موفَّق السواد في (أسرَّة الفتنة): مُخيّلة مشتعلة تستقطر عسل الكلام

عدنان حسين أحمد
adnanahmed9@hotmail.com

2005 / 4 / 2

تحتاج قصيدة موفق السواد، بوصفه شاعراً منعتقاً من ربقة المرجعيات الشعرية الماضية، إلى معاينة خاصة، ليس لتمرده على الأوزان الخليلية، وعدم التزامه بقواعد واشتراطات القصيدة الكلاسيكية التي لم تعد تستجيب لروح العصر، ومتغيراته المتسارعة، وإنما لانقطاعه إلى التأمل، والتخيّل، والاستقصاء، وابتكار صور شعرية لها دلالات جديدة لا تتماثل، بالضرورة، مع الموروث الشعري الجمعي، ولا تنشد التطابق معه بحيث تصبح تكراراً، ومشابهة فجة، لا تتجاوز حدود الاستعادة والاجترار أو التفسير الذي لا يخرج عن أسْر الدلالات القديمة. من هنا يمكن القول إن شعرية موفق السواد تدور في فلك البحث والمغامرة، وليس في الوصول إلى نهاية محددة أو مرسومة سلفاً. الشعر الخالص لا ينهمك في الصور الشعرية المُنجزة، ولا يعير بالاً للموضوعات المُستهلكة، لأن الشعر في جوهرة بحث محموم في الأشياء الغامضة، لا الواضحة، والمحجوبة، لا المكشوفة، والغيبية، لا العقلانية، والمقصيّة، لا المكرّسة. الشعر الحقيقي لا يبحث عن إجابة محددة لسؤال معين، لأن همّه الأساس هو إثارة أسئلة متواصلة لا تتوقف عند حد ثابت، لأن روح الشعر تكمن في حركته، وتغيير اتّجاهاته، لا في ثباته وجموده. إنَّ كتابة نصٍ شعري ناجح يحفر عميقاً في الذاكرة الجمعية هو أشبه بتأليف عمل سمفوني مُتْقَن لا يتقبّل الخطأ. ولكن كيف يتأتى للشاعر أن يصل إلى القصيدة (الصافية) المشذّبة التي تخلو من الشوائب تماماً؟ هذا سؤال عصيب، وشائك، لكنه ينطوي على قدرِ كبير من التحدي الذي يستدعي تدجين الذات الخلاّقة، وتطويع المخيلة المُستفزّة، ولَيّ عنق اللغة الشعرية بحيث يتفادى الشاعر الصياغات المُستنفدة، والبنى السائدة التي فقدت بريقها، ويأتي بصياغات جديدة تبعث على الدهشة، وتثير لدى القارئ شهية السقوط في فخ التساؤلات الوجودية الكبيرة المُحيرة والمُلغزة. ولو سلّمنا جدلاً بأن الشاعر راءٍ يحمل قدراً ما من النبوءة، ومستكشف يعِد (المَعْنيين بفعل الدهشة) بمفاجآت، وكشوفات لم يسبقها إليه أحد من أقرانه في هذا الفن القولي البليغ، والمكثف، والقادر على استفزاز، وإشعال مخيّلات الآخرين، وتحريضها على التحليق في مدارات النشوة الملونة، فإن هذه النبوءة تظل مُشوشة، ومرتبِكة، وغير قادرة على الإقناع ما لم تتمترس خلف بنية فنية شديدة الإتقان، تلفظ أخطاءها خارج (شكل النص الخارجي، وبنيته الداخلية العميقة). هل أفلح الشاعر موفق السواد في كتابة هذا النص (العَصيّ) الذي يُشبه مُنتجه، ولا ينتمي إلى عامة الشعراء بحيث يبدو مثل (ماركة مسجّلة) باسمه فقط ونستطيع أن نردّه في لمح البصر إلى خالقه، وصانعه الأمهر؟ هذا السؤال يحتاج إلى إجابة مُحايدة، تُطيل النظر في منجزه الشعري، وتتمثله جيداً، وتفحص مكوناته، ومصادره، ومرجعياته الأساسية. في ديوانه الأول باللغة العربية (أسرّة الفتنة) ثمة محاولة (للتفرّد) وتأسيس خصوصية شعرية تنتمي لذات المبدع أكثر من انتمائها إلى المناخ الشعري العربي السائد، في المنفى تحديداً، لأن جزءاً من هذه الخصوصية الشعرية متأتٍ من النحت بالأظفار، ومحاولة قطع صلة الرحم بالمنجز الشعري الماضي، أو عدم الاتكاء عليه كلياً. وفي أغلب نصوص الشاعر موفق السواد ثمة (نبرة خاصة) تميّزه عن أقرانه من الشعراء الآخرين، و (إيقاع) محدد ينتمي إلى مناخاته الشعرية التي لا تجد فيها أصداءً لتجارب سبقته زمنياً. وهذا لا يعني أن الشاعر موفق السواد حبيس زمنه الحالي، وأسير تجاربه الشعرية فقط، لأنه لا يستطيع أن يمنع نفسه من استقبال المؤثرات الشعرية التي قد تتسرب إلى ذاكرته أو لا وعيه الفردي. إن موفق منفتح على تجارب الآخرين، وقارئ جيد لها، لكنه بفعل حدوسه، ومجساته ليس ميالاً إلى السقوط في فخ النمطية، أو إعادة إنتاج ما سبق إنتاجه، لأنه بدأ مشروعه الشعري بعيداً عن القوالب الصدئة، والنماذج القديمة. وهذا الميل يشجعنا على القول إن موفقاً شاعر جريء، ومغامر، ذو مخيلة مشتعلة، تستخلص الصور الشعرية، وتستقطر عسل الكلام، ولا يتورع عن الخوض في التجريب بحثاً عن النصوص غير المكتوبة، وعن الدلالات غير المُنمذجة بعد.
قبل الولوج إلى قصائد هذا الديوان أود التوقف قليلاً عند (العناوين) الدالة التي ينتقيها موفق بعناية فائقة، بعضها عناوين مكثفة، باطنية، ومموهة بطابع تجريدي مثل (أصوات دكناء)، (بياض الحانة)، و (مطلق حذاء). ففي العنوان الأول (أصوات دكناء) رحّل الدلالة الصوتية لـ (أصوات) إلى مدلول (بصَري) غير صوتي وهي صفة (دكناء) ومزج بواسطة آلية (تجريدية) أو سريالية، إذا صحَّ التعبير، بين دلالتين، سمعية وبصرية، فخلق لنا عنواناً فنتازياً فيه نوع من الدهشة غير المطروقة سابقاً. وفي هذه القصيدة تحديداً ثمة (إهداء) متفرّد، ليس في معنى الإهداء أو غرابة مضمونه، أو نبوّه عن الاهداءات المتعارف عليها، بل للتماهي الذي أحدثه الشاعر بين اسم المُهدَى إليه (أنتوني متسوّلاً) وبين النص الشعري الذي يحاكي روح المتسوّل الهولندي، ومعالمه الخارجية. بينما تكاد تكون اهداءات الشعراء الآخرين إلى أناس معينين لا علاقة لها بمتون النصوص التي يكتبونها.
هيمنة الصور الفنتازية:
وتعزيزاً للنَفَس السريالي الذي أشرنا إليه، فإن هناك الكثير من الصور الشعرية التي يزخر بها الديوان هي من نتاج مخيلة سريالية تتميز بجنوحها المفرط إلى (الفنتزة) مثل (جيوب الغيم، ملأنا سلالنا بالمطر، عُشاق مُجففون، يصطادون هواء الحدائق، يزرع الغيم، ينهدم الدم في أصابعه، لملم أفكاره المتساقطة، قصائدي تنمو فوق الطاولة، نساء نسينَ عيونهن عند النبع، أمشّط رأس الحلم) وغيرها من هذه الشطحات التي زيّنت قصائد هذا الديوان. إضافة إلى استعمالات الشاعر الذكية إلى الـ ( Personification ) أو (الأنْسنة)، أي إضفاء الصفات الإنسانية على النبات، والحيوان، والجماد مثل (أنهار تلهث، و صلب المساءات، الفكرة هربت وارتطمت في النافذة، السنديانة العجوز قد أضاعت أقراطها سهواً الخ) هذا التداخل أو اللعب على الصفات والممارسات الإنسانية هو الذي يمنح النص نكهة مميزة، خصوصاً إذا كانت المجازات، والاستعارات، والتشبيهات غير مُستهلكَة وجاءت في محلها. أي ضمن السياقات الفنية الصحيحة لبنية النص الشعري المتماسك والناجم عن مخيلة متوقدة. تبدو هذه القصيدة، وكما في قصائد أُخَر، وكأنها مرسومة رسماً بأنامل مخيلة متأججة (ربما لأن الشاعر موفق السواد فنان تشكيلي أيضاً، لكنه لم ينقطع كلياً للرسم) فبنية المشهد العام لهذه القصيدة تأخذنا إلى فضاء لوحة تعبيرية بالتمام والكمال، تدور ثيمتها الرئيسة على (أنتوني المتسول في بلده) وهو مثل المعادل الموضوعي (للشاعر الذي يتسوّل في المنفى " مجازاً " ) ثم يعمّق الشاعر هذا المعادل الموضوعي بإضافة البعد الفنتازي حين يعطف (الطائر الخرافي)، الصورة المجازية المتخيلة على المتسوّل الذي (يؤبّن السنة الماضية في جيبه) أو يؤبن إفلاسه المستديم في حقيقة الأمر. فهذا المتسوّل الهولندي هو أقرب إلى المفكر الذي (يفلسف فقره، وشحوبه، وتشرده) منه إلى (المستجدي العابر، والمكرر، والسائد) الذي لا يأتيك بجديد، ولا يفاجئك حتى في فن الاستعطاء. أما هذا المتسول الهولندي الذي حفز الشاعر على كتابة هذه القصيدة قد يوجّه إليك سؤالاً فيه نوع من الإشكال، أو المفارقة الطريفة من قبيل: (ـ ألا يُحتمل أنك ستفقد سنتاً؟ أو أتريد أن تضيّع سنتاً؟ ـ طيب أعطني إياه!). إن المعالجة الفنية المرهفة هي التي أنقذت هذه القصيدة من السقوط في فخ (الثيمة اليومية) واستطاع الشاعر أن (يرحّل) هذا الهم الفردي، ويصنع منه هاجساً جماعياً يدور في الفلك الموضوعي أو الكوني إذا صح التعبير.
للمدينة حضور طاغٍ في قصائد موفق السواد، فكما كانت المدينة حاضرة في مفتتح قصائد الديوان حيث ذهب المتسولان أسفل القنطرة في الجهة الأخرى من المدينة، نراه يعنوّن النص الثاني بـ (أنا العابر هي المدينة) حتى من دون فارزة تفصل بينه وبين المدينة، وكأنهما مندغمان بعضهما ببعض، ولكنه يبدأ، بخلاف العنوان، بالمدينة التي يخصص لها الجزء الأول من النص الشعري، ويؤسطرها بواسطة ثلاث إحالات خرافية كي يستقطر منها أُسطورته الخاصة، وأولى هذه الإحالات هي إلى (دم يوسف) هذا الفتى الجميل الذي يحبه أبوه حباً جماً، يُشعل الغيرة في قلوب أُخوته، فيكيدون له، ويلقونه في غيابة بئر عميقة. أو إلى (البساط الطائر) الذي يذكّرنا بالعوالم السحرية لـ (ألف ليلة وليلة) حيث يهيم العشاق في برازخ التيه، وسماوات المدن البعيدة، ثم يقفلوا راجعين إلى بغداد الغارقة في الترف حينذاك. أو (عرائس البحر) وحورياته اللواتي يغرينَ البحارة والمغامرين. هذه الإحالات الثلاث كفيلة بأن تنقل المتلقي إلى أجواء أُسطورية فيها من الغرابة والدهشة ما يسمح لمستهلك النص أن يحلّق مع صانعه، لكن المشكلة في هذه القصيدة أن الشاعر نفى أن تكون هذه المدينة (بئراً ملطخة بدم يوسف، أو بساطاً طائراً، أو مخبئاً لعرائس البحر) وكأنه بهذا النفي يريد (إثبات) هذه الصور المُتخيلة. ولعل أجمل ما في بنية هذا النص الشعري هو زحزحة الحواس الخمس عن وظائفها الأساسية، فالعين تسمع، كما في هذا المقطع (حين فتح العابرُ حدقتيه سمع الدوّي)، وربما الأذن ترى، والأصابع تتذوق، وهكذا دواليك. وبعد أن (تخرج المدينة من كهوفها) يطل علينا (العابر) أو الشاعر نفسه الذي (شرب المدينة) قبل أعوام بجرعة واحدة، لكنه لم يعد يتذكر الأثر، أو السبب الذي قاده إليها، فيدهمه الدوار، (وينهدم الدم في أصابعه). إذا كانت القصيدتان السابقتان ترصّعهما بعض الصور الشعرية الفنتازية المبثوثة هنا وهناك، فإن قصيدة (سيناريو صغير لحلم) هي قصيدة فنتازية بالكامل، وعذر الشاعر في هذا النص الغرائبي أن ثيمة القصيدة تدور في فضاء حلمي، أي أن الواقع لا وجود له إلا بمقدار ما تقتضيه الضرورة الفنية لصناعة النص الشعري. وهذا النص من النصوص السريالية النادرة في الشعر العراقي. فالشاعر موفق السواد يزجنا في متن الدهشة والغرابة منذ مفتتح النص إذ يقول: (ليلة البارحة/ تركت جلدي معلّقاً على باب الغرفة) وكأن الشاعر المنغمس في عالمه الكابوسي قد نزع جلده، كما ينزع أية قطعة من ثيابه، ويعلّقها على مسمار مثبّت في الباب! ثم تتسارع أحداث الكابوس فنراه يقفز (من قفصه الصدري)، صورة أكثر غرابة من سابقتها، ثم تخفّ وطأة (الجاثوم) ليعمّ بعده نوع من الهدوء المستريب عندما يدخل الفلكيون، والموسيقيون، والمهندسون.. وهنا على وجه التحديد يلوي الشاعر عنق الجملة عندما يقول:(ومهندسون يصممون عزلتي/ وحين انتهوا تركوا جداراً مفتوحاً في رئتي) ثم تتفاقم حالة الشاعر ليفاجأ بأنَّ شفته قد سقطت، فيباغته هلع شديد، ثم يتواصل هذا الكابوس لنكتشف أن الجلد المعلق على الباب يهتز فيتساقط الحلم على الأرض. لقد أسهبت قليلاً في الاقتباسات لأنني أردت القول إنّ الشاعر ميال إلى (القص) فثمة نفس سردي لا يمكن تفاديه وهذا ما سأتوقف عنده لاحقاً لأبيّن تمكّن الشاعر من كتابة (الأقصودة) وهو الفن الذي يجمع بين (الأقصوصة) من جهة و (القصيدة) من جهة أخرى، أي أنه ببساطة (يشعّرن) الأقصوصة، و (يسرّدن) القصيدة، وخاصة في النماذج (الأبيجرامية) المركّزة، المقتصدة. في هذا النص المطوّل إلى حد ما تنتهي الأقصودة بعد أن يتساقط الحلم من الجلد المعلّق على الباب، ويحاول (أن يدفع عظامه خارج النوم) لكن أحد الفلكيين يلتقط هذا الجلد المعلق، ويرميه من النافذة لينتهي هذا السيناريو الصغير لحلم أو لكابوس على الأصح. في هذا النص ثمة فكرة قوية حافظ على انسيابها الجو السردي أو (القصصي) بحيث ظل الخط الدرامي يتصاعد تدريجياً منذ بداية الحلم، ليصل إلى الذروة، ثم يتداعى كل شيء، وينتهي عند النافذة. لم تتشتت الفكرة الرئيسية في القصيدة، ولم يضع المعنى في التهويمات، والانثيالات، والاندياحات الذاتية، وإنما ظلت الثيمة تسير على وفق نظام بنائي متقن، مادته القلق، والترقب، والهلع، وهذا الإيقاع المروّع لم ينثلم طوال حركة النص المتوازنة التي تشبه حركة لاعب سيرك مدرّب، حينما يمشي بحذر شديد على حبل شاهق مشدود بين برجين بينما يظل الجمهور متوتراً، ينظر إليه بأنفاس محبوسة أو متقطعة في أفضل الأحوال. قد تكون فكرة الكابوس غير مهمة، لكن فنية النص تكمن في سيطرة الشاعر على وتيرة الأحداث التي بدأت تتفاقم ضمن مناخ شعري، سوداوي، يزداد تراجيدية كلما تقدم النص خطوة إلى أمام بحيث إنّ مخيلة المتلقي بدأت تتوتر، وتنفعل وكأنها تمشي على ذات الحبل المشدود بين برجين!
بنية الأقصودة في تجربة موفق الشعرية:
إن فن (الأقصودة) هو من الفنون الحديثة التي نشأت مؤخراً نتيجة لتحطّم الجدران الفاصلة بين الأجناس الإبداعية، وهو فن يقترب كثيراً من شكل (القصة القصيرة جداً) ومضمونها أيضاً، لكن (الأقصودة) تتميّز بنهايتها التنويرية، المفاجئة، التي تنطوي على ضربة فنية شديدة القوة والتأثير، تماماً كما في قصائد (الهايكو) الياباني. وقد كتب موفق السواد الكثير من القصائد على هذا النمط من دون أن يتعمّد كتابة (الأقصودة) التي أعنيها، وإنما كتبها كـ (قصص قصيرة مكثفة) أو كنصوص مفتوحة في أفضل الأحوال. إن ما يميّز هذه (الأقصودات) عن غيرها من القصائد هو قوة التخييل، والاستعارات الذكية، والإيقاع اللغوي المحتفي بذاته. هذا إضافة إلى الصور الشعرية المترابطة التي تدور حول ثيمة واحدة أو معنى واحد من دون أن تنشغل في (التحديق إلى ذاتها) كما يذهب محمود درويش. إن النظر إلى متن النص، وعدم الانشغال بالهوامش الذاتية، وإزاحة الاندياحات والهموم الفردية جانباً تمنح النص فرصة (الانبناء والتهيكل) الرصين الذي لا تتخلله الثرثرة اللغوية الفائضة عن حاجة النص المسبوك، وربما تكون أقصودة (مطلق حذاء) هي النموذج الأمثل لهذا الفن العصي على العامة، أو المقتصر على نخبة محددة من الشعراء، لأنه يحتاج إلى مخيلة تجترح الصور الشعرية اجتراحاً، وتأتي بما لم يأتِ به الأسبقون. في هذه الأقصودة ثمة نَفس إخباري، يقترن ببنية درامية تتصاعد منذ مفتتح النص (كان مطموراً في أرض مجهولة) لكننا لم نعرف ما هو الشيء المطمور، وكأن الشاعر يضعنا أمام لغز لا يودّ الكشف عنه أول الأمر، لكننا في البيت الثاني من النص نعرف أن هذا الشيء (مُحتذىً) في الحروب الطويلة التي دارت رحاها في العراق. ثم ينقل لنا حقيقة واقعة لا يدرك كنهها إلاّ العراقيون، مفادها أن هذا الحذاء (كان أقوى من قادة الجيوش) بحيث إنه لم يتهرأ، ولم تصدأ مساميره اللامعة. هذا النَفَس السردي أو الإخباري الممزوج بحس درامي مفجع يقودنا إلى ذروة النص التي اشتغل عليها الشاعر، واختصرها ببيتين شعريين يكشفان حقيقة مرّة لا بد من تجرّعها وهي (حينما هُزِم أبي في حربنا الأخيرة، طبعا مع قادتنا الهرمين) وهَرَم القادة هنا يشير من طرف غير خفي إلى تأبيد هؤلاء الرؤساء، أو قطاع الطرق، الذين خطفوا السلطة في وضح النهار بعد أن أُصيب هذا الشعب المُدجّن بالشلل الذهني والنفسي والروحي، غير أن الضحية تمارس غالباً دور الجلاد أيضاً، فتبحث عن ضحية أخرى لكي تمارس عليها قمعاً مضاعفاً، فلم يجد هذا المهزوم ضحية أضعف منه سوى زوجته، فصرخ بها أن تلمّع حذائه الأطول عمراً من قادتنا المتمسكين بكرسي السلطة، والمنتصرين على شعوبهم، والمهزومين، طبعاً، أمام الأجنبي. في أقصودة (شجرة) التي كتبها الشاعر بلغة رمزية، وتعبيرية في آن معاً، وربما تبرز اللغة المقنّعة في البيت الشعري الأول (يفاجئها " أي الشجرة " المساءُ المثقل بغيوم مديدة) غير أن المعنى العميق للرمز لا يُفتضح في هذه الجملة الاستهلالية، إلاّ أن (المساء) ينطوي على دلالة زمنية (سلبية) في الغالب، لأنه يعني انطفاء يوم من (أجندة) العمر، وزوال نهار قد يكون رائقاً، وجميلاً نأسف لانطوائه ورحيله، ثم إنّ مفردة (المثقل) تعزز هذا الشعور بثقل وطأة المساء (بغيوم مديدة) ربما لا تنتهي. إنّ هذا الحس الفجائعي يتفاقم بواسطة ثلاث (صفات) تشكو منها هذه الشجرة، وقد جاء تسلسلها مقصوداً حينما قال عنها إنها (عقيمة) أي أنها لا تثمر، و (وحيدة) أي نائية، أو منعزلة، والأخطر من ذلك جميعاً أنها (خائفة) على حياتها أو وجودها، وقد تكون هذه الشجرة معادلاً رمزياً لامرأة ما، أو مدينة ما تخاف الموت أو تنتظره. إنّ هذا النص الرمزي، الغامض الذي يتقبّل أكثر من تفسير يشجع المتلقي على إعادة قراءة النص، والمشاركة في كتابته أو خلقه من جديد على وفق تأويلات أُخَر. بعض النصوص الشعرية تظل محتجَبَة في العماء، ولا تُفصح عن بنيتها، وشكلها الفني إلاّ بعد حين، لأنها تدور في فلك الاحتمال الذي يتحرّك، ويتلوّن، لا الثابت الذي يتقوقع، ويتحجّر. فأقصودة (لوحة) المستوحاة من عالم الفن التشكيلي مكتوبة ضمن إطار البنية الاستفهامية بحيث يتكون متن النص كله من شقين، الأول طويل ويحتوي على السؤال الاستفهامي كما في الشكل التالي: (يا الهي أين ذهبت تلك الصبية/ التي كانت نائمة فوق عشب جاف/ وبجوارها كلب لاهث، وجرة ندية؟)، أما الشق الثاني فقصير، وامض، ومكثف، وفيه جواب شافٍ للسؤال المطوّل الذي يشكّل جسد النص، ونهايته المفاجئِة الصادمة. (إنها حبيبتي التي لم أرها بعد). هناك قصائد تجتاح القارئ، وتخترقه، وتنفذ إلى ذاكرته، أو تقذفه إلى (لُجَّة) بتعبير أدونيس، وبالذات تلك القصائد التي تلقى لنفسها صدىً في الذاكرة الجمعية المقموعة كذاكرة العراقيين، تمثيلاً لا حصراً. وأقصودة (كيس) ربما لا يفهمها القارئ الأوروبي المعاصر كما نفهمها نحن الذين كنا نموت بالجملة سواء في خطوط النار الأمامية أو خطوط المقابر الجماعية الخلفية. وليست (المرأة) السيدة وحدها هي التي تنتظر، وإنما هناك الأم، والحبيبة، والأخت، والبنت، كلهن يُمعِنَّ في الانتظار، ولا شيء في النهاية سوى (أكياس بلاستيك تحتوي عظاماً بنيّة) ربما تعود لهذا الزوج الذي اختطفه رجال الأمن، وربما تعود لغيره من المختَطَفين! وامتداداً لموضوعة هذه القصيدة، فلقد كتب الشاعر موفق السواد عن الحرب، أو سلسلة الحروب العبثية التي مرّ بها العراق، وهي حروب لم يخترها العراقيون، لكنهم كانوا وقوداً لها، وأغلبهم كان مُجبراً على خوضها، وربما تكون بعض قصائد الديوان هي خير نموذج لما نذهب مثل (حالة) حيث يكون الإنسان مُجبراً، وليس مُخيّراً، وعليه أن يعيش في ظل حروب متواصلة لا يستطيع الكائن البشري أن يلتقط أنفاسه فيها، ولا يمتلك خيار المستشفى الذي يُعالج فيه أو القبر الذي سيُدفَن فيه. وكذلك قصيدة (الجريح يستيقظ) حيث كان (المحارب) هو الشخص الوحيد الذي رأى ما لا يراه الآخرون ـ أليس الشاعر كذلك ـ ( رأى عظام الزهرة/ ورأى الـ F16 تخترق وسائد الأطفال) وهو الذي كان يصرخ (الحرب لم تمت/ سوف يشربها دمي)، ولا تخرج قصيدة (تسقط الحرب) عن هذا السياق، إذ تتحول إلى همّ جماعي، يتجاوز الذات الفردية ليصبح هماً وجودياً مُقلقاً. وهذه القصائد برمتها تمتلك طاقة مُشعّة كونها تستمد وجودها من ذاتها المتفرّدة، ولا تنتمي إلى المنجز الشعري السائد المنهمك في أسئلة قديمة لا تفضي إلى المغامرة أو الدهشة أو (النوم على أسرّة الفتنة).
الدوران في فلك الذات:
يؤكد الشاعر محمود درويش أن (الشعر ليس مرآة شخصية، بل هو مرآة وجودية للكون) ويصْدق هذا التصوّر إذا ما استطاع الشاعر أن ينقذ نفسه من أُسار الذات ليتطلع إلى الوجود برمته على اعتبار أن الشعر في جوهره هو رؤية كونية تستطيع أن تتجاوز الزمان، وتخترق المكان، وتتخذ من الثيمات الصغيرة والكبيرة موضوعاً لها. وبما أن العالم الذاتي يظل محدوداً فإن السياحة الكونية هي أمر ملحّ للشاعر الذي يروم الولوج إلى الآفاق الموضوعية. إنّ أغلب قصائد هذه المجموعة الشعرية تدور في فلك الذات، ولا تحبذ الخروج عن عوالم الشاعر الحقيقية أو المتخيلة، ولكن هذا لا يعني أن الشاعر موفق السواد سيظل حبيس الذات، فكثير من الشعراء يطيلون النظر إلى المرآة أول الأمر، ويتمثلون ملامحهم، وقسمات وجوههم، ولكن كلما تقدّم بهم العمر، وازدادت تجاربهم نضوجاً، فإن الحاجة إلى العالم الموضوعي أو الرؤية الكونية تصبح أمراً لا مفرّ منه. وهكذا نجد تباشير الخلاص من أسر الذات في تجربة موفق السواد الشعرية قد تجلت في قصائد تتخذ من ذوات الآخرين موضوعاً لها، كما في (عن أبي وعن حديثه المتواصل أبداً، أصابع كاووش، ليلة في غابة رافائيل ألبرتي الضائعة، مع أولاد خوان ميرو في حديقتهم البيضاء). إنّ الخلاص من هيمنة الذات تمنح الشاعرة فرصة ذهبية لتفادي (الدوران المُمل) وعدم الوقوع في (مطب) التكرار أو الاجترار في آن معاً. المُلاحَظ أن موفق السواد ميّال كثيراً إلى كتابة القصيدة بأسلوب تشكيلي تطميناً لهواجسه الفنية التي أشرنا إليها سابقاً، كما نرى هيمنة الموضوعات التي تدور حول فنانين وشعراء معروفين عالمياً وعربياً أمثال خوان ميرو، روفائيل ألبرتي، ستار كاووش. كما تشكّل بعض القصائد الوجدانية مصدراً مهماً من مصادر النهل من الذات أو الكتابة عنها مثل (إلى الجنوبية التي أحب) و (فيما كنت نائماً) و (أسرّة الفتنة) وسواها من القصائد التي تتخذ من ذات الشاعر وعوالمه الخاصة محوراً لها. وربما تشكّل قصيدة (إلى الجنوبية) مثالاً دقيقاً لما نذهب إليه، فهذا النص الشعري يكشف طبيعة حبه ليس إلى الحبيبة التي تعيش هناك في الوطن الذي مزقته الحروب حسب، بل تكشف عن حجم الحنين إلى البصرة بأزقتها، وشوارعها، ونخيلها، وشطّها، وفتياتها، وتبيّن لوعة الفراق الذي يعانيه الشاعر في منفاه الهولندي البارد بعد أن ذبلت من سنوات عمره (ثلاث وثلاثين زهرة) و ها هو الآن ناءٍ وبعيد عن فتاته الجنوبية العصية المُشتهاة. يؤكد الناقد د.حاتم الصكر أن موفق السواد (يمتلك خزيناً لغوياً وصورياً ينقل لنا أثر غربته بقوة، تجعلنا نشاركه إحساسه بالعجز وعزلة الكلام) غير أن هذا الخزين اللغوي لم يكن متأتياً من توحّده مع الماضي، بل من القطيعة التي أحدثها السواد مع المُنجز المُستهلَك، ومن الصور الشعرية المُستحدثة التي تنتمي إلى أفق البحث، والمغامرة، والولوج إلى المناطق الوعرة، والاستقصاء، والاستنطاق، والكشف، والإضاءة، والإمساك بالغامض، والمتواري، واللامرئي. وإذا كان النفَّري يقول (إنْسَ ما تعلّمت) فيبدو أن موفق السواد قد نسيَ ما قرأ، وهذا النسيان هو دليل عافية إبداعية، فالسواد مُصِرّ على استكناه المجهول، والذهاب إلى المنطقة الغيبية الملأى بالمفاجآت.







https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن