قيادة الحركة الإسلامية في العراق 1980 – 2003 / الحلقة 12

عباس الزيدي
hussainawsi@yahoo.com

2015 / 1 / 20

الصدر و السياسة

كانت للسيد محمد الصدر رؤيته السياسية الخاصة منذ وقت مبكر، مع أنه لم ينخرط في أي تنظيم أو يتأثر بأية منظومة سياسية ظاهرة على الساحة في تلك الفترة حتى استشهاده، ولكن نلاحظ في نفس الوقت أنه من المنظرين المهمين لتوجه سياسي مستقبلي كبير، فقد ناقش منذ وقت مبكر جذور السياسة الغربية في كتابه (نظرات إسلامية في إعلان حقوق الإنسان) عام 1962 وفي هذا الكتاب يظهر لنا بشكل مقتضب منهجه السياسي والأخلاقي الذي اختطه لنفسه ومن بعد ذلك سار عليه أو أسَّس له، فمن آباء السياسة الغربية (جون لوك، توماس هوبز، وجان جاك روسو)، الى آباء الماركسية والشيوعية (ماركس، انجلز، وبليخانوف، وغيرهم) في كتابه المهم (اليوم الموعود) تناول آراهم بالتفصيل وبفكر مجرَّد حديث لم يسر فيه على غرار المنهج التقليدي السائد في الاتجاهات الدينية، وعلى الرغم من كونه من المحسوبين على مرجعية السيد محمد باقر الصدر والمتأثرين به ومن أشد أتباع مدرسته، إلا أنه اختط لنفسه طريقاً خاصاً به منذ وقت مبكر جداً.
رفض الانتماء الى حزب الدعوة بالرغم من كونه شاباً في السنوات الأولى لتأسيسه، فهو من مواليد عام 1943، بينما تأسس حزب الدعوة عام 1957 أو 1958، وعادة ما يكون الشباب أكثر اندفاعاً لكل ما هو جديد، فضلاً عن كون أستاذه الصدر قد وافق على رعاية الحزب الذي تأسس على يد السيد مهدي الحكيم وبعض فضلاء الحوزة وغيرهم ذلك الوقت. وكان من المفترض أن حزب الدعوة يتقيَّد بتوجيهات القيادة الدينية وليس أنها اقتراحات قابلة للأخذ أو الرد، لهذا رفض بأي شكل التواصل مع حزب الدعوة.
((يوجد خلاف بين السياسيين الإسلاميين حاصله : أنه مَنْ هو الأصل ولمن مرجعية القرار هل للمرجعية الدينية ويكون دور الحزب التنفيذ والعمل ضمن توجيهات المرجعية، أم أن الأصل هو الحزب فهو الذي يقرر وينفذ، ويكون دور المرجعية تقديم النصائح غير الملزمة.
وكان (قدس سره) يعيش تجربة مُرَّةً من بعض الأحزاب الإسلامية الشيعية التي تأسست برعاية المرجعية، ثم خلفتها وراء ظهرها وأعطت لنفسها الحق في القيمومة على آراء المرجعية. (1))).
وصل الأمر بطلبة العلوم الدينية من مقلدي وأتباع السيد محمد باقر الصدر ممن كانوا منظمين في حزب الدعوة الى مقاطعته عند صدور حكمه بحرمة الإنتماء الى الحزب.
عام 1974م :
((ومهما كانت الدوافع التي تقف وراء قرارات الإمام الصدر وإجراءاته الاحترازية فإنها أدَّت الى فصل مسار الدعوة عن مسار مرجعيته، وكان بعض مظاهر هذا الفصل تحوُّل الطلبة الذين كانوا يدرسون في حوزة الإمام الصدر ـ ومن الذين تمسكوا بانتمائهم التنظيمي لحزب الدعوة ـ للدراسة عند علماء آخرين(2))).
وبالرغم من أن كل مدرسة أستاذه الصدر كانت محسوبة تاريخياً على حزب الدعوة، وهذا من الأخطاء التأريخية الفادحة، إذ لم يكن نفس السيد محمد باقر الصدر كفرد أو عضو في الحزب، فإن حزب الدعوة مستقل عنه قبل أن يتولى الإشراف عليه، إذ لم يكن هو من المؤسسين له، وإنما عرض عليه المؤسس السيد مهدي الحكيم رعاية الحزب والإشراف عليه بعد تأسيسه(3)، وبعد سنتين انسحب السيد محمد باقر الصدر من هذا الإشراف، بتوصية حكيمة من السيد محسن الحكيم الذي كانت عنده تجربة طيبة سابقة على الصعيد السياسي. واستقل الحزب تماماً عن توجيهات المرجعية ولم يكن معظم قادته يرون أنهم ملزمون بأوامر المجتهد، ولكنهم بقوا على اتصال متذبذب مع السيد الشهيد حتى تفرقوا بين المعتقلات والهجرة، ولم يبق أحد منهم قربه في أيامه الأخيرة، ولكن السيد الصدر لم يعلن براءته وتنصله عن الحزب حتى عندما استقلُّوا عنه في مراحل متفرقة بعد خلافات معروفة، وبقي يعتبر نفسه الراعي الأول له، ويروي بعض طلبته أن السيد الصدر كانت عنده النية لإعادة التنظيم من جديد في أواخر السبعينيات(4)، والحال أنه أعاد التفكير جذرياً في أسلوب مرجعيته على مستوى التعامل مع المجتمع بعد تخلّي طلبته عنه في الأيام الأخيرة، وعاهد نفسه أن يتوجه الى عامة المجتمع في حال إنقضاء الأزمة، ولكن النظام عاجله بالاعتقال فالإعدام، وهذا ما يرويه محمد رضا النعماني في كتابه "سنوات المحنة وأيام الحصار"، وسنلاحظ أن هذه النقطة هو محور الخلاف بين الصدرين في السابق، ولكنها أصبحت محطة الإلتقاء في الأيام الأخيرة من حياة الصدر الأول، فقد كان الصدر الثاني يرى أن المجتمع عامة هو الأولى بالاهتمام والرعاية كما سنرى.
لم يكن الخلاف بين حزب الدعوة والصدر الثاني سطحياً أو مقتصراً على رؤيته لـ(الأنانية الحزبية)، بل الأمر أعمق من ذلك، فحزب الدعوة يرى عدم افتقاره وحاجته الى المرجعية، ويبدو أن هذه المشكلة كانت منذ أول التأسيس، وبعد ذلك تعمَّق الخلاف مع المرجعية والخصومة معها، إذ بعد انسحاب السيد محمد باقر الصدر من الإشراف على حزب الدعوة عام 1960(5)، كان ردُّ الحاج عبد الصاحب دخيل (أحد أبرز قيادات الحزب) : ((فلنتوكل على الله ونستمر، إن هذا العمل ينبغي أن لا يعتمد على الأشخاص(6))). فالمرجع في فهم حزب الدعوة هو مجرد (شخص) من ضمن مجموعة كما هو واضح من تصريح الدخيل، بينما السيد محمد الصدر يعتبر كل عمل لا ينطلق من المرجعية أو بإمضاءها فهو باطل لا شرعية له. لذلك كان بعض الفضلاء كـ(الشيخ عبد الهادي الفضلي) من أعضاء حزب الدعوة قد طالب بعد ذلك بضرورة وجود مجتهد داخل التنظيم لضمان سلامة خط سير الدعوة من الناحيتين الايديولوجية والسياسية، ولكن طلبه رُفض وأصدر الشيخ عارف البصري قراراً بفصله من الحزب(7). ومارس بعض القياديين سلطة ديكتاتورية مطلقة على مستوى التنظيم والتنظير مما أدَّى الى إهمال حزب الدعوة لفكر أهل البيت في نشراتها(8).
وهناك الخلاف الجوهري بين حزب الدعوة وبين السيد محمد الصدر فــي جملة مـــــــن العقائد الشيعية(9)، فحزب الدعوة لا يؤمــن بالولايــة التكوينية(10)، التي يعتبرها السيد محمد الصدر ثابتة للمعصومين، كما في إحدى خطب الجمعة التي قال فيها : (الولاية التكوينية ثابتة للمعصوم رغم أنف من لا يرضى) (11)، وهذه الكلمة رسالة واضحة وليس مجرد إبداء رأي.
إيمان الصدر الثاني بالرجعة وهي من العقائد المعروفة عند الشيعة، وحزب الدعوة وجملة من فقهائهم يسخرون من هذه العقيدة، وخصَّص السيد الصدر بحثاً مستقلاً بعنوان (بحث حول الرجعة) خلال مرجعيته، ومن قبلُ مرَّ على ذكرها وإثباتها في كتابه (تاريخ ما بعد الظهور). ولكن السيد الصدر يدعو الى الإيمان بالرجعة بصرف النظر عن كيفيتها، ويعتبرها من واضحات القرآن الكريم وما جاء من نصوص مستفيضة عن أهل البيت (صلوات الله عليهم).
عقيدته بالعصمة المطلقة للأنبياء والأئمة، بينما يرى فقهاء حزب الدعوة عدم ضرورتها في ما عدا تبليغ الأحكام، وظهر ذلك جلياً في كتاب (مراجعات في عصمة الأنبياء من منظور قرآني) (12) تأليف السيد عبد السلام زين العابدين المشهور بـ(أبي مالك الموسوي)، وكذلك في جملة من مؤلفات السيد محمد حسين فضل الله، وكلاهما من الدعاة. بينما يرى السيد محمد الصدر أن ما جاء في القرآن من ألفاظ (معصية، ذنب، خطيئة) عند ذكر بعض الأنبياء فهي لا تعني أكثر من (اللمم) أو (ترك الأولى)، فحسب عقيدته تكون (حسنات الأبرار سيئات المقربين)، وكَتَبَ (رفع الشبهات عن الأنبياء) لهذا الغرض.
طاعة المرجعية (بصورة مطلقة واجبة وغير قابلة للمناقشة) (13) من أساسيات المذهب عند السيد الصدر كتطبيق للمروي عن الأئمة "عليهم السلام" (الراد عليهم كالراد علينا والراد علينا كالراد على الله)، بينما هي من نافلة القول عند حزب الدعوة بل لاغية وليس لها ضرورة، فالمرجع مجرد (مثقف ديني) رأيه كرأي غيره، وتكلَّل منهج حزب الدعوة بإقصاء المرجع أو الفقيه كما حصل مع السيد كاظم الحائري.
تبنَّى حزب الدعوة منهجية السيد محمد حسين فضل الله الذي جاهر برفض جملة من الأفكار التي تعتبر من مسلَّمات التشيع، وقد رفض السيد الصدر هذه المنهجية تماماً، وجاء في معرض حديثه عن بعض آراء السيد فضل الله :
((إن هناك جملة من الأفكار مهما كانت قيمتها الدليلية فإنها فعلاً شاركت في بناء الدين واليقين في نفوس الملايين خلال الأجيال، وكانت وما زالت مصباح نور يستضيء به الشيعة. فليس من المصلحة أن نقوم بإطفائه بمعنى شجب وتكذيب هذه الأفكار، بل ينبغي أن نسكت عنها حفظاً للمصلحة العامة ما لم يكن لدينا البديل الصالح لها ولن يكون.
مثل حرق باب الدار للزهراء (عليها السلام)، وحرق الخيام لنساء الحسين (عليه السلام) وغير ذلك كثير. فالذي فعلتُه في تلك المسائل هو أني دافعت عن صلاحية تلك الأفكار علينا وبغض النظر عن دليليتها. لأن وجودها ضروري لحفظ دين الناس من ناحية، وعدم تنصلنا من تأريخنا وجهاد قادتنا من ناحية أخرى، لا لشيء سوى أننا نريد أن نسير بالاتجاه المادي الدنيوي الذي خطَّته لنا أوربا الاستعمارية(14))).
ولكن السيد الصدر رفض في نفس الوقت مهاجمة السيد فضل الله، ودعا الى مناقشته بما يتناسب مع الأجواء العلمية.

-----------------------
(1) اليعقوبي، محمد، الشهيد الصدر الثاني كما أعرفه، ص 358.
(2) الخرسان، مصدر سابق، ص 203 ـ 204.
(3) تضاربت الآراء حول كيفية تأسيس حزب الدعوة ومكان وزمان الاجتماع التأسيسي الأول والتي وردت في بعض شهادات (النواة الأولى المؤسسة للحزب)، فقد ذكر مهدي الحكيم في أنه تكلم مع طالب الرفاعي وعبد الصاحب دخيل على أساس أن نعمل حزباً، وعقدنا عدة اجتماعات حول هذا الموضوع. جاء في شهادة طالب الرفاعي بأن محمد باقر الصدر لم يكن المؤسس لحزب الدعوة وانما دُعي أن يكون على رأس الهرم التنظيمي، وأن هناك تمهيد لذلك فاستجاب الصدر لدعوتهم، أما حزب الدعوة فإن مؤسسوه ـ حسب ما ذكر الرفاعي ـ هم (طالب الرفاعي، مهدي الحكيم، وشخص ثالث لم يذكر اسمه). أميرة الياسري، المثلث الصدري والحراك الاسلامي، محمد باقر الصدر رائداً، ص376 هامش الصفحة.
(4) هذا ما ذكره السيد عمار أبو رغيف في حديث دار في منزله في مدينة قم عام 2000، عباس الزيدي.
(5) الخرسان، مصدر سابق، ص 117.
(6) المصدر السابق، ص 121.
(7) المصدر السابق، ص 122.
(8) المصدر السابق، ص 138. هذا القيادي هو محمد هادي السبيتي، ويعود السبب في عزوفه عن فكر أهل البيت كونه بالأصل من أعضاء حزب التحرير السني قبل انتماءه الى حزب الدعوة. الخرسان، ص41. يلاحظ أن (حزب التحرير) من الجهات السلفية المتشددة التي تكفِّر الشيعة. أميرة الياسري، مصدر سابق، ص 377.
(9) بالطبع لا يعني كلامنا هذا أن جميع قيادات حزب الدعوة كانت تسير في هذا الاتجاه، إذ كان جملة من قياداته متمسكة بعقائدها الشيعية (بدرجات متفاوتة) كالسيد مرتضى العسكري والشيخ عبد الهادي الفضلي والسيد كاظم الحائري والسيد سامي البدري، وغيرهم. أما المعجبون بحزب الدعوة والأعضاء والكوادر فلا معرفة عندهم عادة بتفاصيل وخلفيات المشاكل العقائدية والتنظيمية للحزب طيلة الفترة الممتدة حتى سقوط النظام عام 2003م، فلم تجد القيادة حاجة ماسة لتشرح ما عندها أو انشغلت بما هو أهم، وهذا يخص التنظيم في العراق، أما الأعضاء والكوادر في إيران وسوريا وغيرهما فقد كان الأمر واضحاً، خاصة بعد الاعلانات الرسمية للسيد محمد حسين فضل الله المرشد الروحي (نسبياً) لحزب الدعوة بكل تفرعاته، في جملة من تأليفاته وتصريحاته.
(10) أنظر بهذا الخصوص كتاب (الولاية التكوينية) تأليف د.علاء مير محمد القزويني. وكتاب (نظرة اسلامية حول الولاية التكوينية) تأليف محمد حسين فضل الله.
(11) خطبة الجمعة الثالثة عشر بتاريخ 10/7/1998م.
(12) حظي هذا الكتاب بمباركة السيد كاظم الحائري كما أخبرني المؤلف في حديث معه أثناء إهداءه نسخة من الكتاب لي في مدينة قم قبل سقوط النظام. عباس الزيدي.
(13) هذا لا يعني أن السيد الصدر كان يمارس أو يفرض ديكتاتورية مطلقة، فهو في معظم القضايا المتعلقة بالمجتمع كان يطلب الرأي من الآخرين، وكان يستقبل أي نقد ونصح مخلص. ولكنه في نفس الوقت رأى قصور المجتمع وتدنيه وحاجته الى التوجيه لكي يعي ويتطور فقد كان الوضع متردياً الى حدٍّ بعيد.
(14) الزيدي، عباس، السفير الخامس، ص295.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن