وجهها آخر المارين / قصة قصيرة

عقيل الواجدي
abqeel@yahoo.com

2015 / 2 / 20

وجهها آخر المارين
قصة قصيرة

ما كان ليأبه لصوتِ الباعةِ المارينَ بعرباتهم الى جنبِ النافذةِ بأصواتهم العاليةِ لولا انه – الصوت - يقطعُ عليه لحظاتِ الاختلاءِ بنفسه ، اللحظاتِ التي اصبحتْ نادرةً ككل شيء هاهنا ، الليلُ ذاته ما عاد يمنحه تلك اللحظاتِ فكيف بالصباحاتِ التي توقظ ُ الفقراءَ مبكرين للبحثِ عن سدِّ الحاجةِ في مدنِ العوز !!
الوسادةُ التي جرَّب اخفاءَ رأسهِ تحتها لم تفلح في حجبِ الاصواتِ التي تزدادُ ارتفاعاً مع مرورِ النهار ، الكلُّ هنا يرفعُ صوته ، حتى من يكلمُ نفسه تكادُ تسمعه ، انها مدينة الاصواتِ وحسب ، تقلَّب على سريره بلا جدوى ثم ما لبث ان غادره الى النافذة ، يومان مرّا ونافذتها مغلقة بل لمْ يُبْصر لها ضوءً !! معتمٌ هذا النهار كأنما الشمسُ تشرقُ من نافذتها لا السماء !! الوقتُ يسرقه وعليه ان يودعها ، ربما لن يراها بعد الان ، عيناها البنيتانِ لن تعودا تخيطانِ له الاملَ في البقاء هنا ، ولا فَمُها الذي يزيلُ تلالَ التعب بابتسامته ، يُدركُ ان النافذة المغلقة من خلفها عينين تراقبانه ، مذ اخبرها عن نيته في المغادرة اِنغلقَ كل شيء فيها وليست نافذتها فحسب ، اِنزوتْ مختفية عنه علّها تثنيه عن سفره اِنْ افتقدها او احسَّ بحزنها ، لكنه يدرك انها لن تدعه يسافر دون ان يودعها ...
لا احد سيشعرُ بغيابه الاّ هي ، ولن يسعى احدٌ لتوديعه ، هلاميةٌ هي العواطف لا تتشكل على هيئة الفقراء ، ولن تحفظَ العيون ملامحهم ، راحلون كانما لم يحضروا ، كما الضوء لا اثرَ حين انطفائه ،
سنوات عرّشت على ملامحهِ بِلِـبْلابِ تعبها وعوزها ، جناحاه يلتفّانِ على بعضهما كلما فكر بالتحليق بعيدا ،
كان عليه ان يعود مبكرا قبل ان تلتفت الى غيابه ، العودة المبكرة تمنح الطمأنينة لأمٍّ تـتفقد اِبنها حين تُسْعفها قِواها ، الروماتيزم يركنها في زاوية العزلة بعيداً عن الوجوه التي كانت تأنسُ بهم وهم يحيطونها ، اِستنفدوا ما عندها كما الروماتيزم حين استنفد قواها فحلّقوا بعيدا عنها ، العناية بها ستشغل وقتهم بلاشك .. اخوته الذين زرعوا فسائل الحزن في روح امّهِ بَسَقَتْ اشجارا اثمرتْ هذا الوجع والعزلة التي منحت لحظاتها سواداً كثوبها الذي لم تُغَـيّر لونه منذ ان مات ابوهم ، اشاح بوجهه عنهم لكنه كلما نظر لوجهِ امهِ رآهم فيه ، يرتسمون حنيناً في كل ملامحها رغم قسوتهم ، الامُّ سحابةٌ ممطرة ٌلاتشح بمطرها حتى عمَّن لا يحبها .. لكنما الريح لم تمنحها طويلا لتدفع سحابتها نحو الافول ..
في لحظة ادرك ان كل الدروس التي مرَّت بحياته محضُ هراء ، والكلمات التي لا تعييهِ حضوراً اصبحت ْ مستعصية الحضور ، بل لا جدوى منها ، ما قيمة ان تكون مثقفاً او شاعرا او حتى اميرا للشعر !! ما قيمة ان تكون انساناً !! ما قيمة ان يكون لك احساس تختزل الدنيا كلها بأسرها فيه ، ما معنى ان تكون اصلا !!
لحظة الانطفاء اوجع من كل لحظات الاحتراق ، ان تحترق لسبب خير من ان تنطفئ بلا سبب ...
خواءٌ هذا العقل لا يكاد يسعفني - دوّن باطراف الذاكرة - هاربٌ كل مابي ، بل ما بقي مني شيءٌ اكاد اتلمسه ، خائنة هذي اللحظات تسرقٌ الاحاسيس بمرأى من وجعي ، تقطفُ ثمارَ روحي باغصانها ، قاسية حدَّ الاستخفاف بعروقي التي تشبثت بأرضٍ رغم كل التجريف المحيط بها ، هذيانٌ مُسْتَخِفٍ بالعقل كلماتي ، ارجوحة من الجزع تحلق بي وتعيدني ، تنكأ كل اللحظات التي مرَّتْ سراباً ، ما اوجعكِ ايتها اللحظات !!
اُعيذكِ من وجعي يالحظة الرحيل ، فخضاب احلامي وحناؤه تيبَّست على اطراف ضفائرِ جنوني ، ليت الجنون حلاّ لأتخلص من كل هذا الوجع ..
حرّك راسه مرارا كانما ينفض ما تسلَّلت اليه من افكار ، او نائمٌ يوقظ نفسه من كابوس ، التفكيرُ مُوهِنٌ لذوي العقول ، قرر ان يركنه حيث هو ، يغادر الى عالم لا يحتاج فيه الى عقله ، مَنْقَصةٌ هو العقل حين يكون عالمك مجنونا ، متثاقلة خطواته تسحب به بعيدا عن النافذة ، يدرك ان مضمار الوقت لا خاسر فيه الاّ الامنيات التي تترنح تباعا وسط ذهول الاجتهاد ، الزمن يشوه الملامح كوجه مرآة مغبَر ، لا تفاصيل الا ما يتركها الزمن بقسوته على الوجوه ، القلق يؤرشف اللحظات ، لا فواصل في زمن تسمّر عند ناصية الذكرى ، اِتّسعتْ خطوات لهفته وهو يلاحق ما تبقى من طيفها قبل ان يَدْلَفَ نحو منعطف النسيان ، النسيان الذي يتشظى كالصباحاتِ عند النوافذ حين يتسللُ وجهها كالضوء من بين الستائر ، لَوّحَ للنوارس العائدة نحو السواحل بمنديل الحنين ، للبقايا من روحه التي بقيت تعدُّ المسافاتِ نحو بيتها بخطوات التمنّي ، البحر يبتلع ملامح المدن ويقضمُ السواحلَ بفم الضياع ، الماء العَطِشُ للحنين تغريه رائحة الاجساد ، رائحة الاحلام التي تدفعها الريح باتجاه السواحل ، وحده الماء من يسرق الحكايات من فم الراكضين نحو المدن لبيع الندم ، لا بوادر لنهاية الماء سوى احلام طافحة تعجُّ بها الفضاءات لآخر السفن الغارقة ، الزمن متوقف منذ اخر استدارة لمحرك السفينة .
وجهها المتوسلُ كان آخر المارين بذاكرته وهي تنسحبُ خائبة بعينين اغرقتهما الدموع ، اشاح عن وجهها المتوسل رَفْضاً ان يغادرها ، ادارَ ظهره لها حتى لا يستجيب لدموعها ، كانت وحدها القادرة على ثنيه عما سيقدم عليه ، لكن لابد مما ينبغي ان يفعله ، الرحيل حلٌّ لكل الامنيات المعلقة ، حبال البقاء تخنق كل شيء فيه ، مالوطن الاّ مشنقة .
وَدَّعَ البابَ بيده التي استدارت بنصف دائرة على مقبضه ، المقبض الذي اضحى مزاراً لشفتيها كلما اشتاقت اليه ، خلّفَ الشفاه تبلسم ظهره بالدعوات ، تسارعت خطواته كانما يسابق اللحظات الى الغياب ، البحر يُشْرِعُ متاهاته للقادمين ، السفن تقايض اليابسة بجثث الباحثين عنها ، اليابسة التي غادروها بحثا عن يابسة اخرى تطفيء اخر خطواتهم بالنسيان .
السكون الذي حل دفعة واحدة يوجف القلوب ، معادلة سقيمة ان يشعرك الهدوء بالقلق ، لا صوت للمحركات ، الغرف الخفية ما غير عيون تستفهم من بعضها بلا جدوى .. الباب الذي انفرج على مصراعيه ادلّهم الى سطح السفينة ، كانت المرة الوحيدة التي راى البحر فيها منذ ان وقف على سواحله ومن معه مترقبين غفلة الحراس ليلجوا غرفة البضائع ، خمستهم يجوبون السطح بلا دوار ، البحر يصادر الوجود بتقوسه ..
الليل بلا ملامح ، بقايا الضوء الخافت يمنح تفاصيل السفينة اشكالا مخيفه ، البرد يدوّن اخر الامنيات بالدفء ، السكون يحتطب الذاكرة ، الفراغ اجساد تخلت عن كل شيء ، فروته التي دستها في حقيبته - رغم اعتراضه على اخذها- لا تكاد تحول دون تسرب البرد الى كل تفاصيله ، الظلام يغير وِجْهَة السواحل ، يرسمُ اليأس على الوجوه المتعبة ، يحزمُ حقائب الاحلام ويعود بها الى محطات الخيبة ، آخر العائدين شابٌ اغتالته يد السكَّرِ بِمِدْيَةِ الهمِّ ...

الناصرية 20/شباط 2015



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن