إشكالية التحول الديمقراطي في العراق- الفصل السابع

عبدالوهاب حميد رشيد
wahab.rashid@gmail.com

2013 / 7 / 6


المجتمع المدني
يجسد المجتمع المدني القائم وفق الأسس الحضارية رسالة اجتماعية ومدرسة وطنية باتجاه نشر قيم المبادرة والتطوعية والخيرية وحب البشرية والتوفيق بين المصالح المتباينة من أجل الصالح العام وتشجيع الحوار وقبول، بل وتشجيع
الاختلاف، و تدريب الأعضاء على الممارسة الفعلية للقيم الديمقراطية وتخريج القادة لتغذية البنية المؤسسية. وهو عين ساهرة على ضمان الحرية وتنميتها في سياق نشاط منظماته الاجتماعية المستقلة ذاتياً عن الحكومة. كما أنه القاعدة التي تساهم بفعالية في إعادة بناء الأعمدة الأربعة الأساسية للبيئة الاجتماعية: التعامل السلمي، العلنية، التعددية، النسبية.
من هنا كانت منظماته تقوم على العضوية الأفقية، أي على الأسس الوطنية بعيداً عن المواصفات الوراثية أو المكتسبة بالعادة أو بالتقليد. وبناء الولاء للوطن قبل الولاء للجماعة. باختصار أنه النصف المتلاحم والوجه المشرق للعملية الديمقراطية.
1- الجوانب المفاهيمية
هناك اتفاق على أن فكرة المجتمع المدني حديثة نسبياً، ظهرت وتطورت على أيدي الفلاسفة الأوربيين منذ القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر.(1) بينما وجدت باكورة تطبيقاتها في العالم الجديد (الولايات المتحدة الأمريكية) منذ منتصف القرن التاسع عشر.(2)
غاب مفهوم المجتمع المدني لغاية نهاية الحرب العالمية الثانية، وعاد إلى دائرة الجدل السياسي بعد زوال الفاشية. وساهم في تطوير أدبياته، بخاصة من وجهة النظر الماركسية الفيلسوف والزعيم الشيوعي الإيطالي انطونيو غرامشي (1891- 1937). وكان السؤال الذي واجهه يتعلق بكيفية وصول الأحزاب الشيوعية والاشتراكية في المجتمعات ذات التقاليد الديمقراطية البرجوازية إلى السلطة، وإلى أي مدى يمكن أن تتلاءم ستراتيجية الانقلاب- الثورة التي اتبعها البلاشفة في روسيا مع الظروف المتميزة للمجتمع الإيطالي؟ وقدم في هذا المجال أفكاراً مثيرة باتجاه تطوير مفهوم الثورة في الفكر الماركسي وممارسات الأحزاب الشيوعية. لاحظ أن تمركز السلطة الفردية/ النخبوية في روسيا القيصرية (والشرق عموماً) سهلت حركة الانقلاب- الثورة التي قادها البلاشفة الروس، في حين أن السلطة في المجتمع الإيطالي (والغربي عموماً) تقوم على تجزئة مراكز القوة وتعددها (اللامركزية) بحيث لا تسمح بقيام حركات انقلابيةً. من هنا ركز على المجتمع المدني من خلال السيطرة الثقافية للأحزاب الماركسية- الاشتراكية وفي سياق جبهة عريضة (كتلة تاريخية) من أجل وصول الطبقة العاملة إلى السلطة وتحقيق التحول الاشتراكي. وهكذا نقل غرامشي نضال هذه الطبقة من حركة انقلابية- ثورية عنيفة لحظية مفاجئة إلى ثورة ثقافية ايديولوجية سلمية في ظلِّ جبهة تاريخية عريضة تضم الطبقة العاملة وحلفاؤها وفي مجتمع مدني مفتوح تسوده علنية النضال.(3)
يتطلب هذا القطاع توفر عدد من الشروط التي تحظى بالقبول العام: التطوعية voluntary, عدم الربحية (النفع العام)، قطاع مستقل (الاستقلال الذاتي)، التوفيق بين المصالح المتباينة من أجل المصلحة العامة، تجسيد الفردية وحقوق المواطنة, المشاركة الجماعية، المحبة (حب الناس- البشرية) philanthropy والخيرية، قبول الاختلاف والتنوع، التسامح واللطف، المساعدة المتبادلة (التضامن).(4) وذلك في وجود عقد اجتماعي مؤسسي (دستور) يوفر حكومة حاضنة لمختلف القوى والمصالح الاجتماعية، وتهيئ فرص مشاركة متوازنة بطريقة تحمي كافة الفرقاء. وبدون مثل هذه القوة المتبادلة المتوازنة فإن روابط المجتمع المدني سوف لا تفعل سوى تسهيل حالات التجزئة. إن ربط حركة انتعاش منظمات المجتمع المدني ببنية دستورية، ناجم عن عدم قدرتها ممارسة مهامها الاجتماعية بطريقة سوية في ظل الأنظمة الاستبدادية. من هنا تشكل دولة القانون شرطاً مسبقاً ومحورياً لبناء الركائز الصحيحة لنمو مجتمع مدني بمفهومه المعاصر.(5)
يرتبط نمو وازدهار المجتمع المدني مباشرة بنمو قيم وممارسات الحضارة الحديثة بما في ذلك مبدأ الفردية، أي التعامل مع الفرد كما هو في شخصه بغض النظر عن انتماءاته. علاوة على درجة الحراك الاجتماعي من الأواصر والعلاقات المعنوية المجردة القبلية إلى العلاقات والأواصر النفعية- المادية التي تنتجها المدينة الحديثة، ومن العلاقات الشخصية (العائلية- الأبوية) إلى العلاقات الوظيفية. وهذا يعني التخلي عن التقاليد والعادات والأوهام القبلية مثل التفوق والتفاخر والنقاء والتحدي والقوة والانتصار والهزيمة، ورفض الجمود والتقوقع لصالح التغيير والتطوير المستمر للحياة الاجتماعية. والتحول من القيم الأبوية للحاكم السيد أو الراعي- الرعية إلى سيادة الشعب، وبناء نظام متكامل للحياة تتأسس فيه علاقات إنتاج تتجاوز النمط البدائي الذي يخرج من الريف.(6)
تختلف فكرة التنظيم الذاتي لمنظمات المجتمع المدني عن التنظيم الذاتي القائم في المنظمات التقليدية. فالقبيلة تنظيم عمودي تضم في عضويتها أفراداً متجانسين على أساس العرق (الدم) وترتبط العضوية فيها بالولادة والنسب. بينما تكون العضوية في منظمات المجتمع المدني مفتوحة لكافة المواطنين على أساس قدرات وكفاءات ومهارات مكتسبة. كذلك تختلف المؤسسة الدينية- الطائفة عن المجتمع المدني في كونها تقليدية تضم عناصر متجانسة (العقيدة) وتقوم عضويتها منذ الولادة.
والمجتمع المدني يتطلب الاستقلال عن إشراف الحكومة المباشر، والتنظيم التلقائي وقيم المبادرة. ورغم أنه يرفع من شأن الفرد ويؤكد على المذهب الفردي، لكنه ليس مجتمع الفردية، بل يقوم على التضامن عِبْرَ شبكة واسعة من المنظمات. ومع أنه لا يسعى للوصول إلى السلطة, وبالذات ما يتعلق بالمنظمات المهنية، فهي تقوم بدور سياسي غير مباشر، لأِنها تمارس مهمة تنمية ثقافة الحقوق والواجبات بما يدعم أسس التحول والبناء الديمقراطي.(7)
وتعمل المنظمات التطوعية مع اتساعها في مجال الخدمات العامة والشؤون الاجتماعية على سحب أجزاء متزايدة من سلطة الحكومة. من هنا توفر فرصاً متزايدة لتعزيز آلية التعاون والتكاتف الاجتماعي. وفوق ذلك التخفيف من غُلّْْ السلطة والقوة، والحد من شهوة عناصر الحكم تحقيق المزيد من السلطة.
تعتمد حرية المجتمع على الدرجة التي يرغب فيها المواطنون أن يكون لهم أثر ودور في شؤون مجتمعهم. يقول Saul Alinsky "لا يستطيع الناس نيل حريتهم ما لم يرغبوا بالتضحية ببعض مصالحهم الذاتية لضمان حرية الآخرين... إن مشاركة المواطن تولد قوة معنوية عالية في مجتمع يقوم على إرادة التطوعية".(8)
كما يتطلب المجتمع المدني في مفهومه المعاصر "مواطنة فعالة" تشكل أساس المشاركة وبناء المجتمع الطيب good society. يذكر David Mathews "نحن نتصور أن الجمهور معتمد على حكومة طيبة... لكننا نغفل كم أن الحكومة الطيبة بحاجة إلى جمهور طيب".(9) والنقطة المركزية في المجتمع الطيب هي إطلاق الحريات العامة في ظل سيادة القانون، وتحسين مستوى الوعي أفقياً وعمودياً من أجل حماية الناس من السيطرة التحكمية والمصالح الراسخة.
وتوفر المواطنة آلية العيش المشترك وسط التنوع والاختلاف، وتولد جانبي الواجبات والحقوق. من هنا يتحدد مفهوم "المواطنة الفعالة" بالمواطن المشارك في المجتمع السياسي الذي تقوم نظرته إلى الوطن أكثر من مجرد الحصول على ثماره. أي إعطاء وزن أكبر للواجبات والالتزامات من الإصرار على الحقوق فقط. "لا تسأل ماذا يمكن للوطن أن يفعل لك، بل أسأل ماذا تستطيع أنت أن تفعل من أجل الوطن".(10)
تبدأ قائمة التزامات المواطنين، في الغالب، مع التصويت. فكلما زاد حضور المواطنين في الانتخابات والنشاطات السياسية عبّر ذلك عن فعالية المواطنة. كما أن وجود قاعدة إدراك عامة بالمصير المشترك تعزز من فعالية المجتمع المدني. وجِدَ تسجيل لأِهل أثينا يقول: سنناضل إلى الأبد من أجل المثل والأفكار المقدسة للمدينة. سنعمل على نقل هذه المدينة... نحو الأفضل، وأكثر جمالاً مما كانت عند انتقالها إلينا. وفي محاولة متأخرة تمكن Edward Gibson من تشخيص أسباب عدم استمرار مواطني أثينا على ولائهم لتلك المبادئ والأهداف النبيلة، بقوله "وأخيراً، أرادوا الأمن أكثر من الحرية. أرادوا حياة مريحة... فخسروها جميعا: الأمن، الحياة المريحة، الحرية... عندما امتنع مواطنو أثينا عن العطاء لمجتمعهم، بل طالبوا المجتمع بمزيد من العطاء، وعندما رغبوا أكثر من أي شيء بالحرية، ولكن حرية التحرر من المسؤولية، عندئذ توقف مواطنو أثينا أن يكونوا أحراراً".(11)
يؤكد James Luther Adams على أن تجزئة القوة power، وتوزيع السلطة authority، أي اللامركزية decentralization، عنصر جوهري في المجتمعات الصحية. إنه المفتاح المركزي للمجتمع الديمقراطي لكونه الآلية التي تحقق وتصون الحرية. إلا أن هذا الأمر يتطلب وعياً وطنياً حضارياً وبناء حكومة قوية تضمن حفظ النظامorder. وبنفس الأهمية، تتطلب تجزئة السلطة وجود عقد اجتماعي مؤسسي لتوزيع السلطة بين كافة الفرقاء على نحو مواز وفي سياق المبادئ القانونية. وبدون مثل هذه القوة التبادلية المتوازنة نسبياً ووجود حكومة قوية ووعي "المواطن الفعال"، فإن رابطة المجتمع المدني لن تفعل، في هذه الحالة، سوى تسهيل عملية التجزئة.(12) يُضاف إلى ذلك:
.. رغم أن المجتمع المدني يقوم أساساً على بناء حكومة أقل مركزية، هناك حاجة اجتماعية مستمرة لوجود عناصر نزيهة تتحمل أمانة المسؤولية وإمكانية محاسبتها.
.. التنسيق بين المسؤوليات العديدة التي تخص الحكومة وتلك التي هي محل مشاركة الحكومة والمجتمع، تتقدمها الخدمات العامة والمساعدات الإنسانية.
.. في ضوء مشاركة وتنسيق الحكومات المحلية مع منظمات المجتمع المدني غير الربحية، تبقى واحدة من المشكلات المقلقة هي عدم الرضا عند ضعف فعالية الحكومة وحصيلة الديمقراطية. وتكون المخاطرة عالية عندما يلمس جمهور الناس أن الديمقراطية تحولت إلى أسعار أعلى، بطالة أوسع، دخول واطئة، وتراكم أرباح الأقلية، إلى جانب الفساد الإداري وتزييف الانتخابات تحت غطاء التحضر. إذن، لماذا التصويت إذا كانت هذه هي النتيجة؟ بل ولماذا الديمقراطية أصلاً!؟(13)
والمجتمع المدني يتصف بالاستقلال الذاتي، لكن ذلك لا يدعو إلى اعتبار منظمات هذا القطاع في خصومة مع الحكومة، بل أن التعاون وبناء الثقة مسألة مطلوبة لسلامة أداء هذه المنظمات وكسب مزيد من الثقة والسلطة. وضرورة عدم التصرف بما يشين سمعة هذه المنظمات في ممارساتها وسجلاتها. "هؤلاء الذين يفترضون أنهم يخدمون الصالح العام، المطلوب منهم كسب ثقة جمهور الناس".(14)
يهدف المجتمع المدني إلى تطوير مشاركة المواطن في الرقابة على شؤون الحكومة, ليس فقط أثناء الانتخابات العامة الدورية, بل أن تكون المشاركة يومية مستمرة. يقول توماس جيفرسون: "أين كل مواطن مشارك في شؤون الحكومة, ليس فقط في الانتخابات ليوم واحد في السنة, بل كل يوم... المواطن المستعد ليتمزق قلبه, على أن تُسلب منه سلطته من قبل قيصر أو بونابرت".(15)
ما هي علاقة المجتمع المدني بالمجتمع الرأسمالي؟
تنطلق فكرة المجتمع المدني من أن النظام الاقتصادي الرأسمالي المعاصر لا يضمن مجتماً إنسانياً يقوم على المحبة واللطف والتعاضد، بل ينتج ما هو مصطلح عليه بلغة ماركس "الاستِغلال" المولد للحقد والتنافر والتناقض والصراع. من هنا يوفر المجتمع المدني مجالاً لمحاولات سلمية باتجاه تقليص الفجوة بين المساوئ التي تتولد عن هذا النظام وبين العلاقات الإنسانية للتحضر (التمدن). عليه، فرغم النظر إلى المجتمع المدني كونه، من الناحية التاريخية، ملاصقاً بشكل أوتوماتيكي لمنطق النظام الرأسمالي إلا أنه ليست هناك علاقة ملازمة بالضرورة بين الرأسمالية والتمدن. الأكثر من ذلك أن المجتمع المدني لا يعني بذاته الحرية والديمقراطية، بل أنه مجتمع إنساني حضاري يرنو إلى جعل الحرية والديمقراطية أمراً واقعاً ونافعاً ومرغوباً باتجاه المعاصرة.(16)
ما هي العلاقة بين الديمقراطية وبين المجتمع المدني؟
رغم ضرورة المجتمع المدني للديمقراطية إلا أنه ليس مرادفاً لها. الأمر المهم هو الديمقراطية أولاً ثم المجتمع المدني، مع ملاحظة أن وجودهما معاً يولد تأثيرات إيجابية متبادلة مضاعفة. أي علاقة متكاملة دون أن يتحمل أحدهما إلغاء الآخر. بكلمات أخرى أنهما متكاملان وليسا متنافسين. وتأتي أولوية الديمقراطية في كونها توفر البيئة المؤسسية (الحكومة الدستورية) لبناء المجتمع المدني المعاصر.(17)
كما تتجسَّد علاقة المجتمع المدني بالديمقراطية في مجالات عديدة. فالديمقراطية في غياب المجتمع المدني تقوم على خط واحد من القمة إلى القاعدة top- down. وفي وجود المجتمع المدني عندئذ يتحقق بناء الخط الآخر من الأسفل إلى القمة bottom-up, وبذلك تسير عملية التحول الديمقراطي وفق خطين متوازيين متكاملين. من هنا حق القول: أن المجتمع المدني هو محور بناء الديمقراطية. وتظهر هذه العلاقة أيضاً في أحد الأركان الرئيسة للمجتمع المدني: حق الاختلاف في الآراء والعيش وسط التنوع، أي التعددية التي هي في ذاتها إحدى الأعمدة المركزية للديمقراطية. يضاف إلى ذلك، وارتباطاً بالحياة الديمقراطية الداخلية لمنظمات المجتمع المدني، فهي تمارس دور مدارس سياسية للتنشئة على الديمقراطية، وهيئات تثقيفية وتدريبية، ومخزناً لا ينضب لتوفير أجيال من العناصر القيادية لمختلف الهيئات المؤسسية في الساحة السياسية. من هنا حق النظر إلى المجتمع المدني كونه دعامة underpinning ومدرسة لتنشئة الديمقراطية.
بدأت فكرة المجتمع المدني نسمة سياسية حضارية منعشة اتُخِذت من قبل أنصار الحرية شعاراً للديمقراطية والحقوق المدنية، واعتُبِرَت في أوربا الأكثر ملائمة لليسار، واستُخدِمت في الولايات المتحدة من قبل السياسيين لتحسين برامجهم الانتخابية. وكل هؤلاء وغيرهم تعاملوا مع الفكرة وفق مفاهيمهم وتفسيراتهم المتباينة واستثمروها بما يتفق مع أفكارهم ومصالحهم وخرجوا منها حسبما يرغبون. وبذلك اتخذ هذا المفهوم عِبْرَ مسار تطوره دلالات مختلفة وصوراً ومعاني متباينة. وهنا يتساءل البعض: هل كانت الفكرة أصلاً مثالية نبيلة أم إمكانية واقعية؟ وهل كانت ضرورية؟ وهل تضمنت أي جديد أبعد مما هو متداول في حقل الحرية والديمقراطية؟ وهكذا، فرغم أن المجتمع المدني أصبح فكرة واسعة الانتشار إلا أنه لا زال ضبابياً. بل وحسب Benjamin Barbar، كلما زاد استخدام لفظة المجتمع المدني في السنوات الحديثة، أصبح أقل وضوحاً. من هنا يصعب الوقوف عند تعريف محدد يحظى بالاتفاق العام.(18)
تُعرِّف غالبية المدارس المجتمع المدني كونه حيزاً أو فضاءً يقع وسطاً بين الحكومة وبين الأفراد، يطل ويراقب الدور الرئيس الذي تمارسه الحكومة لصيانة الحقوق والحريات الأساسية، وتشكل منظماته حلقات وصل بين العائلة والحكومة، وتوفر للمواطن فرص تعزيز العلاقات الإنسانية ودعم الحوافز الاجتماعية والاقتصادية لصالح بناء الديمقراطية. وهناك من أضاف قطاع الأعمال والمشروع الحر باعتباره عنصراً حيوياً في تنمية وتفعيل المجتمع المدني.. وقيل أن المجتمع المدني شبكة منظمات مستقلة ذاتياً تتواجد على المستويات المحلية والوطنية والدولية، وتمارس دوراً كبيراً في ضمان السلام والأمن بمفهومه الواسع.. وارتبط المجتمع المدني بالنسبة إلى العديد من الليبراليين بالحركات الاجتماعية خارج محيط الحكومة وشرعية تقليص أجزاء من سلطتها.. ويشير أيضاً إلى المنظمات المنشأة ذاتياً التي تغطي المجال العام للمجتمع، ملتزمة بمجموعة قيم ونواميس مشتركة تشكل منطلقاً للأفراد والجماعات في متابعة المصالح المتنوعة. وهذه المنظمات تقوم على قاعدة قانونية تنظم المصالح المتداخلة. ويتضمن هذا التعريف أن المجتمع المدني يقوم على قواعد مؤسسية منظمة اجتماعياً، ويوفر ناد مستقر للتعبير عن المصالح المختلفة والتوفيق بينها.(19)
وأخيراً، يحدد الدكتور سعدالدين إبراهيم مفهوم المجتمع المدني كونه "مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها، ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والإدارة السلمية للتنوع والخلاف". بمعنى كل ما هو غير حكومي، وكل ما هو غير عائلي (وراثي). وهو تنظيم جماعي يضم أفراداً اختاروا عضويتهم بمحض إرادتهم، ويحوي الأجزاء المنظمة من المجتمع. أي أنه مجتمع العضوية: أحزاب، نقابات، اتحادات، غرف تجارية وصناعية وتجارية، تعاونيات، جمعيات وروابط ونوادي. وهذا التعريف يتضمن ثلاث مقومات محورية: الفعل الإرادي.. التنظيم الجماعي.. الركن الأخلاقي أو السلوكي. (20)
وفي هذا المجال يمكن إبداء أربع ملاحظات: الأولى إن هذه الاختلافات تعود إلى أن مفهوم المجتمع المدني، كما هو حال مفهوم الديمقراطية، ليس مصطلحاً علمياً يمكن بالتالي تعريفه بصورة منهجية، بل هو مجرد تعبير لغوي. وحتى في هذه الحالة، يكتنفه الكثير من الغموض من حيث شموليته وشروطه ومتطلباته وأهدافه ووظائفه الشاملة وغير المحدودة. وبالنتيجة فهو قابل لتفسيرات مختلفة. والثانية أن كل مجتمع يمتلك قدراً من القيم والتقاليد بالعلاقة مع القيم المدنية والديمقراطية والتي يمكن تطويرها وتهذيبها باتجاه التحديث والمعاصرة. والثالثة ليس المجتمع المدني قالباً جاهزاً يمكن استيراده وإقامته، بل أنه جملة أفكار وممارسات قائمة في كل مجتمع حسب مرحلة تطوره، وهي تتطلب إنهاضها وفق بنية مؤسسية دستورية ملائمة وظروف المجتمع ليُصار إلى تطويرها بالتوافق مع المسيرة الديمقراطية. والرابعة أن المجتمع المدني ليس حكراً على الديمقراطيات الليبرالية الغربية، بل هي آلية يمكن أن تجد تطبيقاتها في الأنظمة الاجتماعية المختلفة، كل حسب ظروفه ومرحلة تطوره، ومستوى تطبيقاته المؤسسية.
يمكن النظر إلى المجتمع المدني في مفهومه المعاصر ومواصفاته وأهدافه بِأنه يعبر عن رسالة اجتماعية من القيم والأفكار والممارسات الحضارية المساهمة في البنية التحتية للمسيرة الديمقراطية، ويقوم على مبادئ التطوعية والاستقلال الذاتي والمواطنة الفعالة والمشاركة العاملة على التوفيق بين المصالح الخاصة المتباينة من أجل الصالح العام، وفي ظل حكومة قوية عصرية ديمقراطية لا مركزية تتحمل المسؤولية والمحاسبة. وبما يؤدي إلى بناء وتحسين رأس المال الاجتماعي. وفي سياق إعادة تشكيل البيئة الاجتماعية بنشر مبادئ العلنية والنسبية والتعددية والتعامل السلمي. ويضم مجموعات من منظمات النفع العام التي تقوم العضوية فيها أفقياً.
المجتمع المدني وفق هذا التوصيف لا يعني كل أفراد المجتمع من العناصر المدنية، بل ينحصر فقط في العناصر الواعية الفعالة المنظمة من المواطنين. وينقسم إلى جزئين : أولهما المنظمات المهنية التي لا تتعامل مع السياسة مباشرة.. وثانيهما المنظمات السياسية الهادفة الى كسب السيطرة على الحكومة أو المشاركة فيها أو ممارسة دور المعارضة. ولا تدخل في منظمات المجتمع المدني المجموعات التي تقوم العضوية فيها وفق أسس تقليدية. رغم أن هذا لا يعني إهمالها أو محاربتها، طالما تشكل الأغلبية في المجتمعات التقليدية، بل الاعتراف بها ورعايتها ونشر القيم والأفكار والممارسات الحضارية بينها على طريق تحييدها وتطويرها لتتحول تدريجياً من منظمات طاردة للقيم والأفكار الحضارية إلى حاضنة لها أو متعايشة ومتكيفة معها.
يُصنف هيكل المجتمع المدني إلى عدة مجموعات: الفرد, الحكومات المحلية، الحكومة المركزية، قطاع الأعمال، القطاع التطوعي. وتشكل المنظمات التطوعية الأكثر قُرباً لهذا المجتمع. من هذه الزاوية يمكن تصور المجتمع المدني نقطة وسطية تشكل بؤرة مركزية لتقاطع مختلف الهياكل المؤسسية، حيث تتعاون هذه المؤسسات مع بعضها لاحتضان وحماية الفرد وضمان الفرص المتساوية للحريات العامة.(21)
ظاهرة اتساع هذا القطاع ليغطي في وظائفه وأهدافه كافة المجالات المجتمعية، في حين يتسم بصغر حجمه ورخاوته vulnerable حتى في أكثر البلدان الديمقراطية الليبرالية المتقدمة، تضعه أمام صعوبات جمَّة. كما أن مشكلات المجتمع المدني تأخذ أشكالا مختلفة في مجتمعات مختلفة. ففي المجتمعات التقليدية ذات الأنظمة السياسية السلطوية تبرز عوائق المركزية وغياب أو ضعف المشاركة، ويمارس النظام نفسه استئصالها أو وضعها تحت سيطرتها لتوفر لها شيء من الشرعية. وفي البلدان المتقدمة هناك مشكلات الأجهزة البيروقراطية، وتزايد الفجوة بين من يملك وبين من لا يملك، ووجود منظمات غير صحية: العنصرية، العنف، السوق السوداء. كذلك فإن العملية الاجتماعية باتجاه تنمية قيم المجتمع المدني لا تسير بصورة طبيعية أو حتمية، بل تتطلب جهوداً واعية لتحريكها والحفاظ على مسيرتها.(22)
من المشكلات الأخرى: انتشار قيم الأنانية والنفور والسخرية.. عدم الرغبة في المشاركة، لأِسباب تتراوح بين الحرص على المصلحة الذاتية وبين الخوف من فقدان الاستقلال الفردي.. عدم الرضا عن حصيلة العملية التعاونية.. القيود الحكومية في ظروف صراع التوازن بين الحرية والنظام.. غياب التسامح والقدرة على الاحتمال وانتشار عوامل اليأس والسلبية بين الناس.. الفظاظة في التعامل مع الآخرين.. انتشار مظاهر الانحراف السياسي والفساد الاقتصادي.. ويبقى الخطر الأكبر عدم المبالاة، وعدم المشاركة والاختفاء البائس وراء الذرائع pragmatism والانغماس في الذات self-induglence. هذه الظاهرة التي تقبع في المجتمعات التقليدية, بخاصة, وتجسد أولئك المواطنين ممن ينظرون إلى الامتيازات والحقوق دون ممارسة مسؤولياتهم لحمايتها. يقول Fredrick Douglass "هؤلاء الذين يدعون أنهم مناصرون للحرية، وفي نفس الوقت يرفضون الاقتراب منها، هم أناس يريدون أن يستأثروا بالمحصول دون أن يساهموا في حرث الأرض. إنهم يرغبون في عبور المحيط ولكن دون أن يتعرضوا لهديره الصاخب".(23)
بالإضافة إلى جدار السلطة الحكومية والمواقف البيروقراطية، تظهر مشكلة بروز المصالح الخاصة الراسخة التي يمثلها أصحاب المال ويشكلون مجموعات من اللوبي أو جماعات الضغط ممن يقبعون في الخلف ويحركون آليات وأدوات السياسة وفق مصالحهم، بما فيها التأثير في الانتخابات، والتي تجد لها مثالاً بارزاً في الولايات المتحدة الأمريكية. وهناك دعوات بضرورة إبعاد المال عن السياسة قبل أن يطرد المال السياسة. لكن هذه الدعوات تبقي مجرد لفظة كلامية في غياب إجراءات حقيقة لتقليص فجوة الدخل- الثروة. يضاف إلى ذلك تقييد وتحديد المصروفات الانتخابية وربطها بالخزينة العامة.
إن تكنولوجيا الاتصالات الحديثة مثل التلفزيون والكومبيوتر- الإنترنيت، تُقدم فرصة ضخمة لتطوير أدب التحضر. وهناك مثل رائع لاستخدام هذه التكنولوجيا في معركة تحريم الألغام الأرضية land mines، يتعلق بالفائزة المشاركة لجائزة نوبل للسلام Jody Williams، التي بدأت مسيرتها بجهاز كومبيوتر- إنترنيت لوحدها بتحريك هذه المشكلة على نطاق العالم. وبعد ثلاث سنوات نجحت في محاولاتها الفردية لغاية توقيع اتفاقية دولية بتحريمها.
لكن هذه الإيجابيات ترافقها سلبيات ناجمة عن سوء الاستخدام. وهذا يتطلب عدم السماح بإغراق أفكار الشباب وقتل أوقاتهم في أشياء جانبية. إن ظاهرة سوء استخدام التكنولوجيا الحديثة، خاصة بالنسبة للأطفال والشباب، ومنها التلفزيون، دفعت البعض إلى القول بِِِأن أضخم المعوقات التي تواجه مهمة مشاركة الناس في قضايا المجتمع، هو الانغماس الفائق في متابعة برامج التلفزيون. وهنا يصرخ Robert Putman بقوله: إن "المجرم هو التلفزيون" الذي يسبب أضراراً برأس المال الاجتماعي نتيجة "قتل الوقت". وهناك من يؤكد على أهمية تنمية إرادة الإنسان human will، ذلك أن العلم- التكنولوجيا لا يُعيد صنع عقل الإنسان. من هنا وجب عدم السكوت أو السماح لسيطرة التكنولوجيا على عقله، لأِن تبعية إرادة الإنسان للتكنولوجيا يمكن أن تقود إلى مخاطر تدميرية بشرية ومادية.(24)
تزداد فرص الشباب مستقبلاً لبناء مواطنتهم الفعالة والمساهمة في تحمل المسؤوليات المشتركة كلما عاشوا في بيئة عائلية قريبة من المجتمع المدني. لوحظ مثلاً أن الطفل الذي يعيش في عائلة من أبوين متطوعين في منظمات المجتمع المدني، ترتفع احتمالات مشاركته التطوعية مستقبلاً إلى 75%، وتصبح هذه النسبة 65% إذا كان أحد الأبوين متطوعاً، وتنخفض إلى 40% إذا لم يكن أي منهما مساهماً في أعمال التطوع.(25)
وفي ختام هذه المناقشة تبقى مشكلة اجتماعية خطيرة مؤثرة سلبياً في حركة الديمقراطية والمجتمع المدني، بل وفي المسيرة الحضارية للمجتمع ، وبالذات في المجتمعات التقليدية، ألا وهي مشكلة التمييز ضد المرأة. هذه المشكلة التي تجعل من نصف المجتمع مشلولاً، بل وتجعل من كافة الحلول المقترحة لتحسين تنشئة الأجيال المستقبلية حلولاً ناقصة أو غير ذات جدوى. وهذه المعضلة وحلولها كما في بقية المعضلات الاجتماعية الخاضعة للعادة والقيم والتقاليد، ليست حصيلة لحظية، بل لها عمقها التاريخي، وتتطلب معالجة نمطية باتجاه التطوير الحضاري للثقافة والقيم المجتمعية. لكن المساواة القانونية وإعادة الاعتبار الإنساني للمرأة يجب أن لا تنتظر أو تراوح في مكانها!
2- المجتمع المدني في الوطن العربي
يرجع النقاش حول الديمقراطية في الوطن العربي إلى بدء حركة النهضة العربية (منتصف القرن التاسع عشر) عندما تأسست أول جمعية سرية في بيروت (1875). ويعتبر عبدالرحمن الكواكبي (1849- 1903)- الصحافي والأديب الملقب (أبو الضعفاء) والمولود في حلب- من أوائل من تصدى لمسألة الديمقراطية حين أشار في كتابه ( طبائع الاستبداد) إلى أن الحكومة "من أي نوع كانت لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والمحاسبة التي لا تسامح فيها".(26)
وإذا كان الكواكبي هو أول من نبَّه لقضية الديمقراطية في جانبه السلبي بنفي الاستبداد ورفضه، فإن فرنسيس فتح الله مراش (1835- 1874)- المولود في حلب أيضاً- هو أول من تصدى لهذه القضية ولكن في جانبها الإيجابي: نظرته وتصوره لفحوى ومضمون المجتمع المدني والديمقراطية الذي تأمله في الوطن العربي، وذلك في روايته الرائعة "غابة الحق" المنشورة لأِول مرة عام 1865، والتي تُعتبر الرواية العربية الأولى المعروفة في العصر الحديث، وصدرت طبعتها الجديدة عن دار المدى بدمشق عام 2002.(27)
منذ نشوء الدولة الوطنية في البلدان العربية، تأثرت العملية السياسية والصراعات الاجتماعية فيها بمجموعتين من العوامل التي رافقتها: أولاهما خارجية دولية ارتبطت بتوجهات الدول الغربية المحتلة بناء أنظمة سياسية أهلية مركزية "موالية" مع بروز سلطة تنفيذية طاغية محتكرة للقوة ومتحالفة مع العسكر على حساب الحريات والديمقراطية. وبغض النظر عن مزاعم هذه الأنظمة وادعاءاتها التبريرية الليبرالية و/ أو الدينية، فهي كانت موجهة لمراقبة الناس لا لمراقبتها. وثانيتهما داخلية بيئية رسمت أسلوب الكفاح في مرحلة التحرير والصراعات السياسية في المراحل التالية على أساس ممارسة العنف.
وإذا قبلنا أن الديمقراطية ليست عسلاً جاهزاً بل مسيرة صعبة ممتدة وجهوداً نوعية متواصلة، عندئذ تظهر مهام إضافية تواجه الثقافة العربية المعاصرة، على الأقل، في مسألتين: أولاهما مواكبة تطور الفكر والمعرفة بمعناها الحضاري باتجاه استيعابها وهضمها وتمثيلها دون الاقتصار عند الاستهلاك المباشر والنقل والتكرار. وثانيتهما تطوير ثقافة عربية إنسانية حضارية عصرية تقوم على أسس العلمانية، تتغذى على إيجابيات الإرث التاريخي والثقافة الحضارية المعاصرة، ولكن دون أن تقع في مطب سلفية التراث أو الاستلاب للغرب.(28)
يذكر Imco Brouwer: إذا كانت هناك منطقة واحدة في العالم تتصف بضعف شديد للديمقراطية بحيث من الاستحالة أو الصعوبة البالغة أن تتحول نحو المسيرة الديمقراطية في المستقبل القريب، فإنها تنحصر في الوطن العربي. فرغم دخول البشرية في القرن الحادي والعشرين، إلا أنه لا يمكن القول بِأن أياً من الأنظمة الأعضاء في الجامعة العربية يتصف بنظام حكم ديمقراطي أو يتجه نحو التحول الديمقراطي. وحتى الأنظمة الأكثر ليبرالية في هذه المجموعة فإنها أقدمت على شيء من الحرية والمنافسة السياسية لا بسبب قناعتها بالتغيير والتحول الديمقراطي، بل لأِنها استنتجت أن إصلاحاً سياسياً محدوداً هو أقل كلفة من استمرار الأزمة الاجتماعية المضغوطة والقابلة للانفجار. كما أنها غلّفت هذه المنافسة السياسية بالكثير من التزييف والتدخل لصالح احتكار السلطة أو أقامتها وفق أسس طائفية أو عشائرية متخلفة ومتضادة مع عملية التحول. علاوة على أن ظاهرة ضعف الديمقراطية في البلاد العربية تدفع الكثير من المفكرين ألى القناعة بعدم وجود مجتمع مدني هناك أو أنه في أفضل الأحوال ضعيف جداً. ويرون أن الثقافة الإسلامية وسيادة الأنظمة الأوتوقراطية في هذه المنطقة تعمل على منع تنمية المجتمع المدني وأي شيء مشابه لما هو موجود في الغرب.(29)
ويرتبط ذلك أن الأنظمة العربية، بعامة، تتسم بالسلطوية وتهميش الإرادة الشعبية وتمركز السلطة والاحتكار وضعف شديد في المشاركة وغياب أو ضعف سمات الدولة الحديثة القائمة على مبدأ سيادة القانون والتعددية والانتخابات النزيهة، مقابل استمرار حكم الطوارئ الذي تحول إلى ممارسة ممتدة. كما أن محاولات الأنظمة العربية، بعامة، من شمولية وتقليدية وليبرالية، التخفيف الظاهري من الحكم الاستبدادي المطلق أو شبه المطلق، سواء عن طريق تطبيق بعض الأسس الدستورية- البرلمانية أو إقامة مجالس شورى أو مجالس استشارية, فإنها لم تزحزح الحكم الاستبدادي الفردي- النخبوي، ولم تؤثر هذه المناورات في إضعاف سلطاتها واستمرار مصالح الفئات الحاكمة فوق القانون. وفي الأنظمة التي تزعم الديمقراطية الليبرالية، فإن يد الحاكم امتدت وتمتد باستمرار لأِية حركة سلمية واعية ترنو إلى الاستفادة من هامش الحرية الضئيل المتاح لتحقيق خطوة إصلاحية حقيقية مهما كانت صغيرة. عليه تتسم الأنظمة القائمة في البلاد العربية بغياب الديمقراطية والافتقار إلى منظمات فعالة للمجتمع المدني. وفي ظل هذه الأنظمة والأوضاع السياسية تكون منظمات المجتمع المدني هي الذبيحة الأولى، لأِنها البوتقة الحقيقية لبناء مشاركة شعبية مستقلة وخلق قوة فعالة ومؤثرة تُزاحم المؤسسات الاستبدادية (العسكر، الحزب الواحد، القبيلة، الطائفة، الأحزاب المصطنعة). ووفق هذا الواقع، تستمر اللجة والضجة والمراوحة في نفس المكان أو التراجع. وهذه هي النقطة الخطيرة القاتلة في حركة النهضة العربية.
ترتب بالنتيجة على هذه الأوضاع السياسية المتخلفة، تخلف منظمات المجتمع المدني، فهي مضغوطة بين الإجراءات القانونية والإدارية ومواقف السلطات منها وبين غلبة الأفكار والجماعات التقليدية. كما أن علاقاتها مع السلطة الحكومية بدلاً من أن تقوم على الثقة والتعاون والاستقلال الذاتي، فهي تعاني من ممارسات أجهزة السلطة منذ نشوئها: صعوبة إجراءات التسجيل والإشهار في ظل آلية تشريع موجهة للهيمنة عليها.. قيود شديدة على مواردها المالية.. عقوبات صارمة تواجه أعضاء مجالس إداراتها عند المخالفة (المعارضة).. احتكار السلطة للإعلام والحد من حرية الصحافة.. حريات عامة وحقوق مدنية منقوصة ومشوهة.. وهذه الممارسات عكست آثاراً سلبية على مؤسسات المجتمع المدني، تتقدمها: ضعف المشاركة وانخفاض العضوية الفعالة والنشطة.. جمود القيادات وضعف معدلات التغيير في عضوية مجالس الإدارات.. انفراد النخبة في قيادة المنظمة بِإصدار القرارات المحددة لسياساتها وأولوياتها.. وأخيراً ضعف مستوى المشاركة في حضور الجمعية العمومية للمنظمة. تؤكد الدراسات الميدانية عزوف الأعضاء عن حضور الجمعيات العمومية التي تُعقد بِِِأقلَّ من نصابها القانوني بعد تأجيلها أكثر من مرة. وبذلك تتحول هذه الاجتماعات- التي تشكل أهم مشاركة داخل المنظمة- إلى اجتماعات شكلية، مما يُضعف طابعها الديمقراطي وصفتها كمدرسة للتدريب على الممارسة الحضارية وتنشئة القادة الجدد. وبذلك تتخذ هذه المنظمات- الاجتماعية منها والسياسية- نفس قالب الحكومة وتنطبع بنفس قيمها وممارساتها: الفردية، النخبوية، احتكار السلطة، ضعف المشاركة الجماعية، تدني إقبال الجمهور، وبالنتيجة ضعف تأثيرها في الناس.(30)
والمشكلة العويصة هنا والتي تتميز حتى عن محاولات العديد من دول العالم الثالث هي كيفية الخروج من الحلقة المفرغة حيث يدور الجميع داخل دوامتها دون تحقيق قدر من النجاح في شق الطريق المستقيم المتصاعد. ويمكن المخاطرة بالقول أن المشكلة العربية التي تتقدم كافة المشكلات، تتركز في الاحتكار السياسي, وإذا لم يحصل اتفاق عام على حل هذه المعضلة مبدئياً وعملياً فمن الصعب، أن لم يكن من المستحيل، تفعيل بقية الحلول الاجتماعية لدفع عملية التحول وإخراجها من دوامة التيار الدائري والتراجع. وتفسير ذلك ببساطة هو أن الاحتكار السياسي يخلق نظاماً سياسيا عنيفاًً منغلقاً على ذاته يتجه نحو احتضان القيم التقليدية الرجعية، مهما كانت ادعاءاته التقدمية.
3- المجتمع المدني في العراق
المجتمع المدني هو قبل كل شيء مجتمع المدن ويشكل مرحلة تطور أعلى من المجتمعات البدوية أو الريفية. ووجدت أولى تطبيقاتها في حضارة وادي الرافدين، حيث نمت في دولة المدينة فكرة المواطنة citizenship والمواطن. وكانت المدينة أكثر من كونها تجمعاً سكانياً. بل أن ما يدهش الباحث في حضارة وادي الرافدين أن لا يجد آثاراً للنظام القبلي منذ أواخر عصور ما قبل التاريخ". وتفسير ذلك أن الوحدة السياسية في هذه الحضارة التي أشرقت في السهل الرسوبي (جنوب البلاد) كانت أولاً القرية الفلاحية ثم المدينة المعتمدة كل منهما على الاقتصاد الزراعي وجهاز الري والتجارة، فنشأت, بدلاً من الأنظمة القبلية والولاء القبلي، أنظمة مدنية سياسية واجتماعية منذ بدء العصور التاريخية.(31)
يتأكد ذلك من الدراسات والاكتشافات الأثرية التي بينت حدوث انتقال تدريجي لإنسان الكهوف في شمال البلاد من الصيد وجمع القوت إلى الزراعة والرعي (إنتاج القوت) والسكن في القرى أواخر العصر الحجري المتوسط، فحقق بذلك أعظم ثورة اقتصادية في تاريخ البشرية (الثورة الزراعية)، ونمت القرى الزراعية لتنطلق من الجزيرة شرقاً وغرباً وجنوباً حيث تطور أعداد منها إلى مدن حضارية عامرة شكلت أساس وباكورة دولة المدينة في الحضارة السومرية.(32)
ينقل الدكتور خزعل الماجدي عن كريمر قوله "أن أول برلمان سياسي معروف في تاريخ الإنسان المدون قد التأم في جلسة خطيرة في حدود 3000 ق.م. وكان مؤلفاً من مجلسين أحدهما للشيوخ والآخر للمواطنين القادرين على حمل السلاح (النواب). وكان (برلمان حرب) دُعِيَ للانعقاد ليتخذ قراراً في أمر خطير يخص الحرب والسلم". ويخرج ليو اولينهايم بنفس الرأي ويبين قيام العلاقات في مجتمع المدينة السومرية على أساس اتحادات مهنية لإضفاء المنزلة والحماية للفرد. "أما عن المستوى الاجتماعي, فإن وحدة مدينة بلاد ما بين النهرين أظهرت عدم وجود أية مكانة أو ارتباط قبلي، لكنها أظهرت تشكيل جمعية تتألف من مجموعة من المواطنين تمكنوا بواسطتها من إدارة المدينة تحت إشراف موظف". ومن الحقائق التاريخية المدهشة في الحضارة السومرية أنها قامت على تعددية لغوية، إذ كانت ثنائية اللغة biligual متمثلة باللغتين السومرية والأكدية.(33)
وهكذا يواجه المتتبع للحضارة السومرية نفسه أمام حضارة راقية "فالمجتمع السومري لعصر فجر السلالات كان أبعد ما يكون عن البدائية، فقد ساده التنظيم المتكامل... ". وكانت الاتحادات السياسية كثيرة واحتلت أهمية وموقعاً أكبر من الاتحادات الأخرى. كذلك تواجدت اتحادات مهنية عديدة ومهمة، حيث تمكنت بعض المهن المتخصصة من تطوير تقليد موروث. "ولا بُدَّ أن توصلت مجموعات من المهنيين من ذوي الخلفيات الاجتماعية المتباعدة إلى نوع من الاندماج لأِسباب اقتصادية خلال فترة تمدن جنوبي بلاد ما بين النهرين...". ضمت هذه (النقابات) مختلف الحرف الصناعية اليدوية والأعمال التجارية، وكانت تُنظم من قبل القصر خلال العصر البابلي القديم، ودُلَّ عليها بمصطلح سامي (اوكولا- باللغة السومرية (و) تكو- باللغة الاكدية). "ويبدو أن مهناً مثل الصياغة والتجارة وصنع الخمر أصبحت مستقلة وضمن تشكيلات تلك التنظيمات. وتمتع مراقبو (النقابات) بمنزلة اجتماعية كبيرة وبمنزلة إدارية عالية". بل أن هذه الفئة شكلت الطبقة الوسطى في الحياة الاجتماعية لحضارة وادي الرافدين وشملت أصحاب المهن (الحرف) ممن يعملون لحسابهم كأصحاب المصارف والتجار والأطباء والكتبة والصناع، وكانوا منظمين في جمعيات أو نقابات على غرار نقابات القرون الوسطى في أوربا. وزاولوا نشاطاتهم العملية في أماكن خاصة بهم في المدينة ودربوا الصناع ونقلوا مهاراتهم لأِبنائهم. وفي عهد الإمبراطورية الآشورية كان الملك يعاملهم باحترام كبير "ولم يكن (شعب آشور) الذي انحاز إلى جانب اسرحدون في صراعه على امتلاك التاج (والمدينة وأهلها) سوى هؤلاء (البرجوازيين) الآشوريين."(34)
وتشير النصوص الاقتصادية التي عُثِرَ عليها في لكش (تلو) وفي شروباك (فارة) بانخراط كافة السكان العاملين في تلك المدينتين إلى (نقابات) أو (اتحادات) متنوعة، بعضها صغيرة القاعدة تعكس تخصصاً دقيقاً. وُجِدَ هناك مثلاً رعاة يختصون برعي الحمير من الذكور ويختص آخرون بالإناث. وتواجدت تجمعات منفصلة للسماكين تبعاً لمكان صيدهم فيما إذا كانوا يصطادون في المياه العذبة أو المياه شبه المالحة أو في مياه البحر. حتى سحرة الأفاعي شكلوا حرفة خاصة ترأسها "ساحر الأفاعي الأول". وكان التجار والحرفيون يُنَظَّمون بشكل مشابه ويعملون تارة لحسابهم وتارة لفائدة المعبد الذي كان المنظم الوحيد للتجارة في البداية ثم إلى جانب القصر لاحقاً. وظهرت بوادر لتخصصات مهنية وردت في نصوص العصر البابلي الحديث مثل مدينة الدباغين ومدينة صناع المعادن.(35)
ولم تكن الصناعات (الحرف) اليدوية مقصورة على جماعات وأُسر معينة في العصور القديمة، لكنها بدأت تتجه نحو التخصص والاحتكار العائلي تدريجياً لغاية العصور التاريخية المبكرة. فأخذت كل جماعة تحتفظ بِأسرار حرفتها، وغدا تعلم الحرفة لا يتحقق إلا بالتدريب الطويل على أيدي المهرة من الحرفيين، وبدأت الحرفة تنتقل من الأب إلى الابن. وكان يرأس كل حرفة أكثر الصناع شهرة ونفوذاً وسمعة، حيث يحتكمون إلى رئيس الحرفة لفض المنازعات التي قد تنشب بين أفراد الحرفة الواحدة، علاوة على دور الرئيس وسيطاً بين أفراد حرفته وبين السلطة. "ولنا أن نتصور أن وضع أصحاب الحرف ورؤسائها كان مشابها لوضع أصحاب الحرف في العراق الحديث حتى فترة قريبة جداً حيث كان لكل حرفة رئيس أو نقيب يُرجَعْ إليه وقت المنازعات والاختلافات".(36)
عاد العراق مركزاً للحضارة في العصر العباسي، وانتشرت الصناعات الحرفية التي كانت تعود في معظمها إلى حضارته القديمة رغم أنها حققت تطورا أكبر وسعة أشمل (ف2). كما برزت ظاهرة التخصص سواء على مستوى الحرف الصناعية أو المدن، وظهرت أسواق متخصصة داخل الأسواق العامة. ففي البصرة كان أصحاب كل مهنة يجتمعون معاً في محل واحد مكونين سوقاً فرعية داخل السوق الكبير. وكذلك ظهرت مثل هذه الأسواق المتخصصة في مدن أخرى: واسط، كوفة.. كما أن الإشراف الحكومي على الأسواق والمصانع ساعد على بروز ظاهرة التخصص.
يصعب التأكيد على وجود تنظيمات مهنية نقابية بمفهومها الحديث في بداية قيام الدولة العربية، ولكن شيئاً من التكتل تحقق بين أصحاب الحرف والصناعات اليدوية، وكان يُشار إليهم بـ (الأصناف) أو (أهل المهن) أو (أهل الصنايع)، وهي إشارات تدل على بروز ظاهرة التنظيم كحركة لها أصولها وترتيباتها. وفي النصف الثاني من العصر العباسي حدثت تطورات داخلية في تنظيم الحِرَف وضعتها في سياقها العام، فأصبح لكل حرفة شيخ (رئيس) ليكون ممثلاً للحرفة بالعلاقة بين شؤون الحرفة والحكومة وحل المشكلات التي تظهر داخل أفراد الحرفة ذاتها. ومن حيث درجة إتقان المهنة هناك "الاستاذ" المتقدم في الحرفة، يليه "الصانع" وهو من أتقن الحرفة وبإمكانه فتح حانوت خاص به والعمل مستقلاً. وأدنى درجة في الحرفة هو "المبتدئ" الذي ينتسب إلى الحرفة ولا يزال في مرحلة التعليم. ومما يبين قوة التماسك الحرفي، والشعور بالكيان لدى أهل الصناعات اليدوية شيوع الانتساب للمهن إلى جانب الانتساب إلى المدينة أو القبيلة, وظهرت القاب عائلية تدل على حرفتها المتوارثة: الزجاج، الزيات، الجراح، الحلاج، الفرّاء، النجار، الحداد، الجصاص..
بلغ تماسك أصحاب الحرف اليدوية درجة أن القاضي الماوردي وجد في العرف الجاري بين أهل الحرف ما يمكن أن يشكل أساساً يستطيع المحتسب الرجوع إليه عند مراقبته للأسواق. وهناك إشارات إلى وقوف الحِرَف في وجه إجراء حكومي متعسف. فقد ثار صناع نسيج القطن والحرير في بغداد 375 هـ/985 م ضد قرار بفرض العشر على هذه الأقمشة ولم يهدأوا إلا حين أُلغيت الضريبة. ولما أُعيد فرض العشر 389 هـ/998 م ثاروا من جديد واستمرّ الاضطراب أربعة أيام. من هنا يتبين أن الصناع كونوا فيما بينهم تقاليد وأعرافاً كانت محل اعتراف الحكومة وإقرارها، وأخذ بها القُضاة والمُحَكِمون عند حصول الخلافات المهنية. وبمرور الزمن قويت الرابطة بين أصحاب الحرفة الصناعية، وأصبح كل منهم يشعر بالارتباط الوثيق بِأهل صنفه, وصار من أقوالهم "الصناعات نسب" و "الصنعة أمان ضد الفقر ومانع ضد الغنى". "ولعلَّ ذلك كان امتداداً للتقاليد العراقية الموروثة التي عرفتها أرض الرافدين، واكتسبها العراقيون عِبْرَ السنوات الطويلة، وانسجمت مع الوضع الجديد". ورغم وحشية الغزو المغولي وهمجيته، وعِظَم الأخطار والتخريب الذي لحق بالعراق (656هـ/1258م)، إلا أن التنظيمات الحرفية والمهنية سرعان ما استعادت مسيرتها، رغم أنها لم تتحقق بنفس المستوى السابق.(37)
من الصعوبة متابعة منظمات المجتمع المدني، خاصة تلك المهنية، في العراق الحديث بسبب غياب أو ندرة محاولات دراستها وبالذات الدراسات الميدانية. وتزداد هذه الصعوبة حالياً في ظروف القمع والحروب والاحتلال، رغم أن بداياتها ظهرت أواخر العهد العثماني في سياق حركة النهضة العربية.
اتسم المجتمع العراقي مع نهاية الحرب العالمية الأولى بانقسامات تقليدية عمودية. من جهة أخرى، اعتمدت هذه العلاقات وبدرجة عالية على مشاعر الألفة والقرابة والصداقة والثقة والنخوة التي كثيراً ما تخطت الجماعات والتحالفات السياسية. كما احتلت المؤسسة الدينية في هذه العلاقات دور القائد والموجه والمرشد الروحي الذي أهَّلها للزعامة السياسية. يتضح ذلك من أن الثورة العراقية الأولى (ربيع 1918) التي انفجرت في وجه الانكليز (الكفار) انطلقت من الأماكن المقدسة في العراق (ثورة النجف) وساهمت في إشعالها "جمعية النهضة الإسلامية". ولم تنتشر الثورة خارج النجف نتيجة الحصار الذي فرضه الانكليز على المدينة لفترة تجاوزت الأربعين يوماً مع قطع المياه عنها قبل أن يتمكنوا من إجهاضها.(38)
ظهر النشاط السياسي في هذه الفترة بصور متعددة، فكانت الفئة الطليعية من المواطنين الواعين يجتمعون في المقاهي والبيوت والمدارس والأماكن الدينية. ومن المعروف أن مسجد الحيدرخانة اشتهر في تاريخ بغداد باعتباره مقراً لثوار العشرينات.(39) وكانت هذه الاجتماعات تتم لمناقشة أمور السياسة وبث الوعي المعادي لبريطانيا وحث الناس على المطالبة بالاستقلال. وتحقق في هذه الفترة (1918) إنشاء حزبين سياسيين كان لإمتداداتهما أن يلعبا دوراً خطيراً في الصراعات اللاحقة. واقتصرت نقطة الاتفاق الوحيدة بينهما على تحقيق استقلال العراق وتنصيب أحد أبناء شريف مكة مَلكاً على العراق. وهما حزب العهد الذي يعود أصله إلى "جمعية العهد" التي أسسها عزيز علي المصري للدفاع عن الحقوق العربية وضمَّت أغلبية من الضباط العراقيين في الجيش العثماني. ورابطة حرس الاستقلال التي ضمّت في قيادتها أغلبية مدنية.(40) واستطاع قادتها بناء تأييد واسع النطاق لصالح دعوتهم الاستقلالية، وذلك باستخدام نفوذهم وشبكة علاقاتهم ضمن الجماعات التقليدية التي كانوا ينتمون إليها، إضافة إلى علماء الدين وشيوخ العشائر.
كان الإخفاق في تشكيل حكومة أهلية تمثيلية، مقابل وصول أنباء مؤتمر سان ريمو (5/5/1920) بوضع البلاد تحت الانتداب البريطاني، من الأسباب القوية لتعاظم حركة المعارضة وتحقيق التقارب بين الطائفتين الإسلاميتين الرئيستين. يضاف إلى ذلك ظهور معارضة ساخنة في كربلاء ضد الاحتلال بتأييد المجتهد تقي الدين الحائري الشيرازي وقيادة ابنه المرزا محمد رضا الذي أسس جمعية سرية "الجمعية الإسلامية" وساهمت في إشعال الثورة في الفرات الأوسط (1920). هذه الثورة التي هزت البلاد وأجبرت المحتل البريطاني التخلي عن الحكم المباشر لصالح الحكم غير المباشر.
دار صراع مرير مستمر حول شكل الدولة العراقية منذ ولادتها, وكان أبرز جانب في هذا الصراع هو مشكلة العلاقة مع بريطانيا. كما أخذ هذا الصراع شكلاً جديداً بين النخب المحلية، وبدأت التحالفات تتغير، حيث انتقلت أغلبية أنصار "العهد" والعديد من عناصر حرس الاستقلال إلى مؤسسات الدولة الجديدة ليقودها الضباط السابقون في الجيش العثماني (الشريفيون)، بينما استمرت أغلبية حرس الاستقلال في جانب المعارضة.
وفي ظل التحالفات الجديدة غطت الساحة السياسية معاهدة 1922 التي قدمتها بريطانيا بديلاً اسمياً عن الانتداب. ومع موافقة وزارة النقيب على المعاهدة في صيف 1922(25/6)، أصدرت في نفس الوقت قانون الأحزاب لإفساح المجال للتنفيس السياسي خشية تكرار أحداث صيف 1920. فظهر حزبين معارضين (النهضة، الوطني العراقي) ضمن ثلاثة أحزاب (كان الثالث: حزب الحر العراقي حكومياً محافظاً موالياً للانكليز). قاد الحزبان المذكوران المعارضة ضد المعاهدة بتعبئة جمهور الناس لمقاطعة انتخابات المجلس التأسيسي المزمع قيامه للتصديق على المعاهدة في ظروف غياب ما يضمن نزاهة الانتخابات. وكان رد فعل الإدارة البريطانية في بغداد سريعاً، أقفلت الحزبين المعارضين وصحفهما واعتقلت عدداً من زعمائهما ونفتهم إلى جزيرة هنجام. كما عمدت الحكومة السعدونية إلى نفي رجال الدين المعارضين إلى إيران (1923)، ولم يُسمح لهم بالعودة (1924) إلا بعد تعهدهم عدم التدخل بالسياسة. وهنا انتهت مرحلة سياسية كانت الزعامة السياسية فيها لرجال الدين.
يتبين من هذا العرض الموجز، أن المجتمع المدني في العراق، رغم قاعدته التقليدية كان حياً ونشطاً وقوياً، وربما كان في ذروة قوته ونشاطه في مطلع القرن العشرين، وأكد نفسه طوال مراحل العهد الملكي في صموده وتحديه وأثّر في أحداث هذه الفترة بصورة جلية، ولم يتلاشَ خلف ظهر الدولة. ساعد على ذلك بداية تشكل الدولة الحديثة في مجتمع يقوم على قيم التضامن والعلاقات التقليدية، وعدم انفصال الدولة عن المجتمع المدني، مقابل ضعف قوة الدولة، علاوة على هامش الحرية الذي وفَّره الدستور على عيوبه وانحرافات تطبيقه.
بدأ العمل في الدستور (21/3/1925) وافتتح المجلس النيابي الجديد (16/7/1925)، وظهرت باكورة الأحزاب البرلمانية: "حزب التقدم" الذي شكله عبدالمحسن السعدون من أغلبية برلمانية لدعم حكومته، و "حزب الشعب" بزعامة ياسين الهاشمي لممارسة دور المعارضة. ولكن منذ البداية كان واضحاً أن بناء نظام نيابي سوي سيؤول لصالح القوى الديمقراطية والتحرر, وهو ما يتضارب مع المصالح البريطانية في البلاد. لذلك حرصت إدارة الاحتلال باستمرار على رفض تلبية المطالب المشروعة للمعارضة بِشأن إصلاح البرلمان والعملية الدستورية، بل وكانت مستعدة دوماً للتدخل وإجهاض أية محاولة جادة في هذا المسار. لكن هذه المحاولات لم تكن قادرة على احتواء منظمات المجتمع المدني التي استمرت تعمل بنشاط وحيوية.
الحزب الوطني العراقي الذي أسسه محمد جعفر أبو التمن لتحقيق هدفين مترابطين: وحدة الطائفتين الإسلاميتين الرئيستين، والقضاء على الوجود البريطاني في العراق، يستحق هنا ذكراً خاصاً، لأِنه جسَّد مدرسة وطنية. وهناك أمران يخصان الحزب في هذا المجال: أولهما ساهم الحزب إطلاق حركة ثقافية تدعو إلى بناء المنظمات المهنية، وقاد الحزب المحاولة الأولى لوضع العمال ضمن الخريطة السياسية العراقية. أذ أوحى بِإنشاء "جمعية أصحاب الصنايع" التي حملت في بدايتها طابع نقابة الحرفيين. وبفضل زعيمها محمد صالح القزاز، وهو ميكانيكي وأول قائد عمالي في العراق سرعان ما اتخذت طابع التكوين السياسي. لكنها حُلَّت عام 1931 بعد إن أصبحت المركز المنظم لإضراب الأربعة عشر يوماً. استمر القزاز وأسس "جمعية عمال الميكانيك"عام 1932 أو "نقابة اتحاد عمال العراق" التي تبعثرت نهاية عام 1932 نتيجة دورها في مقاطعة شركة بغداد للنور والكهرباء البريطانية الملكية على مدى شهر واحد. "وعندما انبعثت النشاطات النقابية مجدداً بعد ذلك بعقد من الزمن، انبعثت تحت راية شيوعية". وثانيهما خرج من بين صفوف الحزب رجالاً قدموا القيادة لثلاثة تيارات أساسية مستقبلية معارضة، وهي: الإصلاحية العروبية الواعية للتقاليد التي تمثلت بـ "نادي المثنى" و "حزب الاستقلال"، والجناح اليساري للشعبوية العراقية الممثلة بـ "جماعة الأهالي" وفرعها "جمعية الإصلاح الشعبي", و "الحزب الوطني الديمقراطي". والتيار الثوري الذي وجد تعبيره في "لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار"، حيث ان ولادتها (31/3/1934) تؤرخ تأسيس "الحزب الشيوعي العراقي". وكان من بين أعضاء الحزب الوطني العراقي: محمد مهدي كبة، فائق السامرائي (الاستقلال)، كامل الجادرجي (الوطني الديمقراطي)، عبدالقادر اسماعيل وعاصم فليح (الحزب الشيوعي العراقي).(41)
يذكر التميمي في رسالته للدكتوراه أن الحزب الوطني العراقي بعد عودته للساحة السياسية من خلال حزب "الجمعية الوطنية" عام 1929، عبَّر أبو التمن في كلمة الافتتاح عن مساندة الحزب لتأسيس اتحادات عمالية وتعاونيات للشغيلة، بل وواصل جهوده وبدأ حملة واسعة دعى فيها ذوي الأعمال والتجار والحرفيين إلى إنشاء جمعيات مهنية لحماية مصالحهم ودفع عجلة التطور الاقتصادي في البلاد. وهذا يؤكد أن دور الحزب الوطني العراقي لم يقتصر على توليد قادة لتيارات سياسية مستقبلية، حسب، بل بادر كذلك إلى بناء النصف الآخر من منظمات المجتمع المدني، أي المنظمات المهنية.
وعموماً، استمرت حركة انتعاش منظمات المجتمع المدني المهنية في بغداد منذ نهاية العشرينات ولغاية النصف الأول من الثلاثينات وضمّت: عمال الصحف، عمال المطابع، عمال السكك الحديدية، الحرفيون، تجار السمن والفواكه والخضر، سواق السيارات، مهندسي الميكانيك، الحلاقين، الخياطين، أصحاب المقاهي، جمعية تشجيع المنتجات الوطنية مع فروع لها في الديوانية وكربلاء والنجف. كما ظهرت ثلاث فرق مسرحية وناد للموسيقى أوائل الثلاثينات وجمعيات مكافحة الأمية وعدد من الجمعيات الخيرية الإسلامية والمسيحية واليهودية. وتم تأسيس جمعية للمحامين (1930) وجمعية للأطباء (1934).(42)
من منظمات المجتمع المدني التي تستحق كذلك ذكراً خاصاً هي "جماعة الأهالي" التي ظهرت عام 1931 منظمة غير سياسية في ظلِّ علاقات صداقة بين مؤسسيها الأربعة: عبدالفتاح إبراهيم، محمد حديد، عبدالقادر إسماعيل، حسين جميل. قامت على توجه علماني وتجاوز الطائفية. عبَّرت عن تيار إصلاحي شعبي. تأثرت بالأفكار الاشتراكية. ورفعت بدءاً شعار "مصلحة الشعب فوق كل مصلحة". وعَنَتْ بالشعب "الأكثرية العظمى". اهتمت برفع مستوى المعيشة، وتطوير النظام السياسي والاقتصادي ووضع المواهب الفكرية والموارد الاقتصادية للبلاد في خدمتها بالشكل الأفضل. ودعت إلى هجر الماضي والسير إلى الأمام وفق "أسس جديدة" باتجاه "نهضة أصيلة" ينبع من "فلسفة اجتماعية وقوة روحية". وهذا يتطلب "ثورتين متزامنتين"، إحداهما "فكرية" والأخرى "أخلاقية نفسية". والاعتماد على الشباب الوطني الواعي، ممن "يعمل ولا يُعلن". وهكذا قامت الجماعة على أساس التغيير التدريجي والسلمي بدلاً من العنف. وكان المنهج المفضل للجماعة هو التعليم. انتهت جماعة الأهالي بعد توريطها في انقلاب بكر صدقي (1936) من قبل الرؤوس الكبيرة التي انضمت إلى الجماعة لاحقاً: محمد جعفر أبو التمن، كامل الجادرجي، حكمت سليمان، وبخاصة الأخير مهندس الانقلاب. وبذلك كانت واحدة من النتائج الكثيرة والخطيرة للانقلاب هي تصفية وليد يحمل مشروعاً اجتماعياً ديمقراطياً قُتِلَ بِأيدي مُدَّعي الديمقراطية أنفسهم. وهذه الحصيلة حرَّمت البلاد من تجربة فكرية غنية رائدة.(43)
شهدت فترة الثلاثينات كذلك حدثين بارزين فيما يخص حركة المجتمع المدني في ظروف التحديات والصراعات التي أخذت بالتصاعد في هذه الفترة, متمثلة في ظهور جمعية الإصلاح الشعبي (التيار الشعبي العراقي) ونادي المثنى (التيار القومي العربي). شكلت جمعية الإصلاح الشعبي الوجه الآخر (السياسي) لـ "جماعة الأهالي" حيث أسستها منظمة سرية عام 1934 وأطلقتها إلى العلن كحزب سياسي في ظلِّ حكومة انقلاب 1936. تلخص برنامج الحزب في: تحقيق إصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية لصيانة المصلحة العامة وضمان تقدم الأفراد والقضاء على الاستِغلال، تأميم وسائل النقل والبريد والاتصالات وتجهيزات الماء والكهرباء، استصلاح الأراضي الحكومية القاحلة وتوزيعها على الفلاحين المعدمين، بناء القرى العصرية، إلغاء القوانين والأعراف الزراعية الجائرة وسن قوانين تضمن تقدم ورخاء الزراعة والفلاح, ضريبة تصاعدية على الدخل والإرث. وبعد انسحاب جماعة الأهالي من الحكومة الانقلابية تعرضت الجماعة وجمعيتها للتصفية في ظروف التنكيل التي سادت في الساحة السياسية العراقية. وبذلك أنهى قادة الانقلاب أية محاولة للتحرش بالهيكل الاجتماعي لغاية ثورة تموز 1958. أما نادي المثنى الذي تأسس عام 1935 فكان عروبياً التزم بـ "نشر الروح القومية العربية... والمحافظة على التقاليد العربية... وتقوية الشعور بالرجولة العربية بين الشباب، وخلق ثقافة عربية جديدة تجمع إلى التراث العربي ما يستحق من حضارة الغرب". واستمد النادي قوته بصورة رئيسة من علاقاته بالعقيد صلاح الدين الصباغ زعيم مجموعة الأربعة وقائد حركة مايس (1941). بلغ النادي ذروة قوته وتطوره خلال الفترة 1938- 1941, أي خلال السنوات التي كان فيها الصباغ صوتاً مسموعاً ونافذاً في الجيش وفي إدارة البلاد. وبعد قضاء الانكليز على حركة مايس، تمت تصفية النادي وتشتيت أعضائه، حيث شكل بقاياهم النواة المركزية لحزب الاستقلال (1946).
وعموماً جسَّدت الثلاثينات مرحلة سياسية مضطربة تصاعدت فيها الصراعات وميول الحكم الفردية والانقلابات العسكرية والحد من حركة منظمات المجتمع المدني. ففي ظل وزارته (1935- 1936)، بادر الهاشمي إلى حل الأحزاب السياسية بما فيها حزبه (الأخاء). وبعد تصفية "الأهالي"، لم يُسمح بوجود أحزاب سياسية خلال الفترة 1937- 1946. بل وحتى نهاية الحياة الملكية أخذ هامش الحرية الذي كان متاحاً في المرحلة الأولى يترك مكانه للعنف السياسي. لكن محاولة قصيرة انطلقت من البلاط نهاية الحرب العالمية الثانية وبتشجيع من الانكليز، فيما يُعرف بـ "سياسة الانفتاح". وترخيص خمسة أحزاب سياسية (2/4/1946): الأحرار (محافظ وسط- توفيق السويدي)، الاستقلال (قومي عربي- محمد مهدي كبة)، الوطني الديمقراطي (يسار وسط- كامل الجادرجي)، الاتحاد الوطني (ماركسي- عبدالفتاح إبراهيم), الشعب (ماركسي- عزيز شريف). أجهضت هذه التجربة من قبل أغلبية أعضاء مجلس الأعيان والوصي بعد حوالي تسعين يوماً. وجاءت الضربة القاضية لمنظمات المجتمع المدني في عهد الوزارة السعيدية الثانية عشرة (مرسوم الجمعيات رقم 19 لسنة 1954)، وذلك في سياق توجهها هندسة حلف بغداد (1955). وكان رد الأحزاب المعارضة تأسيس الجبهة الوطنية التي ولدت في الأسبوع الأخير من شباط/ فبراير 1957، وضمَّت أحزاب المعارضة: الوطني الديمقراطي، الاستقلال, الشيوعي العراقي (المتحالف مع الحزب الديمقراطي الكردستاني)، البعث العربي الاشتراكي. "وقد نجحت الجبهة لا في توحيد سلوك الأحزاب الأعضاء، حسب، بل وأيضاً الإيحاء بعملية مماثلة داخل قوات الجيش المعارضة، وفي إقامة رابط بينها وبين رأسها المُدبّر المتمثل في اللجنة العليا للضباط الأحرار. ولهذا قد لا تكون مبالغة في القول أنها استقطبت المجتمع العراقي أكثر من أي يوم مضى وإلى درجة شكلت فيها تهديداً حقيقياً لبنية المَلكية".(44)
انتهت الحياة الدستورية وماتت معها الأحزاب العلنية مع إعلان الجمهورية، وأصبحت الساحة السياسة جاهزة للأحزاب السرية التي ظهرت نشيطة في العهد السابق، وغطت الصراعات الحزبية على الأحداث السياسية منذ ثورة تموز 1958 في سياق انشطار المجتمع العراقي. وفي غياب البنية الدستورية وسيطرة العسكر والحكم الفردي الدكتاتوري، تُعدم فُرَصَ بناء مجتمع مدني فعال. ورغم أن الفترة الجمهورية اقتصرت من الناحية القانونية على منظمات المجتمع المدني المهنية، إلا أنها بقيت ضعيفة ومشلولة أمام سلطة تنفيذية طاغية. هذا باستثناء بعض المحاولات لإثبات وجودها، كما في الإضرابات النقابية في بغداد (عهد قاسم) الذي شهد محاولة فاشلة (1960) لإحياء منظمات المجتمع المدني في ظروف استمرار غياب الدستور الدائم. وكذلك المحاولات المحدودة التي أبدتها بعض المنظمات المهنية لتأكيد استقلالها في إجراءاتها الانتخابية (عهد العارفين). كما شهد نظام البعث محاولة ثانية لإحياء منظمات المجتمع المدني السياسية والمهنية انتهت أيضاً بالفشل منتصف السبعينات مع انسحاب الحزب الشيوعي في ظروف الاحتكار السياسي والحكم الفردي. فعمد النظام إلى تصفية أو ضم كافة منظمات المجتمع المدني المهنية لسطوته، بعد أن مارس تصفية كافة مراكز المعارضة السياسية.
هوامش الفصل السابع
(1) كريم أبو حلاوة، "إشكاليات نشوء وتطور مفهوم المجتمع المدني في المجتمع العربي المعاصر"، مجلة الوحدة، شهرية، المجلس القومي للثقافة العربية، العدد 91، الرباط، إبريل 1992, ص 49- 50.
2, . Brian O` . Connell, Civil Society:The Underpinning of American democracy, Foreword by Jhon W. Gardner, Tufts University, Published by University Press of New England, Hanover and London,1999.p.124.
(3) جمال عمر، "جرامشي والمجتمع المدني، اليسار الجديد، التجمع الوحدوي التقدمي، العدد الأول، القاهرة 2002، ص121-122..، كاميران الصالحي، الديمقراطية والمجتمع المدني "دراسة تحليلية سياسية"، مؤسسة موكرياني للطباعة والنشر، اربيل 2002، ص125- 126(و) ص 143- 146.., كريم أبو حلاوة، ص51- 52.. وأيضا: كارلوس نيلسون كوتينهو، "الإدارة العامة والديمقراطية عند رسو، وهيغل، وغرامشي، النهج، ، العدد65، دار المدى، دمشق 2002, ص101- 107..,
, Ralf Dahrendof, After1989 Morale, Revolution and Civil Society,USA,1997,p.7.
(4) جمال عمر، ص123- 126.
5. Mustapha Kamel Al-Sayyid, Clash of values,US civil society aid and Islam in Egypt, Funding Virtue- civil society and democracy promotion, Editors: Marina Ottaway and Thomas Careothers, Carne Edowments` for International Peace, Washington, D.C.,2000, p.51.
(6) سعد البزاز، مقدمة كتاب:علي الوردي, في الطبيعة البشرية، ص13..،
Robert W. Hefner,"On History and cross-cultural possibility of democratic ideal",Democracy and Civility, the historian cross- cultural possibility of a modern political ideal, Edited by Robert W. Hefner, New Brunwick, USA and London (UK),1998,p.39.
7.John A. Hall, "enealogies of civil society", Democracy and Civility, P.55.., Wathnow,Robert, "A Resonable role for religion? Moral practicies, civil participation, and market behavior", Democracy and Civility, p.128.
8. Brian O` Connel, p.11.
9. Ibid.,p.33-34.
10. Ibid.p.1-4.
11. Sorensen Georg, Democracy and Democratization-Dilemas in world politics, University of AARHUS, Westview Press, Inc., USA,1993, p.10.
12. Ralf Dahrendrof, ,p.29.., Brian O` Connell,p.44.., Robert W. Hefner,p.39.
13.Brian O` Connell, p.117.., Ralf Dahrendrof, p.10,26. .
14.Robert W. Hefner, p.18.., Brian O` Connell, p.120-121.
15. Brian O`. Connell, p.8.
(16) محمد عابد الجابري، "إشكالية الديمقراطية والمجتمع المدني في الوطن العربي"، المستقبل العربي، العدد 167/ 1993، ص14.., كاميران الصالحي، ص12..، ماريون فاروق سلكليت، "المجتمع المدني في العراق بين1921- 1931", االثقافة الجديدة، العدد 9، دار المدى، دمشق1994، ص14.
17.Brian O` Connell, 24- 25.., John A. Hall, p.53.., Mustapha Kamel Al-Sayyid, p.59.
18.John A. Hall, p.53..,Mustapha Kamel Al-Sayyid, p.59..,Brian O` Connel, p.10.
(19) فالح عبدالجبار، المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في العراق، مشروع المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في الوطن العربي، تقديم: د. سعدالدين إبراهيم، مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية بالاشتراك مع دار الأمين للنشر والتوزيع، القاهرة 1995، ص 6- 7.., كريم ابوحلاوة، ص105- 106.., عبدالغفار شكر، "اثر السلطوية على المجتمع المدني في الوطن العربي"، اليسار الجديد، العدد الأول، التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، القاهرة 2002، ص103..،
Thomas Careothers, and Marina Ottaway,Funding Virtue ,P.4.
(20) سعدالدين ابراهيم، مقدمة كتاب: الدولة والمجتمع المدني.., ص5- 7..، انظر أيضا:
Patrick Mo Lusti,"The Interaction between state and civil society in South Africa, Prospects for peace and security", Common Security and Civil Society in Africa,Conference,StockholmmNov.,Edited by Lennart Wohtgemuth and others, Nordiska Afrikaniska Institutet,1999,p.180.., John A. Hallm,p.56.
21.Brian O` Connell, p.24-25,60-61.., John A.Hall,p.58.
22. Robert A.Hafner,p.28,39.
23. Brian O` Connell,p.87.
24. Robert A. Hafner.,p.58.., Brian O` Connell,p.110-111.
25.Brian O` Connell,p.106,112.
(26) جورج انطونيوس، يقظة العرب- تاريخ حركة العرب القومية، ترجمة د. ناصر الدين أسد (و) د. احسان عباس، دار العلم للملايين، الطبعة الرابعة، بيروت 1974، ص149..، نفسه, ص 168- 172.., كامل شياع، "عودة إلى الديمقراطية والمجتمع المدني", ا لثقافة الجديدة، العدد 30، دار المدى، دمشق2001، ص68.. الجدير بالذكر أن: المنجد (الطبعة 22/1960) يذكر أن سنة وفاة الكواكبي هي 1902.
(27) فرنسيس فتح الله مراش, غابة الحق، تقديم: جابر العصفور، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق 2002.
(28) محمد عابد الجابري، ص7- 8.
29.Imco Brouwer,Weak democracy and civil society promotion:The Case of Egypt and Palastine,Funding Virtue..,p.21.
(30) عبدالغفار شكر، ص106- 108، ص114- 116.
(31) طه باقر، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، ص325- 326.
(32) تقي الدباغ، حضارة العراق، ج1، ص111- 144.
(33) خزعل الماجدي، متون سومر، ص46..، ليواوينهايم، ص136..، طه باقر، مقدمة في ادب العراق القديم، ص37.
(34) جورج رو، ص186، ص471..، ليواوينهايم، ص89، ص 99..، هاري ساكز، ص71..، جورج كونتينو، ص28.
(35) ليو اوينهايم، ص100.
(36) فاضل عبدالواحد، (و) عامر سليمان، ص100..،
Marc Van De Mieroop, The Ancient Mesopotamia City, Clarendon Press,Oxford,UK,1997,p.185.
(37) عامر سليمان، ص 199..، عبدالعزيز الدوري، تاريخ العراق الاقتصادي..، ص107-108..، حمدان عبدالمجيد الكبيسي, "الصناعة"، حضارة العراق, ج5، 1985, ص298- 300.. خلدون حسن النقيب، في البدء كان الصراع- جدل الدين والاثنية، الأمة والطائفة عند العرب، دار الساقي، لندن 1997، ص90.
(38) مصطفى عبدالقادر النجار، "عهد الانتداب"، العراق في التاريخ، ص664- 665.., علي الوردي، ج5، ق2، ص295- 296.
(39) علي الوردي، ج5، ق1، ص92.., ج6، ص88.., خالد التميمي، 1996، ص55..، حنا بطاطو، العراق، ج2، ص46.
(40) حنا بطاطو، العراق، ج1، ص255.., ماريون فاروق سلكيت، ص45.., علي الوردي, ج5، ق1، ص93، ص97- 98.., ق2، ص48..,ج6، ص193، ص284.
(41) نفسه، ج1، ص334- 337..، مايون فاروق سلكيت، ص52.., خالد التميمي، ص249.
(42) خالد التميمي، ص 248، ص354.
(43) للباحث، مستقبل العراق، ص62..، نفسه، العراق المعاصر، صفحات متعددة.
(44) حنا بطاطو، ج1، ص336- 340..، ج2، ص94، ص131.., خالد التميمي، ص456-462.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن