الضحك والحرية لميخائيل باختين

سعدي عبد اللطيف
saadiabdullatif@gmail.com

2014 / 6 / 30

الضحك والحرية لميخائيل باختين

اعداد وترجمة : سعدي عبد اللطيف
يتخصب بالموتى جسدا الشعب والبشرية
يتجددون حتى الأزل
ويتقدمون اماما الى الأبد
بمحاذاة طريق التقدم عبر التاريخ

(باختين - رابلييه وعالمه)

في القرون الوسطى، كان الضحك موضوعا جديا يوجه نحو الشيء ذاته. لا يستثني احدا من الطبقة العليا، بل يستهدفها، دائما، شاملا بذلك الطبقة كلها. والى هذا، لايطال الضحك جزءا من هذه الطبقة فقط، بل يطال مجموعها. ويمكن القول، ان الضحك يشيد عالمه المضاد للعالم الرسمي، وكنيسته المضادة للكنيسة الرسمية، ودولته المضادة للدولة القائمة. فالضحك يحتفي بجماهيره، ويعلن عن ولائه لها، ويحتفل بمناسبات زواجها، ويقيم قداساته على ارواح موتاها، ويحفر نقوشه على اضرحتها، ويختار ملوكها واساقفتها. وحتى اصغر باروديا ( محاكاة ساخرة) قروسطية، يجري تركيبها كجزء من عالم كوميدي برمته.

هذه الطبيعة الشمولية للضحك، تبدو واضحة، ومتساوقة مع طقوس الكرنفال ومشاهده، ومع "الباروديا" التي يقومون بعرضها. كما تظهر الشمولية ذاتها، في جميع اشكال ثقافة الفكاهة القروسطية: في العناصر الكوميدية للدراما الكنسية، وحكايات الجن الهزلىية، والمناظرات، وفي ملاحم الحيوان (1). وتبقى مزايا الضحك عند الطبقة الدنيا متماثلة مع هذه الانواع الادبية جميعها.

ان ثقافة الفكاهة القروسطية، التي رافقت الاعياد الدينية هي دراما "ساتيرية"** اي دراما رابعة تلي "الثلاثية التراجيدية"، وتتعارض معها في ذات الوقت. ان ثقافة الفكاهة القروسطبة كانت، مثل الدراما "الساتيرية" الموغلة في القدم، تعبر عن دراما الحياة الجسدية (الجماع، الولادة، النمو، الاكل، الشرب، التغوط). وهذه الثقافة لم تكن تعبر بالطبع، عن دراما جسد فردي، او طريقة مادية خاصة للحياة، بل عن دراما الجسد العظيم ممثلا في الشعب. وبالنسبة لهذا الجسد العضوي فان الولادة والموت ليسا بداية ونهاية مطلقتين، بل مجرد عنصرين للنمو والتجدد في تواصلهما. ولا يمكن فصل الجسد العظيم للدراما الساتيرية عن العالم، فما يكسو هذا الجسد هو العناصر الكونية، وكذلك الارض التي تتصف بقدرتها على الابتلاع ووهب الحياة .

وبالاضافة الى شمولية الضحك القروسطي، يجب التأكيد على خاصية مدهشة اخرى: علاقته الجوهرية والسرمدية مع الحرية. فرغم ان السلطات لم تمنح هذا الضحك بركتها الرسمية، على الاطلاق، الا انه لم يكن ممنوعا قانونيا، ولم يجر اي انتهاك لحقوق قبعة المغفل في هذه الفترة، واستمرت صيانة هذه الحقوق حالها حال قلنسوة المهرج في عيد ساتورن ( اله الزراعة الذي عرف عصره بـ "العصر الذهبي" في روما القديمة).
حرية الضحك هذه ، كانت ، بالطبع ، نسبية: يتسع مجالها حينا، ويضيق حينا اخر. ولم يجرؤ أحد على تحريمها كليا،بتاتا . لقد ارتبط الضحك الحر بالاعياد الدينية، وحدد ، الئ حد ما، بالزمن المخصص لأيام الأعياد، وتوافق مع اجازة تناول اللحم والدهون والجماع الجنسي. هذا الأنعتاق الاحتفالي للضحك والجسد ، على تناقض حاد مع القيود الصارمة التي تسبق فترة الصوم الديني أو تليه.

وحين يبتدئ العيد، كانت تعطل، الى حين، كل محرمات النظام الرسمي وحواجز التراتب الكهنوتي، وتنبثق الحياة، لفترة وجيزة، من الجحور المفروضة، المقننة، والمرسومة الحدود، حيث كانت هاجعة، لتبدأ خطواتها في فضاء الحرية الطوباوية. ان قصر عمر الحرية ذاته، يزيد من طبيعتها الفنطازية، وراديكاليتها اللامعقولة، المولودتين في خضم الجو الأحتفالي للصور الحية.

ويهيمن في الساحة العامة، والمأدبة العائلية الحميمة التي تقام في البيت، جو الحرية الايل للزوال سريعا. وفي عهد النهضة تم احياء التقليد القديم في تجاذب اطراف الحديث عبر المائدة بشكل حر، ومن دون مناسبة على الاغلب، وبطريقة فلسفية في الوقت نفسه. وغدا شكله مقاربا للتقليد المحلي في تناول وجبات الطعام الاحتفالية والتي تمتد جذوره في الفولكلور( 2 ) وتواصل هذا التقليد في القرون اللاحقة.

ونجد تقاليد مشابهة لأغاني العشاء الباخوسية* التي تربط مابين مشاكل الكون (الحياة والموت) والعناصر الجسدية المادية (الخمر، الطعام، الحب الكرنفالي ) مع الوعي بعناصر الزمن (الشباب، الشيخوخة، الطبيعة الزائلة للحياة، وتعثر الاقدار) وتعبر هذه جميعها عن مزاج طوباوي خاص، وعن التاخي بين شاربي الخمور، وبالتالي بين جميع البشر، وعن البهجة عند الرخاء وعن انتصار العقل.

وتتمتع بقدر من الشرعية الطقوس الكوميدية لعيد المهرجين، وعيد البله، والمراسيم والمواكب الهزلية المتنوعة للاعياد الاخرى. لقد اعطى السحر رخصة السماح، ومنح الشياطين حرية التجوال في الطرقات والضواحي لعدة ايام قبل تقديم العروض من اجل خلق جو شيطاني طليق العنان. وتجري اباحة اقامة طقوس الكرنفال، وكذلك التسليات، في ساحة السوق. وادت هذه الشرعية الناقصة، التي تم الحصول عليها عنوة الى صراعات ومحرمات جديدة. وعلى امتداد العصور الوسطى، اجبرت الكنيسة والدولة ، وتحت تهديدات عامة الناس باللجوء الى شتى انواع العنف ،على تقديم تنازلات، صغيرة او كبيرة، لارضاء رواد ساحة السوق. وفي خلال السنة ، توجد فترات قصيرة ومتفرقة، تحددها بدقة تواريخ الاحتفالات، يسمح فيها للعالم بحرية البزوغ من عتمة الروتين الرسمي، وتحت تمويه الضحك، على وجه الحصر، فترفع الحواجز شريطة الا يحدث اي شئ غير الضحك.

اما الميزة الثالثة المهمة للضحك – اضاقة الى الكونية والحرية – فتتمثل في علاقته مع الحقيقة الشعبية اللارسمية.

وتمتاز الجوانب الجادة في ثقافة الطبقة بكونها رسمية وتسلطية، مرفقة بالعنف والمحرمات والقيود، وتحتوي دائما على عنصري الخوف والتهديد. وقد سادت هذه العناصر في القرون الوسطى. اما الضحك، فهو بعكس ذلك، يدمر الخوف لانه لايعرف الكوابح والقيود، ولا يخطر على باله اطلاقا استخدام العنف أو التسلط.

وما كان يؤثر، الى حد بعيد جدا، في انسان القرون الوسطى، هو عامل انتصار الضحك على الخوف، فهو ليس مجرد انتصار على الارهاب الغامض للاله، او على الرعب الذي تثيره قوى الطبيعة بل، والاهم من ذلك، الانتصار على الاحساس بالاضطهاد والشعور بالذنب ازاء كل ماهو سام ومحرم (قوى الطبيعة المتجسدة او التابو). انه اندحار لسلطان الانسان، و ماهو مقدس، وللوصايا التسلطية والمحرمات، وللموت ولعقاب مابعد الموت، وللجحيم، ولأي شيء يثير الرهبة اكثر من الارض ذاتها. ويجعل هذا الانتصار، عبر الضحك، وعي الانسان اكثر نقاء، ويمنحه استشرافا جديدا للحياة. هذه الحقيقة تأخذ بالتلاشي سريعا، لتعقبها المخاوف ومنغصات الحياة اليومية، لكن، من هذه اللحظات القصار، تطلع حقيقة لارسمية، حقيقة تدور حول العالم والانسان. وهكذا تم التمهيد لظهور الوعي الجديد لعصر النهضة .

ويمثل الوعي الحاد بالانتصار على الخوف عنصرا اساسيا في ضحك القرون الوسطى. وعبرت ، عن هذا الاحساس صور كوميدية عديدة ومتميزة في العصور الوسطى. ونشاهد، بشكل هزلي ،الى حد السخف أحيانا، اندحار الخوف دوما، وقلب رموز السلطان والعنف ظهرا على بطن. ويجري، وبمرح صاخب على نحو غريب، تمزيق صور الموت اربا اربا ممثلا بأشكال مضحكة وشديدة البشاعة . ويتخذ، كل ماهو مرعب، شكلا غروتسكيا * مثيرا للضحك . وتتمثل احدى الضروريات الملازمة للكرنفال في اعداد الديكور لـ "الجحيم". ويجري ، في ذروة الاحتفالات، وبجلال، اشعال النار في هذا "الجحيم". ولايمكن فهم هذه الصورة المضحكة الغريبة الا باعتبارها اقرارا باندحار الخوف. فالناس يلاعبون الرعب، ويضحكون عليه، بحيث يتحول كل ماهو مروع الى "مسخ كوميدي".

هذه الصورة الغروتسكية، عصية على الفهم، اذا ماحاولنا تبسيطها الى حد مفرط، وتفسيرها بكونها تمثل روح العقلانية المجردة. ويستحيل تقرير الحد الفاصل الذي يشير الى نهاية الخوف المندحر وبداية بهجة التجدد. ويتجسد الجحيم الارضي، في الكرنفال ،في عمليتي الابتلاع ووهب الحياة. لذلك غالبا ما يحول الجحيم الى شئ ما يشبه قرن الوفرة أو الخصب ** ويغدو الموت –المسخ حبلى. ودلائل الحمل او القوة التناسلية، يجري التعبير عنها، من خلال تشوهات مختلفة، مثل البطون البارزة، والانوف الهائلة الحجم او الحدبات. ولا يتم الانتصار على الخوف بالتخلص المجرد منه، بل بخلع الخوف عن العرش وتجديد بيعته في الوقت ذاته، وهو ايضا تعبير عن تحول جذلان.

دحر الضحك، في العصور الوسطى ، شيئا هو اكثر اثارة للرعب من الارض ذاتها، ولذلك تحول كل الاشياء اللاارضية الى اشياء مماثلة لما على الارض، هذه الام التي تبتلع الموجودات لتمنح الحياة الى اشياء اكبر وأفضل. ولا يوجد ماهو مرعب على الارض، تماما ،كما لايوجد ماهو مخيف في جسد الأم، بحلمتيها المهيأتين للرضاعة، بعضوها التناسلي، ودمها الدافئ، ان الرحم، قبر الجسد، يمثل عنصر الرعب على الارض، الا انه، في الوقت نفسه، يزدهر بالبهجة والحياة الجديدة .

لا يمثل ،ضحك القرون الوسطى، على أية حال، وعيا ذاتيا، فرديا او بيولوجيا، بالجريان المتواصل للزمن، بل وعيا اجتماعيا لكل الناس. والانسان يكتشف جريان الزمن في احتفالات ساحة السوق، وفي جمهور الكرنفال، حينما يبدأ تماسه بأجساد الاخرين من مختلف الاعمار والطوائف الاجتماعية، حينذاك يعي انه عضو في شعب ينمو ويتجدد باسنمرار. هكذا، يصبح الضح ك الشعبي الاحتفالي عنصرا من عناصر الانتصار، لا على الرعب الفوق طبيعي، او على المقدس، او على الموت فحسب، بل يعني اندحارا لسلطة الملوك الدنيوية والطبقات العليا الارضية. ولكل مايضطهد ويقيد .( 3 )

وعندما انتصر ضحك القرون الوسطى على الخوف الذي أوحى به غموض العالم والسلطة مما أتاح له رفع النقاب، وبجرأة، عن الحقيقة الكامنة في كليهما. فالحقيقة تقاوم المديح، والتملق والنفاق. هذه الحقيقة الضاحكة والتي تعبر عنها صب اللعنات والكلمات البذيئة تحط من قدر السلطة. وكان مهرج العصور الوسطى أيضا، المبشر بهذه الحقيقة.

ويصف فيلوفسكي في مقالته المكرسة لرابلييه المعنى الاجتماعي للمهرج قائلا:
يتخذ المهرج، في العصور الوسطى، مظهر الرسول المتمرد على القوانين، لتبليغ الناس الحقيقة الموضوعية المجردة. وفي عصور تواجدت فيها الحياة داخل اطر تقليدية تمثل الطائفة المغلقة واصحاب الامتيازات والعلم السكولائي ( الشديد التمسك بالتعاليم والاساليب التقليدية الخاصة بمذهب او فرقة - المورد) والتراتبية الكهنوتية، جرى تكريس الحقيقة وفق هذه االاطر، لذلك كانت الحقيقة نسبيا اقطاعية، سكولائية ....الخ، وتستمد قوتها من وسطها المحدد.هكذا غدت الحقيقة مجرد نتاج للحقوق والتي بالمستطاع ممارستها عمليا. فالحقيقة الاقطاعية تتجسد، عمليا، في امتلاك حق اضطهاد العبد، واحتقار العمل الذي يؤديه، وجره الى الحرب عنوة وحق الصيد في حقول الفلاحين. وتتمثل الحقيقة السكولائية في حق امتلاك المعرفة المقصورة على فئة بعينها. أما أية حقيقة خارج هذه المعرفة، فما هي الا مجرد هراء . ويجب بالتالي الدفاع عن هذه المعرفة ضد أي شيئ يحاول اثارة الغبار حولها .... ويجب اقصاء جميع الحقائق الانسانية العامة، والتي تمتنع عن التكيف مع مبادئ الطبقة المغلقة والمعتقد الرسمي أي الحقوق المقررة. الحقائق الاخرى لاتؤخذ بالحسبان، وهي محتقرة ويمكن جرها الى الخازوق لأدنى شبهة. ويمكن التسامح معها فقط حين يكون شكلها غير مؤذ. وحتى اذا كانت تثير الضحك شريطة ان لا تدعي اتخاذ دور جاد. هكذا تم تحديد المعنى الاجتماعي للمهرج .(4)

لقد قدم فيسلوفسكي تعريفا صحيحا للحقيقة الاقطاعية، وهو على حق، ايضا¸ حينما اكد ان المهرج هو رسول حقيقة اخرى غير اقطاعية او رسمية، لكن هذه الحقيقة اللارسمية يصعب على تحديدها على انها " مجردة موضوعيا ". كذلك يرى فيسلوفسكي المهرج كشكل منفصل عن كل الثقافة العظيمة لضحك القرون الوسطى. لهذا اعتبر الضحك شكلا خارجيا ذا مهمة دفاعية عن ( الحقيقة الموضوعية المجردة )، مهمة تدافع عن القيم الانسانية عموما، ويبلغها المهرج للناس مستخدما هذا الشكل الخارجي. واذا غاب القمع او الخازوق، فان الحقيقة تنزع عن نفسها ملابس المهرج، وتأخذ بالحديث بنبرات جدية، فقط، عندما يرحل عن المكان الاضطهاد او الخازوق. يبدو لأذهاننا ان مثل هذا التفسير للضحك غير صحيح.

ان الضحك ، بلا شك، وبصورة جزئية، شكل خارجي من الدفاع عن الحقيقة، فقد تمت اجازته قانونيا، وتمتع بامتيازات، وتحرر الى درجة ما، من الرقابة والاضطهاد والخازوق، ولا يجب التقليل من اهمية هذا التطور ، ولكن لايمكن السماح باختزال المعنى الشامل للضحك الى هذه الحدود فقط. فالضحك، بصورة جوهرية، ليس شكلا خارجيا بل شكلا داخليا للحقيقة . ولايمكن تحويله الى مجرد موضوع جدي، دون تدمير وتشويه المضامين ذاتها التي تمتلكها الحقيقة، والتي يعمل الضحك على الكشف عنها. والضحك لايحررنا، اصلا، من الرقيب الخارجي فحسب، بل، وقبل كل شئ، من الرقيب الجبار في الداخل. يحررنا من الخوف الذي تنامى في الانسان عبر الاف السنين، الخوف ازاء ماهو مقدس، ومحرم، وماض وسلطوي، والضحك يكشف عن المبدأ الجسدي المادي في معناه الحقيقي، ويفتح عين الانسان على ماهو جديد، وعلى المستقبل. لهذا ، فالضحك لايبيح التعبير عن الحقيقة الشعبية المعادية للاقطاع فحسب، بل يعمل على الكشف عنها، وعلى منحها شكلا داخليا. هذا الشكل انجز تحقيقه والدفاع عن اعماقه ذاتها في صوره الشعبية الاحتفالية، عبر الاف السنين. ويظهر الضحك العالم جديدا في جوانبه الاكثر مرحا وواقعية. اما امتيازاته الخارجية، فهي لاترتبط بصورة حميمة مع قواه الداخلية فحسب، بل تعترف ايضا بحقوق تلك القوى، ولان الضحك يمتنع تماما عن التحول الى اداة للقهر، او وسيلة للتضليل، فانه يبقى على الدوام، سلاحا حرا في يد الناس.

انتهى

هوامش:

* فصل من كتاب “رابييله” لميخائيل باختين. في الاصل لم يستطع باختين مناقشت اطروحة الكانديدات ( الدكتوراه ) امام اكاديمية العلوم السوفيتية لاندلاع الحرب العالمية الثانية. في اوائل الخمسينات انشقت اللجنة المناقشة الى فريقين ، احدهما اعتبر الاطروحة جهدا عبقريا، والاخر اعتبرها مؤلفا كتبه مجنون. و قد قررت اللجنة في الاخير منحه شهادة الكانديدت الثانية. اوصل بعض طلبته ومريديه خبرا الى السلطات السوفيتية بارسال الاطروحة الى ايطاليا لنشرها مالم تبادر السلطات الى نشرها في الاتحاد السوفيتي مما ادى فعلا الى نشرها في الداخل. ويعد صدور كتاب شعرية دستوسفسكي عام 1929 كتب لونشارسكي، قوميسار الثقافة المعروف مقالا مطولا ممتدحا بسخاء الكتاب. و قد اعتقل باختين بعدها بتهمة ملفقة مفادها انتماؤه لتنظيم مسيحي سري وحكم عليه بالاعدام. وشاءت الصدف ان زوجته كانت صديقة حميمة لزوجة لونشارسكي الذي تدخل وبالتالي نفي باختين الى احد التعاونيات الزراعية لتعليم الفلاحين القراءة والكتابة، وصدر امر بمنعه من دخول موسكو نهائيا. وشاء ت الصدف، مرة اخرى، ان تحضر ابنة اندروبوف، مسؤول ال كي، جي ، بي محاضرة لباختين في احد المعاهد في ضواحي موسكو. وتدخلت لصالح باختين وسمح له بالتالي قضاء بقية حياته في دار لكبار السن. اصدرت السلطات كتابا يضم بعضا من مقالات باختين، ومنح على اثر ذلك وسام لينين للادب ورفض تماما استلام الوسام دون ابداء سبب للرفض. لكن للمتابع النبه يبدو سبب الرفض واضحا وضوح الشمس في عز النهار. وعندما شارف على الموت (1895-1975) جاءه قسيس للصلاة عليه الا ان اشارة منه دفعت القس الى الهروب من الغرفة ثم قال جملته الشهيرة الاخبرة "ها انذا أجيء اليك" والتي حار النقاد في تفسيرها الى حد الان. وبعد صدور ترجمات لكتابي باختين "شعرية دستويفسكي" و"رابالييه وعالمه"، انبثقت مراكز علمية مختصة بباختين وحلقته. وقد كانت تورنتو في كندا هي اول من افتتح مركزا لتتبعها نيوورك، البرازيل، بريطانيا، موسكو ......ألخ . " المترجم "

1) صحيح ، هذه التمظهرات تعبر احيانا، حاليا، عن القيود المحددة للثقاف البرجوازية المبكرة،....يصيح المبدأ الجسدي المادي ،في تلك الحالات، تافها ويعتريه الانحطاط الى حد معين.

** "الساتير" مأخوذة من "الساطي" وهو اله من الهة الغابات عند الاغريق، يتميز بولعه الشديد بالقصف العربيد، وبانغماسه في الملذات.

2) حتى النصف الثاني من القرن السادس عشر، ساد ادب الحديث الحر (الذي يتناول غالبا مواضيع جسدية مادية).....عن احاديث المائدة هي: (الاستجمام والنزهة: أحاديث ساذجة وظريفة) نويل دوفيل 1547، (حكايات وأحاديث....انترابيل 1585، (حوارات) جاك تاهيورو 1562، (أحاديث الصباح) نيكولاس شاولرس 1585، (احاديث مابعد....) غوليوم بوشر..الخ. وتمثل هذه الاعمال نمط الحوار الكرنفالي وتعكس تأثير رابلييه سواءا قليلا او كثير.

3) وقد عبر هرزن عن افكار عميقة فيما يتعلق بوظائف الضحك في تاريخ الثقافة (رغم عدم اطلاعه على الضحك في القرون الوسطى)، اذ يقول : يتضمن الضحك شيئا ما ثوريا الى حد بعيد. فضحك "فولتير" كان اكثر تدميرا من بكائيات "روسو"، وفي مكان اخر يقول: الضحك موضوع جدي، ولن نفرط بحقنا فيه. ففي العالم القديم، كان الجمهور يضج بالضحك الموجه على اوليمبوس (الجبل الذي يسكن فيه كبير الهة الاغريق)، وعلى كل ماهو ارضي، حينما كانوا يشاهدون مسرحيات اليوناني (أريستوفان) الكوميدية. وواصل الجمهور ضحكه حتى عصر الناثر الاغريقي المعروف (لوسيان) ومنذ القرن الرابع فصاعدا، توقفت الانسانية عن ممارسة الضحك واستبدلته بشئ اخر هو النحيب. نتيجة لذلك، طوقت الاذهان قيود ثقيلة عبر النحيب وغصات الندم. فحينما خمدت حمى التعصب، بدأ الناس من جديد يضحكون ثانية. مهم للغاية كتابة تاريخ الضحك. ففي الكنيسة، والقصر، والاستعراض العسكري، وأمام رئيس القسم، او ضابط الشرطة، او رجل الادارة الالماني، لا أحد يجرؤ على الضحك. وقد حرم الاقنان من حق الابتسام في حضرة مالك الارض. ومن يمارس الضحك هم المتساوون فقط. اما اذا تجرأ الادنى على الضحك امام الاعلى، واذا خاب الاعلى في قمع المرح الصاخب للادنى، فذلك يعني نهاية الاحترام. ان يبتسم الانسان في حضرة الاله(ابيس – العجل المقدس عند قدماء المصريين ) يعني حرمان هذا الاله من رتبته المقدسة، واستحالته الى ثور عادي ( هرزن، حول الفن – موسكو 1954 ).

*** اله الخمر.
****الغروتسك: شيء غريب على نحو بشع أو مضحك – المورد.
***** تصور الميثولوجيا قرن الوفرة او الخصب على شكل قرن ماعز مليئ بالازهار والثمار والقمح.
4) فيلوفسكي – المقالات المجموعة ( لينينغراد، 1939).


* سعدي عبد اللطيف: كاتب وناقد واعلامي عراقي مقيم في المملكة المتحدة واستاذ سابق للادب الانكليزي في العراق والجزائر. ترجم ونشر عشرات النصوص الفلسفية والشعرية والوثائق السياسية الى جانب ما له من دراسات ومحاولات في النقد الادبي المعاصر والفن.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن