وللشرق سحره*

أكرم شلغين
saidabugannam@yahoo.com

2015 / 1 / 7

كانت تعرف عن "الشرق" و"سحر الشرق" من خلال الفانتازيا التي تملأ الكتب والحكايا الشعبية المتداولة في الغرب عموماً فقد قرأت، من بين ما قرأته، كارل ماي ورفيق شامي بل واستوقفها كثيراً افتتان غوته بالمنطقة...وحين صادقت شاباً شرقياً (تركياً) كانت علاقتها مزيجاً من الرومانسية والفضول للوصول إلى الشرق وسحر الشرق الذي سمعت وقرأت عنه... كانت تحدث صديقها التركي بما قرأته... وكان يبتسم رافعاً رأسه وكأنه العارف والقادر والمثقف والحكيم...وعندما تتمخض نظراته عن بعض الكلام كان يقول لها نحن مهد الحضارات وما تحتويه الكتب ليس إلا القليل ولا يرتقي إلى مستوى إنصاف للشرق، ومرات أخرى كان يبدو كمن أراد الكلام فيحكي ويحكي بلا توقف و يصف لها جمال قريته التركية وكرم أهلها ومحبتهم للضيف و...و...و...ويوما بعد يوماً أخذ خياله ينسج أكثر وأكثر عن "تميز الشرق بقيمه وبأخلاق أهله" وأما من تراهم في ألمانيا من أتراك فهم لايمثلون بحق أهل بلده، وتدريجياً بدأ حديثه عن بلده وناسه يقترن بالتلميح عن انعدام "الروحانيات" لدى الغرب من وجهة نظره...
ومرة طرح فكرة طالما راودتها في سرها ولكنها لم تُخرِجها... وهي أن تزور بلده وقريته وأهل بلده الطيبين المضيافين في الشرق فوافقت على الفور... اختمرت فكرة الزيارة للشرق أكثر وبدأت مرحلة تحديد الموعد وشراء التذاكر والاستعداد للحدث التاريخي في حياتها....
كانت تلك الألمانية تتسلح بجرعات من الصبر تُوسّع من صدرها ومصدر تلك الجرعات كان ذلك الحدث العظيم حيث ستطير إلى الشرق وستكون وجهاً لوجه مع أهله...جلست الألمانية بهدوء إلى جانب صديقها التركي في الطائرة المقلة من برلين إلى استنبول وبيدها كتاب أرادت أن تقرا فيه ـ حيث دأبت على عادة استغلال أي دقيقة ممكنة من وقتها في القراءة ـ ولكن حركات وأصوات الناس في الطائرة منعتها من ذلك فقد تحولت الطائرة من واسطة نقل جوي إلى شيء آخر، شيء لا يشبه الفرح ولا الحزن ولا المسرح ولا يشبه أي شيء عرفته تلك الألمانية من قبل..فقد كانت الأصوات تتعالى أكثر فأكثر ولأنها لا تعرف اللغة لم تكن تعرف فيما اذا كانوا يتشاجرون أم يتسامرون! كانت نظرات النساء المتشحات بالسواد مليئة بشيء لم تستطع تحديده وفيما اذا كان نوعاً من الغيرة أو التعالي..! رأت الأطفال يتراكضن ويصرخن في الممر الوسطي في الطائرة ـ قبل الإقلاع وبعد أن انطفأ الضوء الذي يشير إلى ضرورة ربط الأحزمة ـ وأما أصوات وبكاء الرضع فكانت تملأ الطائرة...كانت الفتاة تواسي نفسها بأن الرحلة ستنتهي بعد حوالي الساعات الأربع وبعدها سترى الشرق على أرض الواقع....أما صديقها التركي الجالس بقربها فكان يوزع ابتسامات هنا وهناك وبين الفينة والأخرى يلتفت إليها ويعطيها ابتسامة يتبعها همس عن فرح الناس وحيويتهم وعن فرحه برؤية الأطفال غامزاً بعينه وكأنه يقول لها والعقبى لنا عندما سنصطحب أطفالنا من برلين إلى تركيا...!
بعد الوصول وخروجهما من المطار لم تكن تعرف لماذا ارتفع صوت صديقها أكثر من مرة حين كان يقترب من سائق تكسي يفتح بابه الأمامي يحدثه ثم يتصايحان ثم يغلقه وينتقل لسائق آخر...! ومع أن الشكوك ساورتها في أن يكون ذلك نوع من المفاصلة أو المجادلة التي تسمع عنها بل ورأتها بصورتها الكوميدية مرة في فيلم "حياة برايان" (للمونتي بايتون) لكنها أقلعت عن ذلك إذ أن سيارات الاكسي لا بد وانها مزودة بعدادات...! بعد عدة محاولات نزل سائق تاكسي وساعدهم في حمل الأمتعة إلى السيارة وسار بهم إلى ساحة تنطلق منها الحافلات وهناك استقلوا واحدة أمضوا فيها عدة ساعات قبل أن يصلوا إلى مدينة أخرى ومن ثم استقلوا سيارة أخرى حملتهم إلى مسقط رأس صديقها في القرية التي طالما سمعت عنها منه...عند وصولهم اختلطت أصوات أهل القرية وهناك من أطلق عيارات نارية وتصاعدت زغاريد النساء...وركض رجل مسن باتجاه صديقها عانقه وصرخ آمراً من حواليهم بشيء لم تفهمه الألمانية...ومنعهم من التقدم في مشيهم وبعد دقائق بدأت مأساتها حين عرفت لماذا كان الرجل يعيق تقدمهم في المشي فقد أحضروا له ديكا وسكيناً أمسك الرجل بجناحي الديك ورأسه وبدأ يحز السكين تحت رقبته...فأدارت بوجهها عن المشهد...وتراكض الأطفال من حول الضيفة ومنهم من أراد أن يسليها أويلاطفها بمد لسانه وتحريك رأسه وأصواتهم ترتفع بكلمة ما لبثت أن تحولت تلك الكلمة بسرعة الى ما يشبه المطرقة لكثرة سماعها فقد كانت موضوع صراخ الأطفال "آنّي"، "آنّي"، "آنّي" (أي: أمي)...! وتقدمت امرأة طاعنة في السن تكلمت بصوتها وبجسدها حيث كانت ترفع يديها وكأنها تحمل شيئا ومن ثم تلقي بهما أسفلا وتمدهما وكأنها تفرش شيئاً على الأرض أو تلقي الحمولة...وتتكلم وتتكلم..فسألت الألمانية صديقها أن يترجم لها عما تتحدث به تلك العجوز فأجاب بأنها تقول للبقية ألم أقل لكم أنه سيعود غانماً والفضل يعود لأنني صببت الماء خلفه عندما سافر...!؟ لم تتوقف كثيراً عند هذا الجواب وانما قالت لصديقها: "أريد أن أستخدم الحمّام..."! فنظر صديقها إلى الجميع وكلمهم بلغته شيئا استخلصت منه أنه يستأذنهم في الدخول إلى البيت...! عند العشاء تنوعت الأطباق فهذا صحن مقالي كبير يجمع البطاطا والفليفلة والكوسا والباذنجان وهذا صحن الكبة وهذا طبق البرغل وهذا صحن اللحوم وهذه صحون السلطات والمقبلات والحلويات موضوعة دفعة واحدة على المائدة...فبدأت تفكر في نفسها بما تراه من فروق بين ما تعلمته وتعرفه وبين ما تراه حيث أن الأطباق لا تُقدّم هنا على هذه المائدة على دفعات ثلاث فالمقبلات أولا ومن ثم الطبق الرئيس وبعدها الحلويات..! ولا يوجد زخرفة أو تفنن في تقديم الأطباق، وكأن المائدة هنا تقول أنني لحشو البطن وليس لإمتاع العين...، وشد انتباهها أكثر الأطباق نفسها إذ كانت مليئة بالزيوت...والأمر الثالث الذي لفت نظرها كان يتعلق بالبشر إذ أن جموعا من الناس واقفين وجالسين ومترقبين ينظرون إليها وبتمعن أكثر حين بدأت تأكل....لم تكن مرتاحة لهذا الفضول ولكنها لم تتفوه بحرف لصديقها...توقفت عن الأكل ولكن لم يبق شخصا إلا وقال شيئا لم تفهمه لولا لغة الاشارات وحركات اليدين التي تشير إلى الفم والى الأكل...نظرت لصديقها وقالت لا أستطيع فقد شبعت..! لكن أحد الحضور قال لصديقها شيئاً ترجمه لها بـ"ان الأكل على قدر المحبة"...! لم تستطع أن تفهم كيف من الممكن أن يعتقدوا أنها أحبتهم على الفور...ومع ذلك قالت: "اوكي" ثم مدت يدها وتناولت قطعة كوسا مقلية وضعتها في فمها وأكلتها وهدأت صامتتة...ومن جديد تعالت الأصوات والاشارات من الحضور لصديقهان ومن جديد بدأ يترجم لها بأن كل واحد فيهم يقول أنها يجب أن تأكل أكثر من أجل محبتهم من جهة ولأجل خاطر كل شخص من الحضور من جهة أخرى...لم تعرف حينها ماذا عليها أن تتصرف حيث بدت وكأن صبرها أصبح على وشك النفاذ، هل تصرخ في وجوههم: "لا أخجل ولا أستطيع أن أتناول أكثر من طاقتي" أم أن تجاملهم وتأكل أكثر من حاجتها كي لا تجرحهم...!ظ قالت لصديقها: "انقذني فأنا لا أستطيع الأكل أكثر ولم أحضر إلى هنا بالحصر لأملأ بطني...!" تكلم صديقها ببعض الكلمات مع الحضور ومن ثم قال لها: "الأمر انتهى وشرحت لهم". أخذت علامات التعب تبدو عليها فالرحلة كانت طويلة ولم تخلد إلى الراحة لساعات طوال...ولكن أحداً لم يلتفت إلى ذلك، بل على العكس كان أهل القرية في رغبة لرؤيتها والحديث معها وواحداً منهم أراد أن يحكي لها ـ ولدهشتها وحيرتها ونفورها ـ أنه يحب "هتلر"...! نال التعب كثيراً منها فسألت عن المكان الذي ستنام به وتركت الجميع واستلقت على الفراش ونامت تلك الليلة بعمق بعد عناء لم تعرفه من قبل على الاطلاق...
في اليوم التالي استيقظت على أصوات وضجيج خارج الغرفة التي نامت بها...ولسوء حظها فتحت الباب لتستطلع الأمر...فشرعوا بشدها خارج الغرفة ثم تسابقوا في تقديم الحليب والشاي والقهوة وأتبعوا ذلك بالأكل مباشرة الزيتون والبيض المقلي ومثل المساء الذي انقضى جاءت جموع أهل القرية ترقب كل شيء بها ومنها وفيها...وهنا أيضا لم تكن مرتاحة لذلك....شعرت بالحاجة للدوش والاغتسال قبل أن تكون مع البشر ولكنها لم تتكلم عن حاجتها...! وأما الحديث عن الأكل والمحبة من قبل أهل القرية فتكرر في الصباح عند الفطور وعلى الغداء وعلى العشاء...وبعد انقضاء يوم شعرت بثقله أكثر مما تستطيع تحمله نامت تلك الليلة بعد أن كانت أشد وضوحا و"قساوة" في اصرارها أنها لا تستطيع الصبر أكثر على النعاس الذي داهمها...في الصباح الباكر كان هناك طرقا قويا وسريعا على الباب نهضت على أثره مذعورة وفتحت الباب لترى أن والدة صديقها تقول بصوت عال شيئا لم تفهمه...! فصرخت لصديقها "ميخمت" فجاء محمد وترجم أن عزائم تنتظرهم على الفطور عند عائلة من اقربهم وعلى الغداء عند عائلة أخرى وعلى العشاء عند عائلة ثالثة...فقالت: "يا ربي أريد بعض الراحة والخصوصية...!" ومع ذلك جاملت بذهابها إلى العوائل الثلاث ولاحظت أن نوعية أكل الفطور تتكرر وكذلك الغداء والعشاء وأن الأشخاص الذين دعونها هم نفسهم من كانوا طيلة الوقت حضور ونجوم كل شيء منذ وطأت قدمها القرية...! وتكررت الأحاديث عن أن الأكل يأتي على قدر المحبة...! وفي اليوم التالي كان هناك تكرار لنفس الأكلات على الوجبات الثلاث وبوجود نفس الأشخاص ولكن ببيوت مختلفة...وكان ذلك يتكرر طيلة الاسبوع. كانت تلك الفتاة تفكر في سرها أنهم بسطاء ولا تريد أن تجرحهم وهم يظهرون أعظم ما لديهم من أجل الضيافة والكرم...ثم تغضب قليلاً وتقول لنفسها "ولكن حياتي تختلف عما يفرضونه، فأنا أريد أن أتحرك، أن أتنقل، أن أرى الأشياء بنفسي، أن أمشي خارج قوقعة حديث أن الأكل على قدر المحبة...و لم اكن أتوقع أن يمر أسبوع دون أن أقرأ فيه...ولم أكن مرة في حياتي فاقدة الخصوصية والراحة مثل هذا الأسبوع..."! وبعد التفكير بمخرج من ورطتها قررت أن تزعم أنها مريضة وتعلم عائلة صديقها بأنها لا تستيطع أن تخرج أو تقبل العزائم أو رؤية الناس نظراً لوضعها الصحي فهي بحاجة للبقاء في سريرها...وفعلت ذلك حقاً...ولكن ولغرابتها فقد فتح الباب عليها مجموعة من النسوة وبدأن يتكلمن ويتفوهن بالكثير وهي تفغر فمها مذعورة لا تعرف ماذا حدث...فصرخت: "ميخمت...ميخمت" جاء صديقها مسرعاً وسألته: "ماذا يريدون مني؟" فأجاب: "أنت مريضة، ووفقاً لعاداتنا وتقاليدنا يجب أن لا تبقين لوحدك بل سيبقون بجانبك ويهتمون بك ويقدمون لك ما تريدين...لأنك مريضة... وهكذا عاداتنا في الشرق...ألم أقل لك بأننا مختلفون عنكم فقد أصبحتم عبيداً للكومبيوترات وتفتقدون للروحانيات..!؟"
*الفكرة مأخوذة من رواية ألماينة



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن