في شغل فاكهون

نافذ الشاعر
nafez22@yahoo.com

2013 / 3 / 28

عندما يكون للإنسان عمل يداوم عليه ويشغل أوقاته، ثم يترك هذا العمل مرغما تحت ظرف من الظروف، فإنه يشعر بالهم والنصب لأنه أصبح فارغا متبطلا بلا عمل كما كان في السابق، وفي هذا المعنى جاءت الإشارة بقوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ}الشرح7. وقد جاءت هذه الآية في نهاية سورة الشرح، يعني شرح الصدر، وكأنها تقرر العلاج النفساني لضيق الصدر وانقباضه؛ فتقول إذا فرغت أيها الإنسان من عمل وأنجزته فيجب عليك أن تبدأ بإنجاز عمل آخر وهكذا، حتى لا تصاب بالكآبة والقلق، لكن مع الرغبة الصادقة والتوجه المخلص إلى الله..
وقوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} فيه معنيان، الأول تقريري يقرر حقيقة لابد واقعة متى وقعت أسبابها وتهيأت ظروفها؛ لأنها مرتبطة ببعضها ارتباط السبب بنتيجته، وذلك مثل قولنا: فإذا ذاكرت فانجح، أو فإذا كفرت فاشقى، أو فإذا شربت الخمر فاسكر.. يعنى إذا ذاكرت لابد أن تنجح، وإذا كفرت لابد أن تشقى، وإذا شربت الخمر لابد أن تسكر، وبالتالي يكون معنى الآية {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} أي إذا خلتْ يداك من عمل لابد أن تحزن وتتعب!
أما المعنى الثاني لقوله تعالى {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} فهو الحض والنصح والترغيب على العمل وشغل الوقت وتزجية أوقات الفراغ؛ كقولنا: فإذا حكمت فاعدل، وإذا تكلمت فاسمع، وإذا أطعمت فاشبع.. فيكون معنى الآية {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} أي إذا فرغت من عمل فاشغل نفسك بعمل آخر وهكذا لئلا تصاب بالكآبة والحزن..
وهذه الكآبة التي يحس به الإنسان في وقت فراغه سببها أن كيانه النفسي مفطور على الجد والعمل؛ فلا يجد أمنه واستقراره إلا في دوام الكدح والتعب.. وفي هذا المعنى جاءت الإشارة بقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ }البلد4.

وفي دراسة مهمة يذكر د.مصطفى سويف، أن تأثير العمل ينفذ إلى نفوسنا من خلال خمسة منافذ رئيسية هي:
أولا: عندما نؤدي عملا ونحاول إتقان خطواته فإننا نضطر إلى تنشيط عمليات عقلية كثيرة، مثل تركيز الانتباه في الأجزاء التي نعمل على إنجازها، كما نعمل على تنشيط الإدراك الدقيق لخصائص هذه الأجزاء، والأجزاء الأخرى التي أنجزناها من قبل. كذلك نعمل على مزيد من التحكم في حركتنا التي نستخدمها في إتمام هذا العمل؛ تصور أننا مكلفون بتقليد صورة مرسومة وذلك بأن نرسم صورة مماثلة لها، أو أننا مكلفون بصنع منضدة بناء على أوصاف مكتوبة أو مرسومة أمامنا.. في هذه الأمثلة البسيطة تستطيع أن تدرك دلالة العمليات السلوكية مثل: تركيز الانتباه، ودقة الإدراك، والتحكم في حركات اليد والأصابع..
ثانيا: كثيرا ما تستيقظ أثناء قيامنا بالعمل رغبات معينة في نفوسنا طلبا لأمور قد تسعدنا، ولكن لا صلة لها بالعمل الذي بين أيدينا، كان أتذكر صديقا أود أن أراه وليس لهذا أية علاقة بالعمل الذي أقوم به، فأقرر فورا أن أعطل هذه الرغبة في اللحظة الراهنة على أن أشبعها في لحظة أخرى مناسبة، وذلك منعا من تعطيل العمل، واستمر في عملي الذي أنا بصدده. ويتكرر ذلك من حين لآخر، ومن خلال هذا التكرار أزداد تمكنا من التحكم في رغباتي ونزواتي في سبيل مزيد من التنسيق بين مطالب العمل ومطالب الذات.
ثالثا: تنشط عندي مجموعة من العمليات تدور حول إدراك دور الطرف الآخر الذي أتعاون معه، وذلك لكي أعرف أين ينتهي دوره وأين يبدأ دوري ليتكامل معه في الناتج الأخير. وكلما كان إدراكي لمهمة الشخص الآخر دقيقا كان ذلك أدعى إلى أن أؤدي مهمتي المكملة لوظيفته على وجه أفضل، أي دون تضارب معه، بل ومع مراعاة قواعد النسبة والتناسب بين دوري ودوره، وفي هذا السياق وأمثاله ينمو التدريب على إدراك ما يسمى "الأدوار الاجتماعية" كما تنمو القدرة على قيامنا بما يخصنا من هذه الأدوار، وتهذيب هذا الجزء الذي يخصنا.
رابعا: تنشط وتنمو وظائف التصور أو التخيل، ويكون النمو في هذه الحالة صحيا لأنه يكون محكوما بمقتضيات العمل، فهو نمو داخل إطار محكوم، وليس نشاطا هلاميا كشطحات الخيال في أحلام اليقظة المرضية التي تنطلق دون ضوابط من الواقع المحيط بنا.
خامسا: تنمو من خلال العمل قدرات الملاحظة المنعكسة على ذواتنا، فنتعلم كيف نرصد كل صغيرة وكبيرة مما يصدر عنا من أفكار ومشاعر وأفعال، وكيف ننظر فيها بنظرة ناقدة، وبالتالي كيف ندخل عليها أقدارا متفاوتة من التغيير والتعديل من حين لآخر حتى يستوي لدينا أفضل أداء ممكن. ومن هنا تجتمع لنا مجموعة من القدرات تصب في وظيفة كبرى نسميها "وظيفة التعديل الذاتي المتواصل" وهي وظيفة تقوم في جوهرها على أن نكون فاعلين ومنفعلين في الموقف الواحد، وفي اللحظة الواحدة.

وهذا جوهر اللياقة النفسية الذي يتمثل في إكساب النشاط النفسي هيكله الداخلي فتنطلق لدينا منظومات الفكر والعاطفة والفعل.. وقد احتفظت كل منها بقسماتها الداخلية واضحة مفصلة، وبتناسقها فيما بينها بدرجة عالية من الدقة والكفاءة

ومن هنا، نجد أن كثيرا من المصحات النفسية تضم قسما يسمى "قسم العلاج بالعمل". ويتلخص هذا العلاج في جعل العمل وسيطا بين المعالج والمريض، وذلك بدلا من الكلام الذي يسود في كثير من أنواع العلاج النفسي المعتادة، وفي هذا الصدد يحاول المعالج استكشاف أقرب الأعمال إلى قدرات المريض واهتماماته أو هواياته، ثم يحاول أن يدفعه إلى ممارسة هذا العمل في سياق برنامج من المستويات المحددة، التي تتدرج من حيث المدة التي يستغرقها الأداء والدقة التي يتطلبها على أن تصحبه عناصر الحفز والتشجيع والمكافأة.. وقد يكون سياق العمل فرديا أو جماعيا، ومن خلال العلاقة التفاعلية بين المريض وعمله تنضج عدة عمليات نفسية يكون من شأنها إقرار حالة الشفاء والصحة المنشودة... وإلى هذا المعنى جاءت الإشارة بقوله تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ }(يس55). فهذه الآية تفيد بأن أصحاب الجنة لن يكون في بطالة دائمة، وذلك لما للبطالة من آثار نفسية ضارة على صحة الإنسان النفسية.. فأصحاب الجنة غير فارغين ولا متبطلين، وإنما هم في شغل يشغلهم، ويزجي أوقات فراغهم، ولكن هذا الشغل ليس كشغل الدنيا يساق إليه الإنسان مرغما، وإنما يؤدونه وهم فاكهون مرحون..، فقد جاء معنى فاكهون في لسان العرب: فكه فهو فاكه، يعني طيب النفس ضحوك، أو يحدث صحبه فيضحكهم، ويقال فاكهه يعني مازحه.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن