تاجرُ موغادور: متابعة الفصل الأول

دلور ميقري

2014 / 4 / 11

4
" عامُ المَحْل "؛ هوَ العامُ المقدورُ، المُتواشجُ مع مَجيئهِ لهذا العالم.
كانت عيناه كبيرتين، عميقتيّ السّواد، كأنهما مرآة مزدوجة للون الحِداد، الذي شملَ الشامَ في تلك السنة، السقيمة. وبهاتين العينين، استطاع المولودُ الجديدُ الاحتفاظ بانطباعٍ راسخٍ عن المرأة الرقيقة، التي فتحتْ له النفقَ للخروج إلى الحياة. يومئذٍ، كان مشامُ الموت المقيت، المشئوم، يحلّق في أجواء الحيّ الكرديّ جميعاً، بل أبعدَ وعالياً حتى قمم جبل القيامة. عينا الأب، بدَورهما، تطلعتا في أملٍ ضعيف نحوَ القمم تلك، المهيمنة على المدينة المنكوبة: طالما أنّ العزمَ لم يُفلّ بعدُ، فكّر الرجلُ، فإنه سيمضي مع عائلته إلى الجبل الأول؛ إلى امارة " بوطان "، التي كان والدُهُ، الشيخُ النقشبنديّ، قد غادرها قبل عقودٍ من الأعوام، عديدة.
حسبما يقتضي التقليدُ، كان الحجاجُ الكرد يمرّون أولاً بالشام الشريف في طريقهم إلى أرض النبوّة، الطاهرة. بيْدَ أنّ بعضَ هؤلاء، وقد مَسَّهم سِحْرُ " دمشق "، كانوا يستقرون فيها نهائياً إثر عودتهم من الحج. وهذا ما كان قد فعلَهُ " البوطيّ "، الأول. ثمّة، في سفح جبل القيامة، مُجاوراً لمقامات الصالحين الأيوبيين، استقرَ الرجلُ المهاجرُ. حصلَ على عون مريدي الطريقة، عندما بدأ ببناء منزله في حارة الصالحين تلك. ولكنّ دروسَ الحديث والتفسير، التي كان قد دأبَ على اعطائها لطلبة العلم في " مدرسة ركن الدين "، لم تعُد تكفي أوده. إذ سرعان ما شاركته العيشَ زوجة جديدة، كان قد سبق وتعرّف على والدها، الدمشقيّ المنبت. أما امرأته الأولى، التي تركها في " بوطان " وكانت تحملُ في بطنها جنيناً، فلن يقدّر له أن يجتمع معها ثانيةً. وإذاً، رحبَ الرجلُ باقتراح حميه، أن يعمل معه في صنعة الأثاث. ثمّ ما لبثَ أن صارَ بنفسِهِ معلّمَ كار، تسعى إلى محلّه خاصة البلد؛ هوَ من كان العوامُ يقصدونه في الزاوية، بصفتِهِ شيخَ طريقة. هذه الحرفة، شاءَ أن يخلّفها فيما بعد لولده الوحيد. وهوَ ذا الابنُ، وقد أضحى بدَوره معلّماً وأباً، يرزحُ الآن تحت وطء فكرة الرحيل، بعدما صكّ الوباءُ كيان أسرته وبدّدَ دِعَة عيشها.
اجتاحَ جياعُ الريف " دمشقَ "، تماماً كما كان الجرادُ قد فعلَ بحقولهم في الموسم السابق. إذ عَلِمَ الفلاحون، عامئذٍ، بأنّ أسراباً هائلة من تلك الحشرات الطائرة، الفتّاكة، هيَ في طريقها من فلسطين إلى برّ الشام. مُبلبَلين، مُنوِّحين، هُرِعَ هؤلاء رجالاً ونسوة إلى المساكب الزاهية الخضرة، وقد حملوا القدورَ المعدنية، ليبدؤوا في الضرب عليها بمدقات الهاون، النحاسية، مثلما يعزف الطبّال في الأعراس. آنذاك، تمّ انقاذ معظم غلال الموسم بفضل الانذار المُسبق. ثمّ تلى ذلكَ " عامُ المحل ". إنّ المَجاعة، المَشفوعة بانتشار وباء الريح الأصفر، قد جعلتْ معظمَ برّ الشام خلواً من ساكنيه. على الطرقات المؤدية إلى المدينة، وداخل دروب حواريها، كانت جثث الكثير من أولئك البائسين مُتناثرة؛ مُهْمَلة، لا يعبأ بها سوى الضباع الضارية، المتسللة ليلاً من شعاب الجبل. في رحلة فرارهم من الأرض المُجْدبة، كان من تبقى على قيد الحياة يأكلون أيَ شيء يصادفونه في طريقهم؛ إن كان حيواناً أو نباتاً.
أعيان الشام، من ناحيتهم، استنجدوا بالوالي كي يحميهم من عاصفة الجراد البشريّ، الذي دفعه الاملاق إلى اجتياح الأسواق والخانات. عند ذلك، تحرّكت السلطات لأول مرة مذ بدء المجاعة. إلا أنّ عملية تجميع الريفيين الجائعين في فنادق، لمدّهم ببعض أسباب المَعايش، أدّت إلى تفاقم الوضع الصحّي في آخر المطاف: فتكدّس أولئك الناس ثمّة، وفيهم العديد من المرضى، أفضى بالضرورة لانتقال الوباء إلى داخل المدينة. وبينما ازدهر سوقُ العطارة، نتيجة انجذاب الأهالي إلى أعشابه وعقاقيره، فإنّ الأطباء النادرين، الذين استعانت بهم السلطات، بدوا أقلّ حيلة. في محاولةٍ لدرء انتشار الهيضة، الوبائية، أبدى بعضُ قناصل الدول الأوروبية استعدادهم لتقديم العون. إلا أنّ أمراً كهذا، خَطِراً، كان بحاجة ولا غرو لموافقة الباب العالي. مع مضيّ الأيام، بطيئة ومريرة، كان والي الشام عاجزاً، ملولاً، ينتظرُ فرمانَ مولاه السلطان. في المقابل، كان الوباءُ الداهمُ، غير المُكترث بأيّ مقام، يتابع حصدَ أرواح الخلقِ بلا هوادة.
" كيفَ ستقوى المرأة المسكينة على السفر؛ وهيَ في هذه الحالة، العليلة؟ "
طرَحَ الرجلُ هذه المساءلة على نفسه. عند ذلك، رفعتْ امرأة النفاس عينيها نحوَ قرينها، وكأنما قرأت فكرته، لتتمتم بلسان رخوٍ " سأكون معك دوماً، ما دام هذا الولد بضعة مني ". ثمّ أردفتْ في صوتٍ أكثر وضوحاً وإلحاحاً " خذه من هنا، أنقذه من الهلاك الحَتم! ". في الأثناء، كان الوليدُ يبدو هادئاً، متورّدَ البشرة قياساً للشحوب المتفشي في سحنة أمه ويديها. لونه الرائق نوعاً، كان من المفترض أن يُعدَّ علامة على حُسْن حظ الصبيّ. بيْدَ أنّ والده، في المقابل، لم يرَ في ذلك سوى أملاً خادعاً. إذ سبقَ له، قبل عامين، أن رافقَ جثمانَ ولدِهِ البكر، الرضيع، إلى التربة الكئيبة، المترامية في سفح الجبل. والآن، فما كان يثير حزن الأب أكثر، هوَ أنّ المولودَ الجديد كان ما يفتأ يحدّق في أمه مطوّلاً. فكأنما كان يودّ نقشَ صورتها في ذاكرته، أبداً.
" إنكَ مُدينٌ في نجاتكَ، رضيعاً، لعناية عطّار مغربيّ "
هذه الجملة، تسنّى للفتى سماعها من أبيه في أكثر من مناسبة. ومنه عرفَ أيضاً، سببَ استحقاقه لاسمٍ غريبٍ لا يمتّ للأسماء الاسلامية أو للغة الضاد: " جانكو؛ يعني بالكردية روحُ الجَبل "، قال له الأبّ ذات مرة. ثمّ أعقبَ فيما بصرهُ يجول في فراغ الذكرى " عازماً كنتُ على العودة إلى بلد الأسلاف، حينما أنبئتُ في حُلم، أو رؤيا، بأنّ روحَ المؤمن مُستقرُّها في سفح جبل القيامة "
" وأين هوَ جبل القيامة، أبتاه؟ "، تساءل الفتى. من مكانه في باحة الحَوْش السماوية، المغروسة بأشجار الحمضيات، أشارَ الأبّ إلى ناحية القمم المنيفة قائلاً: " ثمّة، يقعُ جبل القيامة؛ أينَ كهوف الأنبياء والأولياء ". من ناحية أخرى، كان والدُ " جانكو " يحتفظ في داخله بمَشاهد مَهولة من " عام المحل "؛ وخصوصاً اللحظات العصيبة، التي رافقت احتضار امرأته. فهوَ لم يألُ جهداً، في سعيه لإنقاذ الأسرة الصغيرة من غائلة الوباء والجوع. غيرَ أنّ الولادة العَسِرة، كما سيعلمُ وقتذاك، كانت هيَ من قررَ مصير الأم. ففي ليلةٍ خريفيّة، لا يمكنه سلواها قطعاً، كان قد رجعَ على أدراجه إلى المنزل وبرفقته أحد عطّاري السوق. هذا الأخير، أطلّ على المريضة بوَجهٍ مُتجهّم على مألوف عادة مواطنيه، المَغاربة. مرأى امرأة النفاس، الواهنة القوى والمتألّمة، كأنما ضاعفت من عبوس سحنة العطّار. ولكنه شرَعَ حالاً، وبهمّةٍ مأثورة عن أنداده، في تحضير صِفة العلاج. ثمّ أخذ يتمتمُ بنبرته ذات اللكنة البربرية، الواضحة " علينا، أولاً، أن نجتاز عثرة سيلان دم الرحم ". حينما فاه بهذا الكلام، المكشوف، فإنّ رجلَ المنزل رمقه بنظرةٍ غير طيّبة. بيْدَ أنّ الآخر، المُختبر جيّداً خلقَ الشوام، بدا مع ذلك أقلّ مبالاة وهوَ يتابعُ القول: " إنّ عشبة الأكاسيا، وهيَ نوعٌ من الخروب الشوكيّ، تنفع كعلاجٍ في هذه الحالة. وعادةً ما يُؤخذ زهرُها فيجفف ويُصنع منه أقراصاً ـ كما جرّبَ ذلكَ شيخُنا ابن سينا "، قالها فيما كان يدسّ يدَهُ ضمن حافظة عقاقيره، المصنوعة من الجلد. وعلى الرغم من حَرَج الموقف، فإنّ رجلَ المريضة لم يمتنع عن ابداء اعجابه بعلم العطار " أفأنتَ قرأتَ، إذاً، لشيخ الأطباء؟ "
" لا، أنا لا أعرفُ القراءة قط "، أجابَ المغربيّ وقد ارتسمت بضعة ابتسامة على فمه المتورّم. ثمّ أضافَ وهوَ يرفعُ أحد العقاقير إلى مستوى عينيه المائلتين، الشبيهتين بعيون التتر " إلا أنّ المرءَ، كما تُدرك ولا شك، يكتسبُ العِلمَ بالدِرْبَة أيضاً ".
ولكن، لا علم ابن سينا ولا دربة العطّار، مثلما تذكّرَ والدُ " جانكو " بحَسْرة فيما بعد، قدّر لهما انقاذ الأمّ. فقضتْ في ساعة متأخرةٍ، من تلك الليلة، إثرَ تفاقم نزف رحمها. إذ ذاك، كان المغربيّ حاضراً. خاطبَ الرجلَ الحزين، المُترمّلَ للتوّ، مُعزياً اياه: " في جَوْف الليل الأخير، مثلما حدّثنا الرسولُ المصطفى، يكون الربّ أقربَ ما يكون لعبده ". واتبعَ كلمته الغامضة، بأن أشارَ بيَده نحو المولود " منذ الآن، مُعتمدين على رحمة الربّ وقدرته، سنحاولُ ابقاء هذا الصبيّ الرضيع مُتمتعاً بنعمة الحياة ".



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن