الطبقة البورجوازية السورية والثورة الشعبية

غياث نعيسة

2014 / 1 / 6

تقترب الثورة الشعبية السورية من اختتام عامها الثالث، مستمرةً في مواجهتها لآلة القتل والدمار للنظام الدكتاتوري الحاكم، وتواجهها العديد من التحديات والمخاطر. وقد قدمت الجماهير الشعبية خلال هذه الفترة تضحيات هائلة، حيث يضاف الى عدد القتلى الذي تجاوز مائة الف جرحى ومفقودون بمئات الآلاف، و هنالك حوالى نصف سكان سوريا اصبحوا مهجرين داخل البلاد، او لاجئين في البلاد المجاورة.

ومن الجدير بالذكر ان هذه الصورة القاتمة تعني خريطة المناطق الثائرة وبالتالي المدمرة، وهي مناطق حياة وعمل الطبقات الشعبية ومنها الطبقة العاملة. وهذه الخريطة الجغرافية تتطابق الى حد كبير مع طبيعة القوى الاجتماعية المحركة للثورة.

ما يميز الفهم السياسي لأوساط اليسار التقليدي القومي والستاليني، قبل موجة الثورات التي تجتاح المنطقة وخلالها، انه خليط من مقولات تتحدث عن أن الثورة القادمة – الجارية- هي ثورة وطنية ديمقراطية، والبعض الاخر يتحدث عن ثورات على مراحل، بمعنى انه يقر بأن المرحلة الاولى هي ثورة وطنية ديمقراطية، ولكنها «بأفق اشتراكي»، سيأتي ذات يوم بعيد جداً، بما هو استعادة لنقاشات سبق ان دارت في صفوف القوى اليسارية من خلال تجارب ثورات القرن العشرين، وكأنه لم يقتبس منها أي درس كان.

هذان المفهومان، وهما في الحقيقة مفهوم واحد، ستاليني الاصل والمنبع، يقومان على فكرة وجود برجوازية، أو رأسمالية، وطنية، لدينا. ما يتطلب، وفق هذا الطرح الستاليني، التحالف معها من اجل الوصول الى هذه المرحلة الوطنية الديمقراطية المنشودة، لبناء اقتصاد قوي وصناعة وتنمية...الخ. وتتفرع من هذا الطرح الفكري الستاليني الاصل جملة من المدارس العالمثالثية ، التي تدين برجوازية مافيوية وكمبرادورية أو ريعية ...لتمايزها عن برجوازية صناعية وطنية سيكون لها دور تنموي، وبعضٌ منها يرى ضرورة قيادة «الحزب الثوري» لتحالف طبقي (شعبي- برجوازي وطني) لهذه المرحلة الوطنية الديمقراطية. وهذا هو في الواقع تكرار للديماغوجيا التي رأينا بؤس تجاربها، تحت عنوان حركات التحرر الوطني، وما كان يسمى بالديمقراطيات الشعبية، التي انكشفت حقيقتها كدكتاتوريات رأسمالية صرفة، او رأسماليات دولة.

ليس موضوعنا سجالاً فكرياً مع هذه الاطروحات المذكورة، التي نقف على النقيض منها، بتبنينا لمفهوم الثورة الدائمة، ولكون كل الثورات الجماهيرية تحمل في طياتها، في عصر الرأسمالية، التي تهيمن على كل العالم، دينامية الثورة الاجتماعية، أي راهنية الثورة الاشتراكية في عصرنا. بل لنرى من خلال الواقع أين هي اليوم هذه البرجوازية السورية، المفترض، وفق المواقف المذكورة اعلاه، انها معنية بالثورات «الديمقراطية»، وما هو موقفها السياسي والطبقي؟

بورجوازية قوية مالكة وحاكمة

لقد استطاع نظام الاسد الاب والابن، خلال اربعة عقود، اعادة تكوين طبقة برجوازية قوية وواسعة، ولكن ما فعله الدكتاتور الاب خلال ثلاثة عقود في هذا الخصوص تميز بالحذر و بإعادة الروح البطيئة للبرجوازية الكبيرة، من خلال اجراءات مدروسة وبربطها العضوي بالسلطة. واستعمل في هذا الخصوص اداتين هما قانون الاستثمار رقم 10 لعام 1991، من جهة، واقامته لنظام فساد عام، ونهب معمم، تحول من خلاله كبار بيروقراطيي الدولة، وخاصة الطغمة الحاكمة وشركائها، من خلال نهب الثروات، الى برجوازية كبيرة عقارية وتجارية وصناعية. ولكن الاسد الاب حافظ الى حد ما على الدور الاجتماعي للدولة من خلال الحفاظ على نظام للصحة والتعليم المجانيين، ودعم السلع الاساسية لمعيشة الغالبية العظمى من الطبقات الكادحة، كما انه امتص جزءاً من البطالة من خلال ضخها في بيروقراطية دولة واسعة لا وظيفة انتاجية عقلانية لها، ولا سيما في الجيش والاجهزة الامنية وموظفي الإدارة.

هذا الحذر على صعيد الابقاء على شيء من المكتسبات الاجتماعية الذي حافظ عليه الاسد الاب، تخلى عنه بشار الاسد الذي خلف اباه في تموز 2000، حيث قام بتحولات اقتصادية نيوليبرالية عنيفة وسريعة، باستخفافٍ مزرٍ بأي ردود فعل اجتماعية متوقعة، لاعتقاده بأن اجهزة السلطة القمعية قد اجهزت، وخلال عقود من الزمن، على كل محاولة احتجاج عليها. وهو خطأ فادح، لأن الاحتجاجات الاجتماعية لم تتوقف بل تزايدت منذ عام 2006.

وقد اطلق النظام على سياسته النيوليبرالية اللااجتماعية، لصالح البرجوازية الكبيرة السورية، اسم «اقتصاد السوق الاجتماعي». فقد اوصل نظام الطغمة بعد توريث الابن عدداً ممن يعيشون تحت حافة الفقر من 11 الى 33 بالمائة، واذا اضفنا الذين يعيشون بأقل من دولارين في اليوم، يصبح عدد الفقراء في سوريا عام 2009 ،وفق احصائيات الامم المتحدة، نحو نصف السكان.

هذه البرجوازية الصاعدة استحوذت على 70 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي بحسب احصائيات عام 20091، في الوقت الذي كان بينها وبين سلطة الطغمة الحاكمة نوع من العقد غير المكتوب تقول فيه الاخيرة للطبقة البرجوازية الصاعدة: «اغتنوا كما تشاؤون ولكن دعوا السلطة لنا». وهذا ما جرى خلال العقود الاربعة الماضية. حيث ادخلت السلطة رمزياً عدداً من رجال الاعمال إلى مجلس الشعب، الذي لا دور فعلي له. وعززت من قدرات الاتحادات الصناعية والتجارية، بل وشكلت مجالس رجال الاعمال مع 69 دولة عام 2009، بما يسمح للأخيرين بالتعامل والتواصل مباشرة مع الشركات والمؤسسات التجارية والمصرفية والصناعية في هذه البلدان (وهي المجالس نفسها التي تم حلها في حزيران من هذا العام نتيجة الحصار والمقاطعة الاقتصادية المفروضين على سوريا وتلاشي دورها).

هذا ويُعَدُّ الشكلُ الاستبدادي للحكم الشكلَ الملائم للبرجوازية السورية الصاعدة، حيث لا مكان للاحتجاج على استغلالها ونهبها، ولا عوائق قانونية او نقابية امام جشعها.

أي بورجوازية وطنية؟

مع اندلاع الثورة الشعبية في آذار 2011، كان مثيراً للانتباه ان قسماً من هذه البرجوازية الكبيرة السورية عبَّر بوسائل الدعاية والاعلانات عن دعمه للنظام الحاكم، في تلك المرحلة من الاشهر الاولى للثورة، التي كانت فيها مظاهرات التأييد للطغمة ما تزال حاجة ملحة للنظام، كما استمر قسم آخر منها في تمويل وتجييش ميليشيات موالية للنظام، وخاصة ذلك القسم البرجوازي الشريك للطغمة العائلية الحاكمة.

لكن من المعروف أن رأس المال لا وطن له ولا دين سوى أرباحه، فمنذ نهاية العام الاول للثورة بدأت حركة متصاعدة لتهريب اموال هذه البرجوازية نحو لبنان، وغيره من الدول العربية والاجنبية، وبدأت هذه، في العام الثاني، بإغلاق مصانعها والتسريح التعسفي لعشرات الآلاف من العمال، او نقل مصانعها او بيعها.

لم تتردد البورجوازية طويلاً في ادراك خطر الثورة الشعبية عليها، حيث بدأت فوراً بتسريحات تعسفية واسعة للعمال، منعاً لهم من المشاركة في اضرابات داخل مصانعهم، وايضاً من اجل تأمين رؤوس أموالها بأفضل الشروط لضمان مصالحها. فلقد نشرت صحيفة الوطن شبه الرسمية خبراً عن «تسريح أكثر من 85 ألف عامل خلال العام الأول من الثورة، ونصف عدد المسرحين من محافظتي دمشق وريفها، وتشير الارقام الرسمية الى ان 187 منشأة من القطاع الخاص تم اغلاقها بشكل كامل في الفترة من 1/1/2011 ولغاية تاريخ 28/2/2012». ويشير الخبر الى «ان هذه الارقام لا تحمل اي مصداقية فعدد الورش والمصانع المغلقة يقدر ب500 مصنع وورشة...»2.

وكانت جريدة الفايننشال تايمز البريطانية قد اكدت «أن رجال الاعمال السوريين نقلوا بهدوء اموالهم للخارج منذ بداية الازمة في البلاد، واكد اقتصاديون ان العملية تسارعت مع اجتياح العنف المراكز التجارية في دمشق وحلب...»3.

وقدَّر الباحث سامر عبود قيمة ما تم سحبه من ايداعات في المصارف السورية من قبل المودعين (ولا سيما كبار البرجوازيين)، مع نهاية عام 2012، بما يقارب 100 مليار ليرة سورية4.

لكن احداً لا يملك تقديراً دقيقاً لحجم رؤوس الاموال التي هربتها البورجوازية، ومنها ذلك القسم وطيد الصلة بالطغمة العائلية الحاكمة، ولا يوجد تقدير صحيح لعدد المصانع التي تم نقلها الى الخارج لتشغيلها او بيعها، او تلك المدمرة والمتوقفة عن العمل.

فوفق تصريحات غرفة تجارة دمشق، تؤكد هذه «هروب رؤوس اموال سورية تقدر ب20 مليار دولار»5، وهو رقم نعتقد انه اقل بكثير من الواقع وخصوصاً انه صدر في بداية العام الجاري.

في الواقع، فإن عدد المصانع الخاصة التي توقفت عن العمل في حلب وحدها، التي تشكل صناعتها نحو 36 بالمئة من مجمل الصناعة الوطنية، هو اكثر من الف معمل، ما يعني تسريحاً تعسفياً لأكثر من 500 الف عامل.6

كما ان البرجوازية الصناعية لم تقم بتهريب اغلب مصانعها في ظلمة الليل، بل ان العديد من المعامل التي تم نقلها الى خارج البلاد كان بموافقة السلطات السورية نفسها، وما اكد ذلك هو تصريح وزير الصناعة والتجارة الخارجية المصري حاتم صالح، في نهاية شهر آذار 2013 ،حيث اعلن عن «ان 80 مصنعاً سورياً قد انتقلت الى مصر»، مشيراً الى « وجود 300 مصنع آخر في انتظار الحصول على الاراضي»7. وما يدل على ذلك ايضاً هو قرار الحكومة السورية منع تصدير المعامل، الذي صدر في آذار من هذا العام8، وما صرحه الخبير الاقتصادي السوري محمد سعيد الحلبي، الذي اكد بأن «حوالى 90 بالمئة من المنشآت الصناعية نقلت بسماح من الدولة وموافقة اصحابها...الى الخارج»9.

لم تبع او تنقل غالبية البورجوازية السورية منشآتها ومعاملها فحسب، بل انها هربت القسم الاكبر من رؤوس اموالها ايضاً. والاهم من ذلك ان هذا القسم الكبير من البرجوازيين هرب هو نفسه خارج البلاد ليضع نفسه وامواله في مأمن، متفرجاً على الدمار والقتل الجاري، الذي يدفع ثمنه ابناء الفقراء والكادحين، أكانوا من المدنيين، او من مقاتلي «المقاومة الشعبية»، او جنود الجيش النظامي. هذا في حين يزدهر و ينتشي القسم الباقي في البلاد من الطبقة البورجوازية من اقتصاد الحرب، أكان بشراء الاراضي او البناء او التهريب او المضاربة او الاحتكار، وغير ذلك من النشاطات الربحية التي توفرها الحروب. والبعض منهم اصبح يعتاش من هذه النشاطات حصراً، ممَّن اصبح يطلق عليهم اسم امراء الحرب.

اننا نشهد ما يشبه نزوح «طبقة»، او قسم كبير منها، الى خارج البلاد، بانتظار ان تنهك طبقات اخرى نفسها (من بينها ذلك القسم منها الذي يمسك بتلابيب السلطة السياسية)، في صراعها العنيف، ولحين تستتب الامور بشكل يسمح لها لكي تعود وتسود مرة اخرى، وبشروط اكثر من مناسبة لها، على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وهي الطبقة التي حافظت على نفسها جسدياً وعلى كامل طاقاتها الاقتصادية والمالية.

اذ تقدر معلومات متطابقة في بداية عام 2013 ان عدد «رجال الاعمال السوريين الذين وصلوا الى مصر بنحو 30 بالمئة من اعداد رجال الاعمال الذين فروا من سوريا البالغ عددهم 50 ألف مستثمر»10.

وهو ما يؤكده، رغم بعض التفاوت في التقديرات، العديد من التصريحات الرسمية السورية، فقد اعلن مازن حمور عضو مجلس ادارة غرفة تجارة دمشق: « غادر البلد 60 بالمئة من رجال الاعمال في اوج ازمتها وتكبد الاقتصاد خسائر تقدر بنحو 20 مليار دولار»11. هذا في حين اعلنت مروة الايتوني، عضو مجلس ادارة غرفة صناعة دمشق وريفها، أن « 70 بالمئة من رجال الاعمال السوريين اصبحوا خارج البلاد وهذا شيء مرعب»12.

الطبقة العاملة والكادحون وعموم الشعب

تعرضت الطبقة العاملة السورية الى تأطير رسمي لنشاطها الكفاحي والنقابي منذ استلام البعث للسلطة، ولكن السلطة الحاكمة انجزت الحاقها للنقابات العمالية بها، وهنا نقصد القيادات النقابية العليا، في عام 1974 تحت شعار «النقابية السياسية»، وهو حال بقية التنظيمات النقابية والمهنية مثل اتحاد الفلاحين او الطلبة وغير ذلك.

في الاشهر الاولى للثورة عام 2011، استخدمت السلطة البرجوازية الحاكمة هذه الهياكل الصفراء للنقابات، اضافة الى تراث عريق من الترهيب والقمع، من اجل حشد العديد من العمال والموظفين والمعلمين للمشاركة في مظاهرات مؤيدة لبشار الاسد، لكن السلطة خوفاً من ان ترتد هكذا مظاهرات ضدها، من جهة، وبسبب انزالها لقوات الجيش لمواجهة المظاهرات الجماهيرية المعارضة، من جهة اخرى، اوقفت استخدامها لمظاهرات التأييد لها التي نكرر، بالمناسبة، أنها كانت تحظى بدعم وتمويل من العديد من كبار البرجوازيين السوريين.

ومعروف ان للسلطة السورية كرهاً وخشية معلنين لشريحتين اجتماعيتين أساسيتين هما العمال والطلبة، فقد ادرجت في الوثيقة التأسيسية للجبهة الوطنية التقدمية الحاكمة، التي تضم اضافة الى حزب البعث بعض الاحزاب الصغيرة القومية، والشيوعيين الستالينيين، فقرةً تؤكد التزام هذه الاحزاب عدم النشاط في هذه القطاعات، اضافة الى الجيش.

لكن تفاقم الوضع المعيشي لقطاعات واسعة من السكان، ادى بدءاً من عام 2006 الى تفاقم الاحتجاجات والمظاهرات العمالية والجماهيرية بشكل ملحوظ، بل وصل التذمر الى صفوف النقابات الرسمية نفسها. فقد كان ملاحظاً، مع بداية الثورة، ان عنف النظام ودماره مس بشكل اساسي اماكن سكن وعمل الجماهير العمالية والكادحة، في ريف دمشق ودرعا وحمص وحلب ودير الزور، كما قامت البورجوازية بتسريحات تعسفية ومتواصلة للعمال حتى في المعامل التي هي بمنأى عن العنف وفي المناطق الموالية للنظام.

من جهته، يقوم النظام بحصار المنشآت العمالية المتبقية بميليشياته واجهزته، ويحاول تجيير قطاعات عمالية في معاركه، مانعاً على أفرادها امكانية التواجد او التصرف كطبقة لها مصالحها المتميزة. وخصوصاً مع زيادة الانهيار الاقتصادي والمعاشي في البلاد، التي تدفع بمن بقي له عمل إلى التمسك به، وبمن فقده إلى البحث عن عمل آخر لم تعد توفره الشروط الاقتصادية والسياسية الراهنة. فالبعض ممن اصبح عاطلاً عن العمل اضطر اما الى الالتحاق بالمجموعات المعارضة المقاتلة، التي تدفع معاشاً لمقاتليها، أو التحق بما يسمى الجيش الوطني السوري، وهو شكل من الميليشيا التابعة للنظام، ليس عن قناعة، بالضرورة، بقدر ما يكون ذلك وسيلة للعيش ومحاولة البقاء.

إن الصورة العامة للوضع الاقتصادي الاجتماعي في سوريا اصبحت اكثر من مأسوية، فقد وصل عدد العاطلين عن العمل، مع انتهاء الربع الاول من عام 2013 ، إلى حوالى 2،96 مليون عاطل عن العمل، ما يرفع نسبة البطالة الى 48،7 13، في حين تقلصت قوة العمل الفعلية، اليوم، الى حوالى 3،1 مليون عامل، بعد ان كانت نحو ستة ملايين عامل في عام 2010. وهو ما يؤدي الى ارتفاع عدد العاملين في القطاع الاقتصادي غير النظامي، كالباعة الجوالين لكافة انواع البضائع والسلع، ومنها النفط، أو المهربين.

لقد تفاقمت الاوضاع المعيشية لقطاعات واسعة من العمال والطبقات الشعبية الى حد دفع باتحاد عمال دمشق الى نقد الاوضاع الراهنة في تقريره السنوي لهذا العام، الذي قدم فيه ارقاماً عالية جداً تؤكد هذا التدهور الحاصل في مستوى المعيشة. وهو يشير مثلاً الى ان الدولة زجت كتلة هائلة من النقد، ما جعل نسبة التضخم تتجاوز 75 بالمئة، وأدى إلى ارتفاع مذهل لأسعار السلع وخاصة الغذائية والمشتقات النفطية. ويشير التقرير المذكور الى «ان هروب رؤوس الاموال تسبب بإغلاق آلاف المنشآت والمعامل في سورية وبالتالي بارتفاع نسبة البطالة الى معدلات قياسية وظهور الآفات الاجتماعية»، مؤكداً تدهور المستوى المعيشي لنحو 6،1 مليون شخص، وارتفاع قيمة الايجارات بنسبة تزيد عن 100 بالمئة. وطالب الاتحاد العمالي «الرسمي» بتحسين الوضع المعيشي للطبقة الافقر في المجتمع وهي العمال، بزيادة اجورهم بنسب تتراوح بين 30 و 300 بالمئة.14

ومن النافل التذكير بأنه استناداً الى المعطيات المذكورة اعلاه، اضافة الى التحول المسلح لجزء كبير من الثوار، وعنف النظام ووحشية المعارك الدائرة، كل ذلك جعل حتى الآن تحرك الطبقة العاملة، بصفتها الطبقية هذه، وفي أماكن عملها، ضعيفاً للغاية. مع أننا رصدنا عام 2013 اول اضراب عمالي في معامل المتوسط للأدوية في دمشق بتاريخ 29 تموز. ولكن هذا لا ينفي ابدا ان العمال والكادحين يشكلون الكتلة الاساسية من ثوار الحراك الشعبي والمسلح.

إذاً، في هذه الظروف الشديدة العنف من الصراع الطبقي الجاري، نشهد من جهة هروب جزء أساسي من الطبقة البرجوازية بكل مكوناتها الى الخارج للحفاظ على نفسها وأموالها، وذلك الجزء الباقي يزداد اغتناء نتيجة اقتصاد الحرب، بل وتشجعه السلطة الحاكمة على نقل معامله ومنشآته الى ما تسميه المناطق الآمنة بشروط سخية. ومن جهة اخرى، نشهد في المقابل بزوغ شريحة جديدة من اغنياء الحرب وأمرائها، وخاصة في المناطق «المحررة»، وهي شريحة برجوازية جديدة لا تقل فساداً عن شقيقاتها.

ما هو الموقف السياسي للبرجوازية السورية؟

ان برجوازية الحرب الجديدة تجد مصلحة لها بامتداد الصراع امداً اضافياً، بشرط ان يكون ذلك لصالح امكانية اعادة تدوير الاموال التي نهبتها، ونجد بعضاً من ممثليها في عدد من الهيئات السياسية للمعارضة، ولا سيما المجلس الوطني السوري وائتلاف قوى الثورة والمعارضة، ولكنها لا تمانع ايضاً بالتعامل مع النظام نفسه، فعدد منها ممن وضع يده على عدد من آبار النفط يقوم ببيع إنتاجها للنظام الذي يقول انه يحاربه، ويهرب قسماً آخر إلى تركيا. والحال، فإن البرجوازية السورية بكتلتها الأساسية بقيت ترى في النظام «نظامها»، ولم تقدم على أي خطوة سياسية تعبر عن موقف مناهض له أو مميز لها عنه. فيمكن القول إن مبادرات معاذ الخطيب، الرئيس السابق للائتلاف الوطني، كانت تعبر عن موقف للبرجوازية الدمشقية فحسب، وتقوم على فتح باب الحوار والتفاوض مع النظام، من دون شروط. ولكن المبادرة السياسية الوحيدة واليتيمة «للبرجوازية السورية» جاءت بعد عامين من الثورة عقب اجتماع لبعض رجال الاعمال السوريين في عمان – الاردن، في أواخر آذار 2013، الذين أطلقوا ما اسموه «مبادرة الضمير السوري»، التي تضمنت بقاء الاسد حتى عام 2014 والابقاء على الحكومة الحالية مع تغيير وزيري الدفاع والداخلية فقط. كان واضحاً ان هذه المبادرة البرجوازية الوحيدة لم يهتم بها أحد من الثوار، بل كانت تشكل محاولة بائسة لإنقاذ النظام البرجوازي الدكتاتوري15. بينما لم يعد للشرائح الوسطى وجود تقريباً، وهي التي كانت تعاني اصلا في السنوات العشر الماضية من حالة اضمحلال مستمرة. فحالة الافقار ساوت هذه الشرائح الوسطى بالطبقات الشعبية المفقرة ، بل والمدقعة الفقر.

كائناً ما ستكون عليه الأوضاع السياسية في المرحلة القادمة في سوريا وتقلباتها، وما ستكون عليه مآلات الثورة، فالمطالب الاقتصادية – الاجتماعية ستفرض نفسها في لب أي مشروع سياسي قادم. وبالأخص فإنها ستبرز بوضوح اكبر، كونها بين الدوافع الاساسية – بجانب التوق إلى إطاحة الاستبداد، وانتزاع الحريات الديمقراطية - للنضالات المستمرة والديناميات الثورية لعموم الكادحين حتى تحقيق مطالبهم.

تشكل هذه اللوحة صورة عن عمق التحولات الاقتصادية - الاجتماعية الجارية في سوريا، والتي تزداد تفاقماً وتفككاً، وهو ما استفاد منه النظام، اضافة الى سياستي التدمير والتهجير، بعمله على الدفع بقطاعات واسعة من الجماهير الواسعة الثائرة الى حالة من اليأس واللهاث من أجل البقاء، هرباً من القتل والدمار والجوع والحرمان، آملاً بذلك اخراجها أو شلها عن الفعل الثوري والاحتجاجي. وهو في الواقع نجح نسبياً، لأن «المناطق المحررة» تعاني نفس الآفات التي كانت تعانيها تحت الحكم الدكتاتوري. يضاف إلى ذلك تزايد نفوذ القوى الجهادية والتكفيرية الرجعية والمضادة للثورة، التي تحاول، اضافة لما سبق، ان تفرض نمط علاقات اجتماعية متخلفة، وتطرح رؤية رجعية تتحدث عن فهم مغرق في تخلفه وتزمته وضيق افقه عن الدين الاسلامي، وتعلن رغبتها بفرض قيام دولة الخلافة ، وهذا بتناقض واضح مع أسباب وأهداف الثورة الشعبية السورية العظيمة، ما يجعل من هذه القوى الرجعية والفاشية عائقاً خطيراً دون استمرار الحراك الشعبي وانتصار الثورة. فقد اصبحت هذه القوى الرجعية، في هذه اللحظة، تشكل خطراً داهماً على مستقبل الثورة والبلاد. وفي هذه اللحظة من الثورة ، ومن أجل انتصارها، لا مناص للحراك الشعبي والمقاومة الشعبية الثورية المسلحة، من أن تتحمل مسؤوليتها في مواجهة هذه القوى الرجعية بحزم، وبالسلاح ان اقتضى الأمر، وبلا تردد، مع الاستمرار بالثورة الشعبية ضد نظام الطغمة الحاكم، في آن معاً، ما قد يسمح بإعادة الثورة الشعبية الى مسارها الاصيل، من أجل الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية.

وهذا الأمر يتطلب، بالضرورة، تلاقي القوى الكفيلة بوضع استراتيجية انتصار الثورة الشعبية السورية، بما هي ثورة الحرية والكرامة والعدل الاجتماعي. وهو ما يستدعي، برأينا، السعي الحثيث لأجل قيام قيادة ثورية جماهيرية، تستفيد من أشكال التنظيم الذاتي الشعبي، في مناطق شتى من الارض السورية، الخارجة عن سيطرة النظام، بخلاف الاشكال الهزيلة القائمة، فضلاً عن إنضاج عملية بروز قيادة سياسية وعسكرية موحدة للمقاومة الشعبية المسلحة، وانهاء تشرذمها، ومحاصرة المجموعات الفاشية التكفيرية، وعزلها عن الحراك الجماهيري، تمهيداً للقضاء على الدور التخريبي، والتصفوي، الخطير، الذي تضطلع به. وبالنسبة لليسار الثوري، فإن بناء الحزب العمالي الاشتراكي الثوري الجماهيري يبقى مهمة ملحة، وقضية حياة أو موت، في هذه المرحلة الراهنة من الصراع الطبقي العنيف الحالي، وفي القادم من الأيام.

1. يمكن مراجعة هذه الاحصائيات في مقالتنا، غياث نعيسة : «ثورة جارية» المنشورة بتاريخ 24 تموز 2011 على موقع الحوار المتمدن ، وغيرها من المقالات والاحصائيات الواردة فيها في نفس الموقع.
2. نقلاً عن موقع عنب بلدي ، البطالة في سوريا الى أين؟ ، بتاريخ 4/4/2012.
3. نقلاً عن موقع جريدة الزمان بتاريخ 15/2/2013.
4. سامي عبود، «الاموال السورية الهاربة الى الخارج ارتدت اقنعة تجعل من الصعب عودتها»، موقع الاقتصادي، بتاريخ 13/5/2013.
5. موقع شام برس بتاريخ 12/2/2013.
6. - باسل ديوب، هكذا تهاوت قلعة الصناعة السورية، جريدة الاخبار اللبنانية، العدد 1935 بتاريخ 19/2/2013.
7. سلام السعدي، مصانع سوريا تهاجر ايضاً، موقع المدن، بتاريخ 4/4/2013.
8. المصدر نفسه.
9. موقع بلدنا، الصناعة السورية تمرض ولا تموت، بتاريخ 4/6/2013.
10. موقع سكاي نيوز ، لاجئون سوريون بدرجة رجال اعمال، بتاريخ 30/1/2013.
11. شام برس، غرفة تجارة دمشق: هروب رؤوس اموال سورية تقدر ب20 مليار دولار، بتاريخ 14/2/2013.
12. موقع عنب بلدي، نقلاً عن الفايننشال تايمز، مصائب قوم عند قوم فوائد...رؤوس الاموال السورية المهاجرة، بتاريخ 31/3/2013.
13. موقع شام برس، القتال في سوريا... خيار اقتصادي للعاطلين عن العمل، بتاريخ 20 تموز 2013، والارقام التي ينقلها هذا الموقع في المقال المذكور مستقاة من دراسة للمركز السوري لبحوث السياسات، صادرة هذا العام.
14. موقع جريدة الثورة الحكومية، اتحاد عمال دمشق: توفير بيئة عمل آمنة ...، بتاريخ 17/7/2013.
15. انظر موقع المركز الاعلامي السوري وتقريره الصادر بتاريخ 18/4/2013، الذي تضمن أسماء عدد من رجال الأعمال المنظمين لهذه المبادرة، وهم «أنس الكزبري، راتب الشلاح، موفق قداح، عادل مارديني، زينة يازجي، أديب الفاضل، عبدالله الدردري، ورجل أعمال محسوب على الثورة».



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن