ضرورية الدين عند سروش في ضوء بسط التجربة التأريخية

عباس علي العلي
fail959@hotmail.com

2013 / 6 / 15

يبقى مفهوم الضروري محاطا بشيء من الضبابية لتشاركه في المستدلات العقلية والفكرية مع الضرورة أو أنه أنتساب له مثل فهم أن كل شيء (ضروري) لأنه يختزن ضروريته من دليل الضرورة أو أنه هو مجرد اختلاف في البناء اللغوي بين الاسم والصفة فالاسم ضرورة والصفة ضروري, هذا الفهم المبسط والأبله لا ينبئ عن معرفة حقيقية كما بينا في مقدمة هذا الفصل من المبحث عن جوهرية مفهوم الضروري فعندما نقول أن للهواء قيمة ضرورية للحياة لا نقصد طبعا النتيجة التي تسالمنا عليها وسلمنا بها ولكن هذه المقولة تنبيئ عن أعتقاد بشيء لا بد له من برهان عقلي كي نؤمن به كما نؤمن مثلا بضرورية وجود العقل عند الحيون كي يمكننا ان نطلق عليه لفظ إنسان لأنه في الاصل مشترك مع غيره من الجنس الحي بالحيوانية ويفترق عنهم بهذا الحد.
إذن الضروري يقترب من الملازمة ويقترب من الوجوبية لكنها يتميز عنها أما بالحتمية أو الطبيعية المطلقة للأشياء, بهذا يفترق الضروري عن الضرورة, المفهوم الاخير تدبري سلوكي خارج مقام الطبيعي والحتمي بذاته وكنه معلق بغيره ومستند عليه فالضرورة كخروج طاري لا يمكن تصوره داخل الموضوع ما لم ينفعل بالأثر الخارج عنه والمبيح لهذه الزحزحة والمشرعن لها , وهو وجود المحذور, والتي سوف نبحث العلاقة بينهما في لمبحث القادم.
حتى نفهم حقيقية الضروري لا بد ان نعي أن ليس كل ضروري هو خروج عن النسق والنمط المنطقي أي ليس من الضرورات التي تبيح المحظور بهذا المعنى لأن في ضرورة الهواء مثلا ليس هناك خروج عن منطق النسق الحياتي ولكنه هنا تأكيد لها ,وبذلك تختلف ضروريته الطبيعية عن الضرورة الأستجابية كما في قاعدة خرق الحكم الواجب الأتباع مثلا في التشريع والشريعة, فلو بحثا مثلا الفرق بين أن يكون الدين ضرورة للإنسان وبين حقيقة هذه الضرورية نجد أننا أمام فهمين ومنهجين مختلفين تماما لأننا في الأولى نبحث النتيجة وفي الثانية نبحث العلة.
مثلا يرى الفيلسوف الأمريكي المتخصص بعلم الأديان الدكتور هوستن سمث في كتابه "لماذا الدين ضرورة حتمية؟" (Why Religion Matters) مسألة الإيمان بالدين من منظور أكثر روحانية من مجرد أنه تجربة بشرية خالصة يمكن أن يستوعبها التأريخ ويفسر ضروريتها الواقع لأن في الدين وجه أخر من الحقيقة هو وجه التساؤل الدائم عن سر الوجود وعن علاقة هذا الوجود بما ينتج من محددات فكرية وعقلية يسميها العلم الذي كلما تقدمنا نحو العمق فيه يفقد الإنسان نمطيته المزدوجة والمركبة بين عالمي الروح والمادة فيدخلها في نفق الحداثة الذي لا ينتهي إلا بضياع المسمى الإنساني ليتجرد بالأخر من تلك لروحانية المميزة فيقول "لا يمكن للوجود الدنيوي (الأرضي)، بسبب محدوديته وتناهيه أن يشبع قلب الإنسان بشكل كامل. هناك في فطرة الإنسان توقٌ وتطلعٌ نحو "الأكثر". ولا يمكن لعالم الممارسات الحياتية اليومية أن يشبع هذا التطلع" .
ما يستخلصه الدكتور هوستن من هذه العبارة الموجزة الإشكالية عظمى هو ما يعتقده أن الإنسان هو الذي أدخل نفسه في النفق الذي حاصره وضيق عليه عالمه الرحب من خلال ترك الدين جنبا واللهاث خلف العلم ومستجداته بطرف واحد لعله يخفف عن نفسه ثقل الجانب الروحي فيقول(إن الشرق والغرب يعانيان، كل بطريقته، من أزمة واحدة مشتركة سببها الحالة الروحية للعالم الحديث، فقد اتسمت هذه الحالة الروحية بفقدان اليقين الديني وفقدان الإيمان بالسمو والتعالي على الوجود المادي بآفاقه الرحبة الواسعة, طبيعة هذا الفقدان غريبة، لكنها في النهاية، منطقية ومتوقعة، وخاصة مع تدشين عصر النظرة العلمية البحتة، وبدء إحساس البشر بأنهم أصبحوا يمتلكون أسمى المعاني في العالم ويعرفون مقاييس ومقادير كل شيء، بدأت المعاني بالانحسار، وأخذت مكانة الإنسانية تتضاءل، لذا فقد العالم بعده الإنساني، وبدأنا نفقد السيطرة عليه ).
هنا يؤمن البرفسور هوستن بضرورة تخلُّص الروح الإنسانية من الرؤية النَفَقِيَّة للحداثة إذا أرادت أن تتقدم بنحو أفضل مما فعلته فيما سبق ,علية أن يدرك الإنسان أن الكثير من الأشياء لا يمكن إهمالها لمجرد اننا لا نستطيع تبريرها على المستوى التجريبي المادي ,علينا ان نكون أكثر عقلانية مع الأكثر علمية إنها العلمانية العاقلة التي تصوغ الفكرة متكاملة لا ان تنظر إلى نصف الحقيقة المرة, يكرر هوستن اعتقاده بعبارة اكثر ديناميكية في البحث عن العلة الضرورية فيقول(فقبل أن يأتي عصر العلم الحديث، كان الناس يعيشون ضمن الرؤية الكونية التي تتطابق مع الخطوط العريضة، رؤية تعددت طرق التعبير عنها، إلا أنها واحدة في الخط العام، وجاء العلم ليستبدل تلك الرؤية التقليدية، بالرؤية العلمية للكون ).
هذه الرؤية التي نشأت في الأصل في المجتمع الغربي وانتقلت بتردداتها السلبية إلينا دون أن نعي أن النقل الأعمى للتجريبية الحسية كنتيجة ليست خالية دوما من مشاكل مركبة وفقدت بكل سلبياتها علينا(لما سأله، باستغراب، أحد الصحفيين: تبدو دائما وكأنك غاضب من العلم! أجابه في عبارات بالغة الأهمية: "أنا غاضب من أنفسنا ـ نحن الغربيين ـ الذين تخلينا عن التفكير الصافي النقي، وسمحنا لأنفسنا بأن نصبح مهووسين بالأسس المادية للحياة، لدرجة جعلتنا نمنح العلم شيكا على بياض بشأن دعاوي العلم المتعلقة بالمعرفة والاعتقاد الصحيح"! ).
قد لا يجد عبد الكريم سروش وهو المثقف والمتبصر بالمعاني والمرادات اللفظية فرقا بين الضرورة الشرعية المستنبطة من أدلتها في دائرة الدين وبين الضرورات الأجتماعية التي تحتكم للتجربة والحس بها وهي من جنس الضرورات الطبيعية وبالتالي فهو يبني فهمه لبعض احكام الفقهية الأستنباطية على جنس الطبيعية الحسية لا على أصلها العقلي لكي يسوق مفهوم التكتم والتضييق بدل مفهوم التحقق والتفكيك(لا يمكن القول حينئذ أنّ وظيفتنا تتركز في إجراء الأحكام الإلهية في حركة الحياة بل وظيفتنا تتلخص في سلوك الطريق العقلاني في حلّ المشكلات الفردية والاجتماعية من خلال مقتضيات المصالح العرفية. ), المهم في منهج سروش حل المشكلات الفردية من خلال مقتضيات المصالح بعيد عن فهم العلل واستنباط العقل لمشروعية الضرورة في تجاز الأقلي المحرم.
المنهج الذي يمثله الدكتور عبد الكريم سروش وزملائه يتبنى التجريبية في معالجة الضرورة والمحذور القائم على أقصاء المحذور مهما كان طريقة معالجته سعيا وراء الضرورة أيا كان منهجها وهم بذلك يبرهنون على براغماتية التفكير والفهم الذاتي لهم للدين مبتعدين جدا عن العقلانية التي يسعى لها في دعواته للتحرر العقلي من الموروث التقليدي للفهم الديني ولكنه في التفصيلات البنائية في عمارة الفكر الهندسية كما يصفها يتخلى عن تلك العقلانية وينظر من زاوية تغليب الضرورة قبال المحذور الشرعي بدون متابعة العلة من الحذر والعلة المنشأ للضرورة , هذا المنهج يمثل الخروج الحقيقي عن المنطق العقلي والعقلانية بصورتها العامة, فهو يطبق تماما ما ينتقد به الأخرون بقوله ويتخذه منهج يخفي دوافع اخرى لا تخلو من هدف محدد (هنا أتحدث بصراحة عن الدوافع التي تقف وراء مخالفة هؤلاء(ازلام السلطة الدينية )للحرية، لأنّ جميع أدلتهم ليست منطقية وعقلانية ولا تنطلق من موقع الشفقة على الناس، بل أحياناً تنطلق بدوافع أخرى، ).
من هذه الدوافع التي حذر منها البرفسور هوستن هو ما وقع به بعض الليبراليين العرب بل غالبيتهم وهو إخضاع الدين للمنطق الحداثي منطق العلم المجرد من عقلانيته التي تعني أن نبسط العلم كأداة تفسير لا أداة حكم قاطعة ,أن في العلم حصيصة عدم الثبات ونكران الثبوتية وعدم الكمال المطلق حتى في جوانبه الخاصة ,قد تكون قاعدة علمية اليوم محل احترام يقيني لأن العقل لا يستطيع تجاوز هذه اليقينية بالوضع الراهن ولكن لا ندع ان هذا الحال هو حال الكمال ,ففي التجربة التاريخية للعلم امثال وشواهد كثيرة على انهيار عشرات النظريات العلمية التي تمتعت بيقينية حقيقية لفترة من الزمن ,ليكتشف الإنسان اخيرا ان هذا التسليم لم يكن بمحله وأن الوصول لهذه النقطة المحددة في العلم بحسب عاملي الزمان والمكان لا يحق لنا ان نجعلها بمحل قداسة بأي حال من الاحوال



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن