التعددية اللغوية والتواصل بين العرب

ياسر يونس
yasseryounes@hotmail.com

2013 / 11 / 18

التعددية اللغوية والتواصل بين العرب

أود في هذه العجالة أن أعرض لموضوع التعددية اللغوية والتواصل بين العرب من محورين أربطهما بتجربتي العملية في مجال العمل في منظمات الأمم المتحدة منذ عام 1997؛ وسأتجنب الخوض في التعاريف الأكاديمية لصالح التركيز على الجانب العملي. وفي النهاية سأتناول "اللغة البيضاء"، وهي تعني لي مستقبل التواصل باللغة العربية بين الناطقين بها. وستجدون شرحاً وجيزاً لمفهومها ونشأتها ومستقبلها المحتمل في نهاية المقال.

إن تجربتي العملية تلك أتاحت لي التعرف على عدد من المترجمين والمترجمات العرب فلاحظت أساليب مختلفة في الكتابة وتعرفت على لهجات عربية مختلفة أيضاً. كما تعرفت على عادات مختلفة للشعوب العربية وغير العربية، وأظن أنني أفدت كثيراً من هذا الاحتكاك الثقافي سواء أكان ذلك في المهنة أم في الحياة الاجتماعية أم في الآفاق الثقافية عموماً.

وأرى أن التعددية اللغوية تمس حتى أهل اللغة الواحدة كالعرب مثلاً ، وأود أن أبدأ، ككاتب عربي، بأن أتناول هذا الموضوع داخل اللغة العربية وفيما بين الناطقين بها أولاً ثم أربط ذلك بالسياق الأعم والأهم في مقالات أخرى إذا سنحت الفرصة.

وسأعرض هنا للمحورين اللذين وجدتهما الأنسب للزاوية التي أتناولها في هذا المقال على النحو الوارد أدناه.

المحور الأول: اللغة العربية من لهجات متعددة إلى فصحى واحدة

أعني هنا لغة الكتابة فما حدث للغة العربية هو مثلاً عكس ما حدث للغة اللاتينية. فاللغة العربية تحولت من عدة لهجات تتراوح بين السبع والعشر إلى لغة كتابة واحدة بعد جمع القرآن وصارت لغة قريش هي اللغة العربية "الرسمية" أو لغة الكتابة والتدوين، بينما تحولت اللغة اللاتينية من لغة واحدة إلى عدة لغات (لهجات أو لغات عامية) لنجد الفرنسية والألمانية والإيطالية وغيرها كلغات منبثقة عنها ولكنها في الأصل كانت "عامية".

وكانت لتوحيد "لهجة/ لغة قريش" فائدة ايضاً بعد تأسيس الدولة حيث كانت المراسلات والمعاملات الرسمية تُدون بها، وصارت هي لغة الشعر والنثر الفني. وبالطبع تركت اللهجات العربية القديمة أثرها في استعمال اللغة في كل بلد انضوى تحت لواء الدولة الإسلامية العربية أي دولة الخلافة آنذاك. أما اللغة التي يتحدثها الناس فهي العامية، واحتفظ كل بلد انضوى تحت لواء تلك الدولة (أستعمل هنا التسمية المعاصرة "البلد" بدلاً من الولاية لأنني أعني الماضي والحاضر معاً ) ببقايا من لغته الأصلية وطرق نطقه القديمة وأساليب سكانه في التعبير كما احتفظت بعض القبائل العربية ببقايا من لهجتها/ لغتها القديمة فنجد الجيم المصرية في مصر واليمن مثلاً كما نجد بعض أهل الخليج يستعملون التاء مع الشين بدلاً من الكاف أحياناً ، إلخ، وحتى رسم الكلمات ظهرت فيه اختلافات أيضاً ولكن الطريقة السائدة الآن، وخصوصاً بعد ظهور المطبعة ثم الآلة الكاتبة والحاسوب، أصبحت موحدة بصرف النظر عن فروق طفيفة.

وفي مجال الترجمة العربية في المنظمات الدولية نجد أن للمترجمين السوريين مثلاً أسلوباً متشابهاً في الكتابة عند النقل إلى العربية، وكذلك المترجمون المغاربة والمصريون......إلخ، ولكن تظل لغة الكتابة أي اللغة الفصحى واحدة ومفهومة للجميع. ولاحظت أنهم جميعاً يحرصون على أن تكون لغتهم مفهومة لكل الدول العربية الأعضاء في المنظمات الدولية، فهم يتجنبون قدر الإمكان الاستعمالات المحلية البحتة التي حتى وإن صحت وكان لها أصل في الفصحى فإنها لا تكون مفهومة لبعض أو معظم الشعوب العربية.

المحور الثاني: التواصل اليومي

أعرض هنا كمثال التواصل اليومي بين الموظفين العرب في منظمات الأمم المتحدة من واقع تجربتي العملية. فهذا التواصل يتم بالعامية العربية التي يتحدثها كل فرد حسب موطنه الأصلي. وقد تأثرت هذه اللغات العامية بمؤثرات هامة تركت وقعاً قوياً فيها. ومن أهم هذه المؤثرات لغات سكان البلاد الأصليين (الأصول الفرعونية في مصر والأصول البربرية في البلدان المغاربية والأصول الفينيقية في سوريا ولبنان مثلاً) ولغات الشعوب التي احتلت بعض البلدان العربية في فترات ما من التاريخ القديم والحديث (أثر اللغة الإنكليزية في مصر والفرنسية في المغرب مثلاً وأثر اللغة التركية في كثير من لبلدان العربية نظراً لطول فترة الحكم العثماني) وكذلك الاختلاط بين بعض الشعوب العربية في آسيا وبين شعوب آسيوية أخرى (الأثر الفارسي والهندي في لغة دول الخليج مثلاً) إضافة إلى التواصل الحضاري الذي لم ينقطع بين أوروبا والبلدان العربية المطلة على البحر المتوسط .

وقد باءت كل محاولات وضع القواعد للغة العامية في البلدان العربية بالفشل نظراً لتطور العامية بسرعة كبيرة وعلى نطاق واسع على نحو يكاد يكون يومياً. كل هذا أدخل ومحا كلمات وتعبيرات من لغة التواصل اليومي وترك في تركيباتها أثراً لا يستهان به. والحقيقة أن الإبداع الفني العربي لعب دوره في تسهيل التواصل اللغوي بين الشعوب العربية. وكانت البداية في الأغنية المصرية والسينما المصرية والمسرح المصري ثم التليفزيون المصري، ولاشك أن هذا الإبداع المصري آنذاك تحقق بمشاركة من فنانين من دول عربية أخرى كانت انطلاقاتهم من مصر وإن كانوا قد استعملوا اللغة العامية المصرية في معظم أعمالهم. وأدى ذلك إلى أن أصبحت اللغة العامية المصرية سهلة الفهم على معظم العرب. وبعد ذلك انطلقت الشعوب العربية في نشر إبداعها الفني في الغناء والسينما والمسرح والتليفزيون وأصبحت الشعوب العربية، بما فيها الشعب المصري الذي كان معتاداً على لغته العامية فقط أكثر من غيره من الشعوب العربية، أكثر فهما واستساغة للغات العامية التي تتحدثها الشعوب العربية الأخرى. وأكرر مجداً أنني أتحدث في هذا المحور عن العامية لا الفصحى.

وتحضرني هنا بعض الأمثلة التي عشتها أنا نفسي، فكان أحد الزملاء المغاربة يحييني في الصباح ثم يقول لي "كداير" ولم أكن أفهمها إلى أن شرح لي أنها تعني كيف حالك. وكنت أنا أحييه ثم أقول له "عامل إيه" ولم يكن يفهمها إلى أن شرحت له أنها تعني كيف حالك. وانتهى بنا الأمر إلى أن أصبحت أبادره بالتحية في الصباح ثم أقول له "كداير" فيرد ثم يقول لي "عامل إيه". فالتواصل اليومي هو ألأسرع تطوراً ولا يخضع لقواعد صارمة وله دوره في التقارب بين الشعوب كما أنه الأكثر طبيعية.

اللغة البيضاء

"اللغة البيضاء" مصطلح جديد نشأ في مجال الأغنية العربية ويعني الأغنية المكتوبة بكلمات من مختلف اللهجات العربية بحيث لا يمكن أن تُصنف كأغنية مكتوبة بلهجة عربية معينة، كما أنها سهلة الفهم على جميع الناطقين بالعربية. وقد أثار هذا النوع من الأغاني جدلاً في أوساط المعنيين بالفنون ولقي معارضة من أصحاب الفكر المحافظ (ليس بالمعني الديني لكلمة محافظ بل بالمعنى الثقافي للكلمة).

والحقيقة أن هذه "اللغة البيضاء" موجودة بالفعل منذ وقت طويل ولكن في الكتابة باللغة بالفصحى وأعني اللغة الفصحى المفهومة للجميع والمستعملة مثلاً في الترجمة إلى اللغة العربية في المنظمات الدولية. كما ظهر مصطلح "اللغة الثالثة" في العقد الثاني من القرن العشرين في مسرحيات توفيق الحكيم وكتابات عبد القادر المازني، وكان يعني أن تٌكتب المسرحية بلغة بين العامية والفصحى مع احترام قواعد العربية الفصحى واستعمال الكلمات والتعبيرات التي لها أصل فصيح في اللغة، مثل تعبير "انقطع نفسي من الجري". والفارق هو أن "اللغة البيضاء" تجمع بين لهجات عربية مختلفة و"اللغة الثالثة" تجمع بين الفصحى والعامية. وهذه اللغة البيضاء أيضاً يستعملها من يتزوجون من جنسية عربية غير جنسيتهم، حيث يتواصل الزوجان بمزيج من لهجة كل منهم مع لهجة الآخر، وينقلون ذلك أيضاً إلى أبنائهم وبناتهم فيحذون حذوهم تلقائياً، ولكن الفارق هو أنهم يمزجون بين لهجتين فقط بينما تمزج اللغة البيضاء بين عدة لهجات.

وأعتقد أن هذه "اللغة البيضاء" ستستمر في الانتشار لتكون حلاً مثالياً وطبيعياً، أي نشأ بصورة طبيعية ملبياً احتياجات الشعوب العربية في التواصل فيما بينها. وأخيراً، أود أن أشير إلى أن الحلول الفوقية لا تُغني ولا تُسمن من جوع، أما الحلول التي يتفق عليها البشر من تلقاء أنفسهم وبالفعل العملي الطبيعي لا بالقرارات النظرية فهي التي يُكتب لها النجاح. إن اللغة وسيلة للتواصل والتعبير بين البشر وأية محاولة لوقفها عن التطور الطبيعي وأداء مهمتها العملية ستبوء بالفشل لا محالة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن