في الحاجة إلى علم الاجتماع القروي : العالم القروي بالمغرب بين التزام السوسيولوجيا و انتهازية السياسة

عبد الرحيم العطري

2005 / 5 / 18

في الحاجة إلى علم الإجتماع القروي
العالم القروي بالمغرب بين التزام السوسيولوجيا وانتهازية السياسة
إهداء : إلى روح الراحل بول باسكون
عبد الرحيم العطري
يقول ألان تورين بنبرة لا تخلو من تشاؤم، نظرا لما آل إليه زمننا الرديء هذا، "فبدل مشاهدة العلاقات الإجتماعية، فإننا نشاهد في كل مكان منظومات من القمع وثورات أو معسكرات اعتقال" ويضيف قائلا : "إن علينا أن نناضل من أجل تحرير الفاعلين الإجتماعيين والعلاقات الإجتماعية"، ومن هنا يتعين على السوسيولوجي أن يكون بالضرورة أكبر "مناضل ثوري" في زمننا هذا، وفي مجتمعنا المغربي تحديدا!!، وأن تكون السوسيولوجيا عندنا مشروعا معرفيا للكشف والتغيير باعتماد مقاربات جديدة تحاول فهم المجتمع دونما ارتكان للمداهنة أو التواطؤ الذي يسرق من السوسيولوجيا العلمية والفاعلية. فليس بإمكان السوسيولوجيا الحقة أن تمنع نفسها من العمل على انبثاق تضامنات جديدة وألا تكون إلا مشروعا تاريخيا للتغيير والتغير، كما يقول عبد الكبير الخطيبي. لكن ما الذي يتوجب الإتكاء عليه عندما تلوح أمامنا جراح القرية المغربية التي قدر لها أن تندمل بالرغم من كل الحملات والمشاريع والمخططات التي برمجت لها؟!، وما الذي ينفرض علينا الإنصات إليه عندما نعاني الأزمة الكارثية التي وصل إليها عالمنا القروي؟! وكيف السبيل إلى إخراجه فيما هو غارق فيه كرها وخطأ واعتسافا؟!
في الحاجة إلى ...
متى انحازت السوسيولوجيا إلى صوت القاع الإجتماعي، ومتى امتهنت النقد والمساءلة والقراءة الجريئة للمجتمع وتضاريسه بما في ذلك هياكل السلطة الفوقية، متى حدث ذلك بامتياز، حازت السوسيولوجيا سلطتها واكتسبت مشروعيتها المعرفية، لكن إذا ما فضلت "الإستقالة" والإنخراط في التلاعب السوسيولوجي كما يطرحه بول باسكون، فإنها تكون بذلك قد فرطت في مهمتها المركزية!. إن السوسيولوجيا كما يفهمها بيير بورديو هو تحويل مشكلات ميتافيزيقية إلى مشكلات قابلة لأن تعالج معالجة عملية، إنها القدرة على التحويل والتفكيك لأكثر الرموز الإجتماعية تعقيدا وخفاء وبذلك "فعالم الإجتماع هو بالضرورة، وينبغي أن يكون ذاك الذي تأتي الفضيحة عن طريقه". فأمام تفاقم المشاكل الإجتماعية وتعذر حلها إجرائيا على العديد من المستويات، يظل الإنصات لصوت العلم ضروريا، بدءا من أجل الفهم وثانيا من أجل التجاوز واكتشاف سئل أخرى لكشف "غمة" المجتمع. ومن هنا تأتي الحاجة إلى السوسيولوجيا كعلم يتصدى للظواهر الإجتماعية ويهفو دوما إلى اكتشاف شروط إنتاج وإعادة إنتاج "الإجتماعي". لكن حاجتنا هاته تتقوى وتصير أكثر إلحاحا إلى سوسيولوجيا جريئة قلقة « تعنف » الأسئلة الكبرى دونما اعتبار حدود ملونة أو طابوات معينة!.
علم الاجتماع القروي
فما يعتمل في رحاب البادية المغربية وما يثار بصددها من آراء ومواقف تنأى عن الطرح العلمي وتقترب أكثر من الديماغوجية والانتخابوية، كل هذا يجعل الحاجة إلى علم الاجتماع القروي ملحة جدا، خصوصا وأن الانشغال السوسيولوجي بالمجتمع القروي من شأنه أن يساهم في خدمة المشروع النضالي للسوسيوليوجيا الحقة "فالعلاقات السلطوية ما زالت سائدة في العالم القروي، مع ما يطبعها من إكراه ومحسوبية وتطاول على الحقوق" وهنا يحق لنا أن نتساءل بصوت عال: ما الذي نريده من السوسيولوجيا عموما؟ وما الذي نتغياه من علم الاجتماع القروي حصريا؟ وإلى أي حد يمكن أن تسعفنا السوسيولوجيا في تجاوز إشكالات البادية المغربية؟. "إن العالم الفلاحي يمثل مشهد جمود تديره وترعاه النخب المحلية، إنه عالم واقع بلا شك تحت رحمة المخزن الذي نجح كثيرا في عمليات الاختراق والاحتواء ولهذا تظل البوادي هادئة تماما حتى عندما يكون النظام السياسي معرضا لرجات كما يقول ريمي لوفو؟!.
فهذا "الثبات الإجتماعي" من جهة، وهذه الظروف الكارثية من جهة ثانية يستوجبان معا وقفة خاصة من أجل الخلخلة والتفكيك العملي والعلمي؟!، ألا يقودنا هذا الوضع الشاذ الذي ينخرط فيه المجتمع القروي إلى تلك المهمة الأساسية المبحوث عنها في علم الاجتماع القروي؟. إن تسخير السوسيولوجيا للنبش في هموم وآمال المجتمع القروي أمسى مطلبا أكيدا في رهاننا هذا، الذي تعالت فيه آهات الفلاحين وزفراتهم الساخطة، إن خروج الفلاحين اليوم في مسيرة احتجاجية من أجل الماء وفي أكثر المناطق مخزنة يستوجب تغيير زوايا النظر إلى البادية المغربية ويفترض تغيير المقاربات، وقبل ذلك يطرح الحاجة إلى سوسيولوجيا "تبحث في معرفة اجتماعية مسخرة لفائدة الأفراد والجماعات والمؤسسات".
الـ "كلنا" قرويون!
إن الحاجة إلى هذه السوسيولوجيا لا تحددها الظواهر والمشاكل التي تلتهب في أحضان المجتمع القروي، ولا توجبها حصرا محدودية الدراسات والأبحاث التي تصدت لها، وكذا ضرورات توسيع دوائر الإهتمام العلمي بها، وإنما تفرضها فرضا خصوصيات المجتمع المغربي. فكم نتناسى طبيعة هذا المجتمع، الذي هو قبل كل شيء مجتمع قروي "وأن أزمة المجتمع القروي هي في العمق مرآة لازمة لأزمة المجتمع المغربي".إن هذا الطابع القروي الذي يلازمنا بالرغم من كل مظاهر التوسع "المدني"، ينفضح في كثير من الأرقام التي تتصل بالوزن الديمغرافي لسكان البادية (57%) وبنية اليد العاملة في البادية (41%) وكذلك حجم الإنتاج الزراعي (20PIP %) وأرقام الهجرة القروية وعمليات تمدن الأرياف - لغايات انتخابية وهواجس أمنية -. كل ذلك يبرر أننا قرويون جميعا، "فإلى جانب العوامل الاقتصادية والاجتماعية يقول الحبيب المالكي بأن هناك عوامل تاريخية حضارية وسياسية وثقافية، وكذلك عوامل نمط العيش والسلوك والتي تؤكد بأن مجتمعنا ما زال قرويا". إذن ألا تشفع لنا هذه الحقيقة لتثوير السؤال السوسيولوجي حول العالم القروي؟ ألا تدعونا إلى مزيد من الفضح والتشريح؟.
الموقف السياسي
عندما يطرح المشكل القروي، يتعالى على التو الخطاب السياسي كمنتج للحلول السحرية التي يمكن أن تنهي مأساته وتحول الأرياف إلى مدن نموذجية، ولهذا فمن النادر أن نجد خطابا سياسيا "لقبائلنا الحزبية" يخلو من إشارة واضحة إلى ضرورة الإهتمام بالعالم القروي، بل إن هذا الخطاب يصر على اقتراح حلول كثيرة، يتمحور أغلبها حول الكهربة وفك العزلة بشق الطرق وجلب المياه وتشجيع التمدرس، وكأن الإشكالية القروية لدينا تتوقف أساسا على هذه الإختيارات. لكن إذا كان ما تحمله هذه الخطابات ممتلكا للوجاهة، فلماذا لم تخرج الكثير من القرى التي فكت عنها العزلة وحفرت فيها الآبار وغرست فيها الأعمدة الكهربائية، لماذا لم تخرج من فوهة المشاكل البنيوية التي تطوقها؟.
إن الموقف السياسي يتمثل القرية كخزان انتخابي، ولهذا فمقاربته لإشكالاتها تظل محكومة بهذا التمثل، لتكون الحلول بالنسبة لفاعليه محصورة في "تمدين القرية" و"إغاثتها" بإجراءات ترقيعية لا تتعدى حدود التلميع والترقيع!!. في حين تظل المشاكل البنيوية بعيدة عن النقاش والطرح، ليس فقط بسبب صعوباتها التنفيذية، ولكن - وهذا هو المهم - لارتباطها بمصالح المستفيدين من خبرات المجتمع، أي بمصالح مالكي وسائل الإنتاج والإكراه في المجتمع!!. إن سيول الهجرة المتدفقة نحو المدن، وأرقام الموت في "المالح" كلها تؤكد محدودية الحل السياسي الذي يتم التبجح به في كل حين، فالقرى التي صارت أكثر "تمدنا" ما زالت بدورها تفرز المشاكل ذاتها، وما زالت تقبع تحت نفس الظروف الكارثية، وهذا يعني أن حلول الوقف السياسي لم تفدها في شيء ولم تقدها نحو ما بشرت به المخططات والبامج التنموية. إذن هناك إفلاس بين يحيق بالوقف السياسي في معالجة المسألة القروية، فما العمل؟ وكيف السبيل إلى إنقاذ القرية المغربية؟ وماذا تقترح علينا السوسيولوجيا في هذا الباب؟
المسألة العقارية
من المؤكد أن هناك عوامل أخرى - غير هشاشة البنيات التحتية وضعف الخدمات - هي المسؤولة عن "عذابات" العالم القروي، هناك بالطبع عوامل أخرى تتجاوز الكهربة والعزلة وتساهم فعلا في تأزيم الأوضاع القروية. فالبادية المغربية ظلت لزمن طويل على الهامش، إنها مجرد خزان انتخابي يتم تذكره في إطار عمليات تلميع الصورة وتأكيد الاهتمام بالشأن الاجتماعي!، وهذا التعامل الانتخابي يساهم بدوره في تعميق جراح القرية ويؤدي بالتبعية إلى إفراز الكثير من الظواهر الباثولوجية!. هناك إذن عوامل سياسية وثقافية واجتماعية وأخرى عقارية تتداخل بنيويا ، تؤسس لهذه الأوضاع، إلا أن العامل العقاري يظل من أبرزها وأكثرها تأثيرا، وهذا ما انتبهت إليه السوسيولوجيا وتصدت له بالدرس والتحليل، ذلك أن الهياكل العقارية في البادية المغربية "تتسم من جهة بتفتيت الملكية على مستوى جماهير الفلاحين الصغار، كما تساعد من جهة أخرى على تمركز الملكية بين أيدي أقلية من كبار الملاكين". فمن 5 إلى 10 من هؤلاء الذين استفادوا من التركة الإستعمارية، يملكون حوالي 60% من الأراضي، في حين يقتسم أزيد من 40% من الفلاحين قطعا فلاحية لا تتجاوز نصف الهكتار!!. هناك ملكيات شاسعة تحت رحمة ملاكين كبار معدودين، وبالمقابل هناك ملكيات صغيرة/ضيقة تتوزع على ملايين الفلاحين الصغار الذين تكالبت عليهم الظروف المناخية والقروض والضرائب والسخرة والفريضة وما إلى ذلك من ألوان الإقطاع السائد محليا!!.
وهذا المشكل العقاري الذي يتصل أيضا بأنماط أخرى للملكية، كأراضي الجموع والكيش والوقف، هو المسكوت عنه أبدا في معالجة الشأن القروي، ليس لأنه عسير الحل، ولكن لأنه يهدد في العمق مصالح الذين هم فوق!! ولهذا يبدو منطقيا أن وضع حد لمأساة العالم القروي لا يكون إلا بالتعاطي مع المسألة العقارية، بدءا بمبضع مغاير يراهن على تقسيم الثروة من جديد، وإلا فسيول الهجرة متواصلة نحو المدن ونحو مقبرة المتوسط!، لكن هل في مقدور "المسؤولين" الانتباه إلى هذه المسألة والانتهاء بالتالي من حقن القرية ببرامج تنموية معطوبة؟، هل يمتلكون جرأة الفعل!.
... في خدمة المخزن!
لقد استطاع المخزن بفضل مراهنته على الأجهزة القمعية أن يجعل الفلاح خادما طيعا له، يأتمر بأوامره وينتهي بنواهيه، واستطاع أيضا بالقوة والفعالية أن يساهم في خلق تمثلات خاصة في المجتمع القروي تحدد طبيعة المخزن وعلاقاته وتعامله مع السكان في ضوء المعطيات والمتغيرات، فالبادية ما زالت تعتبر حقلا أثيرا للتجارب المخزنية "ومن خلال معرفتنا مثلا للدوار وعلاقته بالسلطة، يمكن أن نعرف الواقع السياسي بالبادية المغربية بشكل عام، فعلى مستوى الدوار يتم تصريف أي قرار كيفما كان شأنه ومصدره، ويتم تجريب أي أسلوب مخزني كيفما كان اتجاهه وهدفه!!.
وهكذا فحتى في حالة الطغيان وتنامي ظواهر القمع المخزني، فإن العالم القروي يمثل مشهد جمود، وهذا ما يدعم طرح "واتربوري" الذي يقول بأنه بالرغم من إدخال وتطوير علاقات اجتماعية اقتصادية جديدة، يبقى الجمود هو السمة الأساسية للمجتمع المغربي، فالبرغم من إنشاء المحاكم الإدارية وارتفاع حرارة الحديث عن حقوق الإنسان، فالفلاح المغربي لا يجرؤ على مقاضاة المخزن ومواجهته، ويكتفي عندما يمسه الضرر بعبارة "يدعيه لله"، ذلك "أنه أمام جمادية العالم القروي وتفقيره، لا يظهر بعد أن الفلاحين قادرون على ردات فعل تتجاوز مخارج الزوايا والتصويت العامي" ومنه يمكن القول بأن المخزن يتمكن فعلا من هزم المجتمع القروي واحتوائه جيدا معتمدا على أسلحته الإيديولوجية والقمعية التي تقوده في النهاية إلى حقيقة مرة مفادها أن القرية في خدمة المخزن، فمن خلال تكسير البنيات القبلية وإنتاج تقسيمات إدارية وتقطيعات انتخابية بهواجس أمنية، ومن خلال خنق الحراك والتحول داخل المجتمع القروي، يتمكن المخزن من تجذير مكانته وتكريس الأوضاع لصالحه! "فالقرية تشكل في النهاية مجرد خزان للثروات وسوق استهلاكية وخارطة انتخابية، ولمواصلة استغلالها لابد من الحفاظ على تهميش القرية وإنسان القرية على مختلف الأصعدة" وهذا ما يعيه ويعمل به المخزن في هذا الهنا!!.

بول .. الراحل خطأ!!
البادية الجريحة تائهة إذن بن الموقف السياسي والطرح السوسيولوجي المهمش، وفي انتظار الحسم/البديل، للقطع مع التنمية المعطوبة، نتذكر الراحل خطأ بول باسكون، نتذكر أبحاثه حول الظاهرة التقايدية، المسألة الزراعية، نظام الري، المسألة العقارية، وما إلى ذلم من القضايا المعبرة بقوة عن مأساة العالم القروي، نتذكره أيضا وهو يقول "بأن مجرد حضور السوسيولوجي في الميدان يغير الوضع الراهن ويقلق شيوخ القبيلة، ويداعب آذان المسودين، وإذا أراد فحسب أن يفهم عمل القوى الاجتماعية، فإن عليه أن يساعد بالضبط على ولادة تعبير أولئك الذين يرغمهم ميزان القوى المحلي عادة على الهمس إن لم يكن الصمت". ولهذا نقول بأننا مدعوون إلى استئناف الإجتهادات الباسكونية، ومطالبون بالإنصات إلى الرأي السوسيولوجي في معالجة الجراح القروية، فالسوسيولوجيا كما يقول تورين، لم تعد سجينة الحفاظ على النظام وكبح جماح النضال، لقد تحولت إلى سلاح ضد القمع والاستغلال، فمتى نجعلها هنا والآن تناضل من أجل الفلاح الذي أثخنته جراح التنمية المعطوبة!!، هل القيام بذلك يدخل في خانة المحظور؟ فلنسأل روح الراحل خطأ واعتسافا بول باسكون؟!!.
باحث في علم الاجتماع من المغرب



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن