المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/7

أحمد عبد العظيم طه
a_develerth@yahoo.com

2013 / 11 / 8

(30)

الموت. بالطبع كان الموت ولا يزال من المشاهد التي تفجع قلب الأحياء عند رؤيتها. ولكن الأمر بدا مضاعفاً مائة ضعف هنا بمخيم البحيرة الاصطناعية. وبدا الناس خائفين وتغشى الرجفة, والذهول, والزرقة, أوجه العديدين منهم. لكأن تلك المظاهر الفردية, الخصوصية, قد باتت سمات عامة للمشيعين. وحتى أنه إذا أجريتْ المقارنة بين حالاتهم النفسية في أعقاب الكارثة وما عايشوه خلالها من أرزاء تتضمن: الخسارة.. والفزع.. ومعاينة الموت.. وفقدان الأحبة.., وبين حالاتهم النفسية الحالية وهم يشيعون جثماناً.. فقط يشيعون جثماناً.. فقط يستفتحون مقابر المخيم(1) بجثة السيدة قدرية.. عندئذ سوف تغدو المقارنة ظالمة.. لا مقارنة.. لقد صاروا يحسون بالموت في صورته الطبيعية, وهو مخيف أكثر من الذي يأتي بصورة مفاجئة, فما تحصله المفاجأة من الانتباه قد يختصم بقدر من رصيد الفكرة الأبدية.. الممات.. الموات.. الموت.

وكان صمتًا ضاربًا في سير الجنازة, إلا من شهنفة مرتفعة لبضع نساء ورجال, أيضًا صوت المريض ناجي يسمع بين فينة وأخرى في عبارة متكررة: "هي اللي قالت لي الأرض ثبتت.. الله يحبها.. الله يرحمها.. هي اللي قالت لي الأرض ثبتت.. الله يحبها.. الله يرحمها".

حين وصلوا إلى مرحلة الدفن, كان زهادة مصرًا على مشاركة مبعوثي إدارة المخيم في إنزالها منزلها, وصدرت عنه عدة عبارات مذكرة لها بينما يتلفت بأوجه الناس وكأنه يحصي الناظرين, ثم هو جلس يقرأ على قبرها قرآناً, ويبكي, والناس تتفرق بخوف...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يقول المقدس ويصا أنها كانت مقابر أنبوبية طولية مغروسة بالرمال, وأن عددها كان هائلاً في ظل ظهورها قريبة من بعضها البعض, فبدا الأمر للناس وكأن إدارة المخيم قد حسبت لموت كل المقيمين.

(31)

كانت خطة الراهب رشدي تعتمد على نواة تقليدية للغاية, الأنثى كطعم للذكور.. اختطاف.. مساومة.. اتفاق.. ثم بالنهاية تجيء المبادلة. لذا فقد اقتصر الاجتماع التحضيري, النهائي, لهيئة الناجزين – وبشكل سري, على الذين سوف يقومون بتنفيذ الشق الهجومي من الخطة, إضافة إلى رأس خلية المستطلعين (الشخص الذي قام وخليته بعمل استطلاعي جيد عن مواعيد وأماكن المستهدف), وأخيرًا الآنسة صافي. هذا وقد تكفلت رؤوس بقية الخلايا بتغطية الأمر وسحب الأعين المحتاط لتواجدها. فطفقت أشغال من قبيل وجوب حفر مخبأ تحسبي (آخر) للطوارئ, وليكن بآخر المخيم من ناحية المقابر بغية درء الشبهة عما يفعلون. كذا صناعة المزيد من رماح خشبية, وهراوات, ومؤذيات بدائية من خليط السوائل المطهرة التي تستخدم بنظافة المخيم.

لكن الآنسة صافي قد خذلت المجتمعين. أربكتهم. حدت من تنامي حميتهم بتراجعها عن التطوع للمهمة. في البداية أظهرت صمتاً غير مريح, ثم زعزعة, ثم كان خوفاً صريحًا من قول الراهب رشدي عن الغواية. قالت: أنها لن تستطيع إغواء أحد.. وأنها حيية جدًا.. ومن أسرة محافظة.. وأنها بعد أن راجعت فكرة المواجهة ترى أنه من الأفضل أن...
قاطعتها الموظفة تقى بكياسة (إنما غير مترفقة بالمرة) فأوضحت لها: أنها ليست مضطرة لشرح مزياتها الحسنة لأحد.. فالاعتذار عن الأمر هو من الكفاية في شيء.. إضافة إلى اقتضاء تعهدها بأن كل ما سمعته أو رأته سيصير شيئاً منسيًا.
وجمت الآنسة صافي, ووجلت, ثم هي متلعثمة تعهدت بالكتمان الأبدي لما أريد بها كتمانه (محاولة التخلص من الموقف بأسرع المتاح من خيارات), وصدر منها أن رمقت الموظفة تقى بنظرة كراهية قبيل مغادرتها للمجتمعين نهائيًا.

إثره, أفادت الموظفة تقى أنها مستعدة للقيام بالدور الشاغر, على أن يَسد فراغ مكانها في قوة الهجوم فردًا ممن يجيدون التصويب بشكل جيد من غير الموجودين. وقد نوهت بوضوح وبطء (بعد إصابتها بعَرَض التحقق القيادي) إلى أنه: حال الاضطرار لإطلاق النار, فبرأيها ليس من المستحب أن يكون فعلاً, قتلاً, هذا أن الإصابات التعجيزية سوف تكون مؤدية للغرض, وكذا كيلا تنسرب الأمور لأبعد مما يجب, وأوردت مثلاً عن: أن ما يُعقد بالأيدي قد يُفك بالأسنان...

عندما جن الليل تحركوا في مجموعة واحدة, إلى أن شارفوا على ميدان حي "النسائم" فراجعوا خطتهم بتأن, ثم انطلقت الموظفة تقى تتبختر باتجاه المنطقة المضيئة من الميدان. كانت تخلخل حزام بنطالها كيلا يكون محبوكًا حول خصرها, فينزل البنطال شيئاً ليبين أعلى سروالها الداخلي. كانت تفعل بحس أنثوي صارخ, مدركة أن ثقتها فيما تفعل هي ديدنها للنجاح في اجتذاب الصيد, كذلك فلا ضير من بعض الإحساس بالنشوة جراء الإيقان بوجود من يتابعها من أعضاء قوة الهجوم (أولئك المستترين بالظلام ويحتوون الأستاذ عبد المعز).
فلما توقفت سيارة, نبض قلبها بقوة, وكاد الخوف يفتك بمشيتها المائسة!. لكنها تماسكت باستنادها إلى سور فسقية الميدان, وافتعلت ابتسامة أظهرت نصوع أسنانها للمدققين برؤسهم من خلف وهج مصابيح الزئبق. كانت سيارة مكشوفة, قفز من فوق متنها ثلاثة أنفار وبقي السائق في مكانه وقد خفض من شدة الإضاءة.
تكلم أحدهم إلى الموظفة تقى بـ: نعمتِ مساءً!. وماذا تعملين هنا؟. واقترب آخر منها ببطئ بنية جعلها تتحرك لكنها لم تفعل. وكان ثالثهما (ومنظار غليظ متدلٍ عند صدره) صائرًا يتلفت متفقدًا محيط الميدان بعينه الحادة المجردة.

- زهقت من المخيم جدًا.. قلت أشم هواءًا حرًا لبعض الوقت.
- حديثك يفوح منه الجنوح.. ونحن نحب الجانحات يا ليلة.
- ...........
- .........

انتهت المعركة سريعًا (بأسرع من المتوقع الضخم) مخلفة أسيرًا واحدًا, وثلاثة من القتلى لم يكن من بينهم سائق السيارة, والذي نجح في الفرار عقب إصابة مباشرة بالكتف.

نظروا إلى قتيلهم بحسرة, ثم راحوا يتطلعون واجفين بأوجه بعضهم البعض للحظات, لكن الأسير كان ينظر قتيليه بنظرة مغايرة-;- محيية-;- وقاتلة.

(32)

كان المهندس سيد المهيلي رئيسًا لحي العطاردة منذ البداية, وقد أعيد انتخابه لعدة مرات متتالية, لأسباب تتضمن تفانيه في خدمة الحي, وتوازنه الإداري كوسيط بين الجهات التنفيذية المركزية بالمحافظة وحاجات المواطنين المنتقلين, جميعهم-;- من أقلهم شأناً إلى أكثرهم تزودًا به. الناس كانت تحبه وتفضله لإنجازاته-;- وليس لخوفهم منه كشخص له صلاحيات تقترب من صلاحيات الشخوص المركزية الصريحة. يمكن القول أنه كان منتقلاً مجتهدًا بعض الشيء على المستوى النظامي!. قد يكون يحمل درجة علمية لا بأس بها كما يرى الناس!. مجامل للعائلات العريقة أو الكثيرة العدد بما يُلاحظ!. لكن المستحيل بعينه أن يكون صغيرًا إلى حد الدسيسة. هكذا كان المهندس سيد المهيلي يسترجع سيرته الذاتية بأغوار نفسه, وقد افترش الأرض أمام تخييمته المطلة على البحيرة الاصطناعية, حزينًا, مبتئسًا, نكدًا.
وحين واتاه استغلال قيلولة زوجته وأطفاله, انطلق خارجًا إلى ما برح المخيم, سائرًا على غير هدى بشوارع بالعطاردة حتى تجاوز الحي بأكمله. وما كان ليذهب خيال غريم قبل صديق إلى الذي وصلته طبيعة الحالة العامة للصحارة, أغلب القول أنها المدينة الكارثة, الكبيرة, فقد كانت كعاصمة تحظى بالكثافة السكانية الأضخم من بين مدن المحافظة الجديدة.
كنت لتجد مئات الأسر المشردة وقد صنعوا بالقرب من المخيمات الرسمية تخييمات ذاتية من الأغطية والأفرشة.. فهؤلاء من الذين وصلوا متأخرين.. وهؤلاء هم الذين قد وصلوا مذبذبين.. ثم كانوا أولئك الذين حتى وإن وصلوا قبل المواعيد المحددة, فسترفضهم إدارة التخاييم لعدم وجود أمكنة لهم, أو لاحتوائهم على أمرض معدية قدرًا.
وكان يعبر من بين العدة تخييمات فلا يجد المهندس سيد المهيلي من يرد عليه السلام من الأشخاص المتناثرين-;- المضطربين-;- والثكالى. وكان لا يكلمه المعارف إلا في طلبات التوسط واستعجال حاجات تأخرت إدارة التخاييم في جلبها.
ولما وجد نفسه قد دخل جوف المنطقة الغربية من حي نموذجية, شعر بانقباض قلبه, وسأل عن أحدٍ من أسرة يعرفها؟, فأجيبَ بالشيء الذي طق له شعرًا من رأسه, وجعله يبكي تأثرًا واحترامًا. قالوا: أن أكثر من نصف عدد أفراد العائلة الرئيسية للأسرة قد قضوا نحبهم بالكارثة, فانتحر الباقون, وذلك كما تقضي أدبيات العائلة.

عاد إلى المخيم بالغروب تقريبًا, وقد أدهشه للحظات جزع زوجته وأطفاله كونه تأخر بالخارج كل هذا الوقت, ثم إنه كان الشخص الذي يتأقلم سريعًا مع الموقف, مختطفاً نفسه إلى الواقع, ومتحايلاً على ما أصابه من فكر شديد.

(33)

لقد بات الجميع على شعور بالتواطؤ, الكبير, وقد أُطلقت يد الجماعات المسلحة بالصحارة على هذا النحو, وانقطع خيط الشك الأخير (بأنفس الذين استيقظوا) في سوء النية المركزي, فالذعر الذي سببه أعضاء جماعة "عُصبة العِصَمْ" فجرًا بمخيم البحيرة الاصطناعية كان شديدًا جدًا, خاصة لدى الذين يمتلكون أطفالاً خفاف النوم ويصرخون في وجه الأغراب عندما يسلطون كشافاتهم الذاتية بأعينهم.

وقال لهم المقدس ويصا: أنه ليس من خلق الكرام إفزاع المكروبين, أو إهانة الصليب بظهر يده, فأهانوه. وقال لهم الأستاذ جلال صبحي مدرس الرياضيات الكمية: أنه خذوا ما تشاؤون من المتاع عدا عذرية ابنتي, فخرجوا من تخييمته مندهشين كون الفكرة لم تدر برؤوسهم قبلاً. وقتلوا المهندس سيد المهيلي صعقاً إشعاعيًا بعد أن صفع أحدهم – وكان المصفوع تسبب في زيادة فزع أطفاله وزوجته بالزعيق في وجوههم.

وبدا أن الخيال قد صار لدى الناس أروع من الواقع في الحقيقة, إذ أن الكثيرين قد شيعوا أعضاء جماعة " عُصبة العِصَمْ " خشية وتملقاً, فطرأت عبارات من قبيل: "شكرًا لجند الله وحفظة الأمن العام". و "الله يرزقكم بما تناضلون فيه". و "أنتم الأساس والباقي هم الناس".
كان مقدار الرهبة التي خلفوها رهيبًا, غامضًا, شاملاً وشريرًا على أية حال. فالناس أصبحت نظراتهم إلى بعضهم البعض تفيض بظاهر من الاضطراب والوساوس, وقد شاع الكثير من الصمت المبني على شك في وجود كتبة تقارير من بين المخيمين.

(34)

ظهرًا, باجتماع هيئة الناجزين, لم يحضر الثلثين تقريبًا من الأعضاء, وهو الأمر الذي انتقص من الزخم الاجتماعي المتوقع لاجتماعات سابقة. انقسم الحضور (بلا نظام) حول جدوى ما تم فعله وكان سببًا لما جرى. وهوجم المقدس ويصا كلاميًا من البعض: بعد وصفه لما حدث بالبطولة. وقالت الآنسة صافي: أنها تراجعت لحكمة هذا اليوم وليس جبنًا منها كما ألمحت الساقطة (جلابة المصائب) من قبل.
واستغل زهادة سخونة الأجواء بأن اعتلى منصة الكلام, وقال: بأن دمًا قد أريق الليلة الفائتة, وأناس أبرياء قد اختطفوا, مما يدل على فشل من صدروا أنفسهم كقادة للجميع, وعدم امتلاكهم لخبرة إدارة الأزمات الحرجة بعد أن واتتهم جرأة الانفراد باتخاذ قرار خطير كهذا.. لذا.. وبناءً عليه.. فإنهم سيكونون الأحق بأن يتحملوا حملهم, وحدهم, وحسنًا قد فعلوا باختفائهم بعيدًا عن المخيم والذي عساه يكون اختفاءً أبديًا, فليس من العقل الراجح نهائيًا أن تتحول مشكلة صغيرة, فردية, كامرأة مختطفة, إلى مشكلة عامة تمس أمن الجميع على هذا النحو. واستطرد زهادة في كلمته بالقول: أيها المنتقلون الأوائل, الكرام, إن إدارة الأزمات الحرجة تحتاج إلى شخص موهوب بالقيادة, وأنني لا أزكي نفسي على أحدٍ, إذ أن هذا الخلق ليس من شيمي, لكن الناس هم الأدرى بكل شيء, وشخص, وهم الذين سوف يقيمون ما...

ولقد دفع به كمال قصاص الصلب (أحد رؤوس الخلايا) عن منصة الكلام, فكاد زهادة أن ينكب على جنبه وراح يصيح معترضًا. وصرخ فيه كمال قصاص الصلب: أن اخرس واستمع بلا مهاترة. ورضخ زهادة مكهفر الوجه, وبدا أنه قد دس شيئاً بسريرته فصمت عن الصياح.

بسط كمال قصاص الصلب ورقة وتلا منها بياناً صادرًا عن الشعبة التنفيذية لهيئة الناجزين-;- جاء به: "....... وإننا من منطلق الحرص على أمنكم الشخصي, وحيواتكم الغالية عندنا, نرى أنه لا ضرورة حالية لعقد أية اجتماعات عمومية, مع التشديد على ضرورة تناسي ما ورد بالاجتماعات السابقة وعدم تداوله مع الآخرين, وذلك درءًا للشبهات والمخاطر, كذا العقوبة المناطة بارتكاب جرم خيانة الأمانة في حال الثبوت....... كما أننا نؤكد على وجوب تجميد الكيان العام لهيئة الناجزين إلى أجل غير مسمى. وتفضلوا بقبول فائق توقيرنا لذواتكم الصالحة.".

صار لغطٌ مؤيدٌ في أغلبهِ لبرهةٍ. ثم انفض الناس إلى أحوالهم, والحياة الخائفة.. الكارثة.. الغامضة. لكن شعورًا قد اعترى الكثيرين بانزياح هم ثقيل عن ضمائرهم. وقال زهادة في نفسه: "سأعلم أين أنتم أيها الغاوون". وقالت الآنسة صافي بالفراغ التابع لانفضاض الناس: "لن تغني فلسفة التاريخ عن الفيزياء العملية مهما يكن من أمور! وسترون". وقال الأستاذ جلال صبحي مدرس الرياضيات الكمية لزوجته وهو يغفو وعلى وجهه ضجر: "وصيتك تزويج البنت". وقال الشيخ أبو همام الواسطي لأحدهم وكان يمضي لحال سبيله: "راحت الآمال في الأحوال فمن بقي كالذي وذر". وقال قائل في أذن جاره: "لا أظن أنها ستنتهي سريعًا, وقد لا تنتهي أبدًا". وصمت المقدس ويصا إلى حين.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن