخرين والتعامل مع ردود أفعالهم. والملاحظ أن الإنسان الطبيعي له قدرة فائقة على التعامل مع بيئته الاجتماعية بتعقيداتها وتشابكاتها بشكل سلس ودون صعوبة تذكر في معظم الأحوال وهذه إحدى الصفات التي تميز الإنسان عن باقي الكائنات. ويعتبر الكثير من الباحثين أن أجزاء الدماغ البشري التي لها وظيفة التعامل مع البيئة الاجتماعية هي بمثابة "دماغ إجتماعي". ومن الممكن ملاحظة ما يحدث عند حدوث خلل في تكوين الدماغ الاجتماعي كما هو الحال عند المصابين بالتوحد الذين يجدون صعوبة هائلة في التعامل مع أبسط العلاقات الاجتماعية. لذا فإن تطور ونشوء الدماغ الاجتماعي البشري هو جانب مهم وجوهري في نشوء الإنسان والذي يرجع أصله كذلك الى المشي على ساقين.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن