اقتباس ، أم سرقة فاضحة ؟

حميد طولست
hamidost@hotmail.com

2013 / 5 / 10

اقتباس ، أم سرقة فاضحة ؟
توطئة : هذه المقالة هي رد على تعليق أحد كتبة "الحوار المتمدن" المقتدرين الأستاذ ماجد الشمري والذي اتهمني من فيه يوم 5/5/2013 " بالإغارة على جهده الفكري (هوامل في يوم عامل ) المنشور في نفس الموقع والذي ضبطني متلبسا بالاستحواذ عليه ونسبته لنفسي ..
ــ إني ما أردت من وراء هذا الرد ، إلا اثارة انتباه الأستاذ المحترم إلى أن الاقتباس الفكري والعلمي ، لأمر معمول به في كل العصور ، وفي كل الحضارات ، ولدى كل الشعوب ، وفي كل الفنون ، وعند أكبر الكتاب والفنانين والمبدعين ، وتجيزه قوانين النشر ، في كل الإبداعات الإنسانية وفي كل بلدان العالم ، بدون الحاجة إلى إذن الناشر الأصلي , لأن المنتوج الإنساني ، يصبح مشاعا عالميا وكونيا بمجرد خروجه من دور النشر ، أو بعد أن يدوس أصبع منتجه على زر "ارسل" فيصبح ملقى على قارعة الطريق ، ولا يعود لأحد أن يحتويها كملكية شخصية خاصة ضيّقة ، كما عبر عن ذلك الجاحظ في مقولته البليغة الشهيرة : "إن المعاني ملقاة على قارعة الطريق " وعنى بذلك، أنه بإمكان أي مبدع أن يلتقط تلك المعاني والاقتباسات من الأعمال التي يعجب بجمال عبارتها ، وتسحره حلاوة صيغها ، ويُدْخلها في منتوجه الفكري الأدبي أو العلمي أو الفني ، ويعيد صياغته في قوالب إبداعية تعينه على إنتاج أعمال معيّنة بحسب معايير متشابهة , أو قريبة من الأصل الذي غُرف منه ، لكنها ليست هو بكل الأحوال ، وإن كانت في أحيان كثيرة، أقرب إلى قاعدة يُرتكز إليها في إعادة توظف المُقْتَبَسِ الذي يضفي عليه المُقْتَبِس بعضا من لمساته الخاصة ، ومشاعره وأحاسيسه الشخصية، التي تضع حدا لمجرد وجود احتمال ولو صغير بأن يصبح المُقتبَس بديلا كاملا عن المصدر الأصلي ، ويغني الباحث والقارئ عن الرجوع إليه ..
وكما هو معلوم لدى المتعلمين –إلا ما نذر من ذوي النظرة الضيّقة أو محدودة - أن المنجز الحضاري الإنساني العالمي ، يتميز بصفة التراكميّة التي لم تنتجها أمّة من الأمم لوحدها ، لأنها هي محصّلة جهود فرديّة وجماعيّة ، اعتمدت - في الماضي كما في الحاضر - في تسطير جزء كبير من الملاحم الفذّة والعبقرية للحضارة الإنسانيّة ، على الاقتباس ، وعلى ما تضيفه كل امّة من اضافات تنتفع بها البشريّة جمعاء ، إلى التراكم الذي أنجزه الكثير من الأشخاص والأمم التى ما سبقتها ، فما أنجزه العرب مثلا ، لم يُنجزوه لوحدهم ، بل تداخل معهم ما أنجزته الأمم التي دخلت في الإسلام ، فلا أحد يستطيع اليوم أن يُنكر أصل ابن سينا ولا الفارابي ولا الخوارزمي ، ولا أحد يمكنه أن يُنكر ما أضافه علماء ومفكرون وأدباء وفنانون عرب وفرس وأتراك وغيرهم من الأمم والأجناس ، إلى هذا التراكم الهائل للحضارة الإنسانية ، والذي لا فضل لأحد على أحد في انجازه وحده ، والذي تم ، وبدون شك ، بفضل التأثر بمنجزات الغير والتأثير فيها ، والذي اصطلح على تسميته بالاقتباس ، الذي يبقى ممارسة إبداعية حقيقية ، وابتكارا أصيلا ، لا يشعر معه أي شخص أو أمّة أو شعب أنه مدين للآخر ، وفي نفس الوقت ومن منطلق المفاهيم الجدليّة هم مدينون لبعضهم البعض ، لتأثرهم بمنجزات سابقيهم -المعاني الملقاة على الطريق- وتأثيرهم في الخلف ، بإعادة الاشتغال علي الملقى في قارعة الطريق ، كما في عالم الفن عامة والموسيقى ، ذاك المنجز الحضاري الإنساني العظيم على الخصوص ، حيث يحضر بحدة الاقتباس الذي يطلقون عليه "التنويع" والذي يستعير به المؤلف الموسيقي الكثير من الجملة اللحنية ، من أسلافه من الموسيقيين ، ويعيد الاشتغال عليها ، ولعل حال يوهان برامز أوضح مثال , إذ نجد من أعماله تنويعاً على نشيد هنغاري بل نجد أيضاً تنويعاً على لحن قديم له ، وكذلك نجد أن بعض أعمال العبقري الموسيقي الأكبر باخ مثلاً هي اقتباس مشهور ومطول من أعمال للموسيقي بوكستهودة ، كما أن أعمال موزار لم تخلو هي الأخرى ، من اقتباسات واضحة عن سلفه هايدن ، وكذلك بتهوفن الذي اقتبس من رقصة إيطالية ، مدخل سمفونيته الخامسة ، التي فعل معها الموسيقار الكبير عبد الوهاب ، نفس الشيء حين اقتبس منها مقدمة لأغنيته "أحب عيشة الحرية"..
ــ من هنا ، وإذا سلّمنا بما جاء في هذه المقدمة ، فإنه ليس من حق أي كان ، أن يجعل الاقتباس المحدود -المخالف للنسخ أو التقليد أو الاستحواذ طبعا , والذي يمثل خرقا غير قانوني لحقوق النشر ، بما يعيد من إنتاج عمل الغير ، في شكله المطابق للأصل , أو الشديد الشبه به - رديفا للسرقة والإغارة على الجهد الفكري والفني والعلمي للآخرين ، والذي هو في حقيقته ليس كذلك .
كما أنه يصبح من العبث أن نسأل عن أصل المنجز او المبتكر الإنساني العلمي أو الفكري أو الفني ، وإن فعلنا ذلك فإننا لا شك سنقع في غباء من يسأل "من الأسبق البيضة أم الدجاجة؟ أو نسقط في خانة المغفلين الذين يسألون عن البنّاء الذي بنى الأهرام ، أو سور الصين ، والذي من المؤكّد أنهم بآلاف البنائين ، وليس واحداً ..
كما فعل الكاتب المقتدر الأستاذ ماجد الشمري، والذي لو تحلّي بشيء من الموضوعيّة ، وعالج الأمر بالمنطق وقواعده ، لما اتهمني ، بالاستحواذ على نص منتجه وإبداعه " هوامل في يوم عامل " . لكنه تسرع وفعلها،–وهو معذور- ربما عن جهل أو تجاهل ، أو لما وقع فيه ، مع الأسف الشديد ، من خلط فاضح بين السرقة والاقتباس , والاستعارة ، والاستلهام ، والتي رغم أن لكل منها دلالته الخاصة ، إلا أن الجوهر يبقى واحدا ، حيث لا يستعمل أي منها إلا عند وجود سمات مشتركة ، بين نتاجين إبداعيين ، أحدهما سابق عن الآخر ، وأن الثاني يحاكي الأول ، أو يستوحيه ، أو يسرقه جزئياً أو كلياً وينسبه إلى نفسه.
أو لنسيانه أو تناسيه ، أن قضية الاقتباس ومكانته في تاريخ الآداب والفنون ، والحدود الفاصلة بينه وبين السرقة ، هي أعقد وأطول القضايا الثقافية عمراً ، وأكثرها إثارة للجدل والدراسة ، ولعل أغرب الدراسات الأدبية التي عرفتها ، هي تلك التي ظهرت في أواسط القرن العشرين، والتي يقول فيها صاحبها , وهو ناقد إنجليزي , إن الموضوعات الأساسية لكل الأعمال الأدبية والفنية لا يتعدى تعدادها ستة وثلاثين موضوعاً. ومن هنا فإن كل إبداع العالم , شرقاً وغرباً , شمالاً وجنوباً , وفي كل زمان , يدور حول هذه الموضوعات ، ويبقى المهم ، هو كيف يعالج كل مبدع الموضوع نفسه , معالجة مختلفة عمن سبقه ، ممهداً الطريق لمن سوف يأتي بعده ليخوض اللعبة بدوره على نحو مختلف.
قد يكون في هذا الكلام شيء من المبالغة والغرابة , لكنه في نهاية الأمر منطقي ، حيث نجد أن وليم شكسبير ، وهو وبكل المقاييس ، وحسب كل الاستطلاعات ، أعظم كاتب مسرحي أنجبه الإنجليز ، وواحد من أعظم الكتاب الذين أنجبتهم البشرية في تاريخها ، ومع كل ذلك ، لا نجد من بين النصوص العديدة , , التي كتبها -المسرحية منها على الخصوص ، هاملت و عطيل و ماكبث ، وغيرها من الروائع - نصا واحدا كان هو مبتكره الأصلي ، بل كل ما كتبه ، كان إعادة وتفسيرا وحكي من جديد لانتاجات و أحداث سبقه إليها غيره في زمن ما ومكان ما.
أفلا يعد هذا من الناحية المبدئية , وبالمعيار العلمي الجاف ، أقصى حالات السرقة الأدبية ؟ لكن الواقع المعاش ، وبالمعيار الفني الإبداعي البحت و الأخف وطأة ، يقول : أنه اقتباس، تتجلى فيه قدرة العبقرية الشكسبيرية على التوفيق بين أعمال شكسبير والمقتبس من حكايات وأحداث تاريخية لشخصيات سبق وجودها على وجوده ..
فما رأي الأستاذ ماجد الشمري؟ هل لازال متمسكا باتهامي بالسرقة الفاضحة ؟ أم أن الحقيقة الناصعة قد تجلت أمام ناظريه، ووعى ان ما قمت به من اقتباس محدود ومسموح به، كان تثمينا لعمله الفني ، وإكبارا لمبدعه ؟ ..
حميد طولست Hamidost@hotmail.com



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن