ميخائيل باختين ومفهوم الحوار عند دستوفسكي بترجمة لسعدي عبد اللطيف / الجزء الثالث

سعدي عبد اللطيف
saadiabdullatif@gmail.com

2013 / 6 / 13


ترجمة: سعدي عبد اللطيف *

ويشغل حوار الاعتراف مكانة عظيمة الاهمية في روايات دستوفسكي. ويظهر هنا دور الرجل الآخر ك”آخر” ايا كان , بجلاء ينبض بحيوية خاصة. لنلق نظرة سريعة على الحوار بين ستافروجين وتيخون كواحد من اكثر النماذج وضوحا للحوار الاعترافي.

ويحدد سلوك ستافروجين بكامله في هذا الحوار عبر موقفه الثنائي تجاه” الآخر” استحالة النجاح دون حكمه ومغفرته ومقاومته لهما في الوقت ذاته. ويشترط هذا جميع الوقفات وتقاطع حديثه, وفي تعبيرات وحركات وجهه وفي الالتواءات الحادة في مزاجه ونبرة صوته, والتحفظات الدائمة والتوقع في جمل تيخون والدحض الحاد لهذه الجمل المتصورة .

وكأن شخصين مندمجين في واحد يتحدثان الى تيخون بشكل متقطع. فهو يواجه صوتين يدعوانه الى المشاركة في الصراعات الداخلية.

“ بعد المجاملات الاولى التي تبودلت لسبب ما بارتباك واضح, قاده تيخون بعجلة وحتى بغموض الى غرفة المطالعة, واجلسه بسرعة على الأريكة امام المنضدة واخذ مكانه بجانبه على احد الكراسي المصنوعة من اماليد مجدولة. هنا ولدهشته اضاع نيكولاي فسيفولودفتش حضوره الذهني تماما. وبدا الامر كما لو انه بذل جهدا استثنائيا لاستجماع ارادته لعمل شئ ما غير اعتيادي وأساسي, ومستحيل في الوقت ذاته. وللحظة جال نظره في غرفة المطالعة, غير ملاحظ كما يبدو الامر, ينظرغارقا في التفكير , وغير واع ربما بما يجري . واعاده الصمت الى نفسه, وبدا له فجأة ان تيخون كان يخفض عينيه بخجل وبابتسامة لامبرر لها تماما. ملأته هذه اللحظة باحساس بالنفور والتمرد, واراد النهوض والذهاب متصورا ان تيخون ثمل بشكل واضح, لكن الرجل الآخر رفع عينيه فجأة لتواجهه نظرة حادة وعميقة تعبر بغموض غير متوقع, كاد يرتجف امامها, وسيطرت عليه الان فكرة مختلفة وبشكل مفاجئ بحيث عرف تيخون حينها لماذا جاء, وانه قد حصل على معلومات مسبقة ( بالرغم انه لايوجد احد في العالم يستطيع معرفة دوافعه) وأنه يحجم عن فتح الموضوع بنفسه, ويصفح بعدئذ عنه خوفا من اذلاله” .وتفيد التحولات الحادة في مزاج ستافروجين ونبرته في الحوار اللاحق باكمله اذ كان الصوت الاول يأمر فيتلوه الصوت الثاني, لكن غالبا ماكانت جمل ستافروجين تبنى على الألتقاء المتقطع للصوتين:

“ كانت هذه المفاجأت وحشية ومضطربة ( كفترات ظهور الشيطان لستافروجين) وبدت كأنها صادرة حقا عن رجل مجنون. لكن نيكولاي وفي الوقت نفسه تحدث بصراحة غريبة لم نلمسها عنده من قبل, وتناقض ببساطة طبيعته تماما, وبدا كما لو ان الرجل السابق فيه قد اختفى فجأة وبصورة غير متوقعة. ولم يكن على الاقل منزعجا كي يظهر الرعب الذي تحدث عنه لزائره. لكن ذلك كله كان قصير الامد ويختفي فجأة بالطريقة التي جاء بها” . قال بسرعة وبضيق جاف :” كل هذا هراء ! سأذهب لعيادة طبيب. وهراء كل هذا سأذهب الى الطبيب للمعالجة. هراء بشع, تلك ذاتي تماما . ولكن من جوانبها المختلفة. هذا كل ما في الأمر, وكما أضفت تلك ... العبارة فأني اتوقع انك تعتقد اني مازلت اشك ولست مقتنعا انه انا تماما وليس الشيطان حقا”.

هنا في البداية نحصل على الانتصار التام لأحد اصوات ستافروجين ويبدو كما لو ان” الرجل السابق فيه قد اختفى فجأة وبلا توقع”, لكن بعد ذلك يقتحم الصوت الثاني, محدثا تغيرا حادا في النبرة ومحطما الجملة. وحدث التوقع النمطي لرد فعل تيخون مع جميع الاغراض المألوفة المرافقة.

وفي النهاية, وقبل ان يسلم الى تيخون اوراق اعترافه, يقاطع فجأة صوت ستافروجين الثاني حديثه وغرضه, مؤكدا استقلاليته عن الآخر, واحتقاره له بمعارضة مباشرة لخطة الاعتراف ونبرة الاعلان ذاتها.

“ اسمع! , لا أحب الجواسيس وعلماء النفس, على الاقل ذلك النوع الذي ينبش في روحي. لا أدعو أحدا الى روحي, ولا أحتاجه, لذلك استطيع تدبير اموري بنفسي. هل تعتقد اني اخاف منك”, وتحدث بصوت اعلى رافعا وجهه بتحد” انت مقتنع تماما اني قدمت كي اخبرك بسر” مرعب” وانت تنتظر ذلك بكل الفضول المكبوت الذي تقدر عليه, افهم الان, لم اخبرك بأي شئ, ولا بسر واحد, لاني اتسطيع تدبير اموري من دونك”.

ولا يشبه تركيب هذه الجملة ومكانها في الحوار كله, اية ظواهر معينة حللناها في رواية” من قبوي”. اذ يجد الميل نحو اللامحدودية الطاغية في العلاقة ب” الآخر”, اقصى تعبير له هنا.

ويعرف تيخون انه يجب ان يمثل” الآخر” لستافروجين وان صوته لايقف ضد صوت ستافروجين الحواري بل عليه اقتحام حواره الداخلي حيث موقع” الآخر” مثلما مر انفا.

“ اجبني على السؤال بصدق لي وحدي, وحدي فقط” قال تيخون بصوت مختلف تماما, مضيفا:” اذا سامحك احد على هذا ( يشير تيخون الى الصفحات المكتوبة), احد ما لاتحترمه او تخافه بل ولا تعرفه, احد لن تعرفه مطلقا, ويقرأ بصمت اعترافك المرعب مع النفس, فهل سيجعلك ذلك تشعر بالراحة, ولا تهتم لذلك؟” .

اجاب ستافروجين بصوت خفيض وهو يمسح عينيه:” اشعر بالراحة. اذا عذرتني علي ان اشعر بالراحة”. فقال تيخون بصوت مؤثر” شرط ان تسامحني ايضا”.

يظهر هنا دور” الآخر” باقصى وضوحه, الرجل الآخر كما هو, عاريا من كل ملموسية ذرائعية اجتماعية مميتة. هذا الرجل الآخر” شخص ما لاتعرفه, شخص لن تعرفه ابدا” يلعب في الحوار خارج الحبكة وخارج الدور المعين له فيها, دور” رجل داخل رجل” بشكل تام ممثلا” لجميع الآخرين”. فبالنسبة” لي” ونتيجة لوضع هذا”الآخر” يتخذ الاتصال صفة خاصة ويبدأ خارج كل الاشكال الاجتماعية الملموسة والواقعية (العائلة, الطبقة, الارض, الحبكة ).

ولنلق نظرة على مسألة عملية الكشف بوضوح استثنائي عن دور” الآخر” هذا. ف”الزائر الغامض” وبعد اعترافه امام زوسيما بالجريمة التي اقترفها, في امسية ندمه العلني, يعود اليه في الليل كي يقتله, ويتمثل دافع العمل هذا بالحقد المحض على”الآخر”. وهنا الطريقة التي يصف بها حاله:

“ خرجت من عندك الى الظلام, تجولت في الشوارع وكنت اصارع نفسي. فجأة تملكني حقد عليك, وكاد قلبي ينفجر. وفكرت انه وحده من كبحني وعاقبني, ولا استطيع رفض تنفيذ الحكم فيه لانه لايعرف كل شئ. لم يكن الامر خوفا من ان تتهمني ( لم افكر بذلك مطلقا), لكني فكرت: كيف سأنظر في وجه اذا لم ادن نفسي؟ وحتى لو كنت في اية بقعة من الارض, لن اقدر مادمت حيا على تحمل فكرة انك حي وتعرف كل شئ عني وتدينني. كرهتك كما لو انك السبب لكل شئ وان كل ماجرى حدث بسبب خطأك”.

ويقدم الصوت الحقيقي” للآخر” في الحوار الاعترافي, ظروفا متشابهة كل الدوام, ويوضع بتعمد خارج الحبكة. وبشكل غير واضح تقريبا, فان تقديم” الآخر” بهذا الشكل يشترط جميع الاشكال المهمة لحوار دستوفسكي بدون استثناء. وتوجه الحبكة اشكال الحوار لكل نقاط الذروة – اعلى نقاط الحوار- ترتفع فوق الحبكة في محيط تجريدي من العلاقة بين انسان وانسان.

على هذا النحو ستنتهي تحليلاتنا لانواع الحوار, بالرغم من بعدنا تماما عن استنفاذها جميعا. اضافة الى ذلك فلكل نوع منه عدة اشكال, لم نتطرق اليها على الاطلاق. وتبقى في كل مكان المبادئ البنائية ذاتها. في كل مكان يوجد التقاطع, الانسجام او الصراع المتقطع للجمل في الحوار الصريح مع جمل” المونولوج” للشخصيات. وفي كل مكان – كم واضح من الافكار, والاراء والكلمات – يتم التوصل اليها عبر اصوات غير مرتبطة وتظهر تشكل مختلف في كل صوت. ان هدف جهود المؤلف لاتتمثل بالقليل في كم الاراء ذاتها بشكل حيادي ومكتف بذاته, كلا فالهدف يتمثل في تطوير موضوع عبر اصوات مختلفة عديدة, اي ماقد يسمى بالمبدأ القصدي الثابت لتعددالاصوات, ووفرتها, والتي يحمل كل واحد منها اجزاء مختلفة. بالنسبة لدستوفسكي الشئ المهم يتمثل في الاعادة الفعلية لترتيب الاصوات وتأثير الواحد منها على الآخر.

وبهذه الطريقة يجري التعبير عن الحوار خارجيا كجزء من التركيب الذي يرتبط بشكل لاينفصل مع” المونولوج”, اي الميكرو- حوار بل وحتى يعتمد عليه الى حد ما. وكلاهما مرتبطان تماما وبشكل متساو مع الحوار الاكبر للرواية ككل. ان روايات ديستوفسكي حوارية بكل مافي الكلمة من معنى.

هذا الادراك الحواري للعالم يتخلل جميع اعمال دستوفسكي الآخرى بدءا من” الفقراء” ولهذا فأن الطبيعة الحوارية للكلمة تتخلل جميع رواياته بوضوح وذات قوة هائلة وتأثير مباشر. والدراسة الميتا – لغوية لهذه الطبيعة وخاصة الاشكال المختلفة والمتنوعة للكلمة ذات الصوتين وتأثيرها على الجوانب المختلفة لتركيب الكلام يفترض ايجاد حقل بحث استثنائي مثمر لجميع اعماله.

وكأي فنان عظيم بكل معنى الكلمة, كان دستوفسكي قادرا على ان يسمع وينقل للوعي الفني – الخلاق جوانب جديدة للكلمة, وبعمق كثيف, حيث ان الفنانين الذين سبقوه لم يتوصلوا الى ذلك بوضوح وقوة. ان الوظائف التصويرية والتعبيرية للكلمة او قدرتها موضوعيا لاعادة خلق الخصوصيات الاجتماعية والفردية في كلام شخصياته, بغض النظر عن سماتها اللغوية لم تكن تمتلك اهمية فحسب بالنسبة لدستوفسكي, بل ان مايمتلك اقصى اهميبة بالنسبة له يتمثل في التفاعل الايديولوجي للحوارات بغض النظر عن سماتها اللغوية لان الموضوع الرئيسي الذي يريد وصفه هو الكلمة ذاتها, المعنى الكامل للكلمة , ان اعمال ديستوفسكي عبارة عن كلمة حول الكلمة الموجهة للكلمة.

انتهى

* سعدي عبد اللطيف: كاتب وناقد واعلامي عراقي مقيم في المملكة المتحدة واستاذ سابق للادب الانكليزي في العراق والجزائر. ترجم ونشر عشرات النصوص الفلسفية والشعرية والوثائق السياسية الى جانب ما له من دراسات ومحاولات في النقد الادبي المعاصر والفن.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن