استقطار الطاقة الصوفية للحرف العربيّ -لسان النار- لـ أحمد الشهاوي

فاطمة ناعوت
f.naoot@hotmail.com

2005 / 4 / 2

لسانُ النار، دائما ما يتراقص مُشرعًا عاليًا، لكون الهواء الساخن حوله أقلَّ كثافةً من سائر الهواء المحيط، فيحمله سامقًا باتجاه عموديّ. ولسان النار، هو مارج النار الذي قُدَّ منه الجان. وللنار رموزٌ شتى في الثقافات القديمة لو تتبعناها لخرجنا بدلالات كثيرة يضيق المقام عنها. أما هنا فلسان النار، برأيي، هو رمزٌ لحرف "الألف"، أول حروف الأبجدية، ذلك الحرف المسكون بأسرار كثيرة وتعاويذَ ربما يفصح عنها الديوان الأخير للشاعر المصري أحمد الشهاوي، الصادر عن الدار المصرية اللبنانية قبل أيام، وربما من الضروري في هذا الصدد الإشارة أن له ديوانا تحت الطبع بعنوان "منزلة الألف". يقول المتصوفة : "الحرفُ خزانةُ الله, فمن دخلها فقد حملَ أمانتَه، والحرفُ نارُ الله, و قدره". ويقول الشهاوي، ذات حوار، إن القصيدةَ وشاعرَها لابد أن يكونا لحظة فعل الكتابة حرفًا مشددًّا، وقال في آخر إن الحروفَ أمّةٌ غامضةٌ لا يصل إلى مشارف ديارها إلا الواصلون. تيمة "الحرف" وأسراره إذًا هي الطريق التي يتوسلها الشاعر عبر ديوانه ليكشف عن لحظة انصهاره الشعري. ولا تكاد قصيدةٌ من قصائد الديوان، التي ربت على السبعين، تخلو من لفظة "حرف" أو نحوه. لكن حرفيْ "الألف، والنون" قد احتلا المرتبة الأعلى ونُسجت على نولهما خيوطُ الديوان وغزله. فأما حرف الألف، الذي قال فيه النفريّ :" كل الحروف مريضةٌ .. إلا حرف الألف"، فهو أول اسم "أحمد"، وثالث اسم "نوال" ولذا أشهره الشاعرُ في وجه الوجود كلسانٍ من نار يعصمه من ضياع الهُوية. وعمد الشاعرُ إلى إبقائه حيًّا عبر قصيده كحبلٍ سُريٍّ، يربط بين الطفل وأمه، لينجيه من الموت ويهبه ماءَ الحياة. الطفل الذي فقد أمه مبكرًا، يستدعيها من ظلمة الموت عبر الحرف الوحيد الذي يربط بين اسميهما :" جسدٌ طِيبٌ/ طاب وطبّبَ لي هذيان طيوري حين تفرُّ/ من التاريخ إلى إشراقِ الألف العمدة"، ويقول:" أنا المتعلِّقُ من قشة روحي بخلاياكِِ/أنا الممسوسُ بحرفٍ من إسمكِ". ويقول في قصيدة "وسنٌ":" اختاروا حرفَ الألف بيانًا للناس جميعًا". أما في قصيدة "عزاءٌ لنشيد"، وهي القصيدة الوحيدة التي يفصح فيها الشاعر عن ملهمته الأولى على نحو صريح، الملهمةُ التي لم يبق منها غير حرفٍ يناجيه كلما أوجده الفقد: "سأعود إلى الإيقاع/وإلى صمتٍ موروثٍ من أمي/سأحررُني من شوفانِكِ/من أن تتكلم روحي/إلى حرفٍ من إسمك". نوال عيسى، الأم التي رحلت فيما كان الطفل صغيرًا، والتي أهداها ديوانه هذا وكل دواوينه السابقة، صمدتْ رغم الزمن ورغم الرحيل كملهمةٍ أولى وسرمدية. يستمد منها الحياة كلما أوغلتْ في الموت، ويقبض منها على الدليل كلما ضيعته المتاهات. وأما حرف النون(الذي تموضع مراتِ ثلاثًا في عنوان الديوان: لسانُ النَّار)، فهو رمز التكوين عند بن عربي الذي قال فيه: لولا النقطة فوقه لانتفى الوجود. وهو الحرف الأولُ من اسم الأم. يقول في قصيدة" قبرُ حرفٍ يطير":" الزمنُ يمرُّ/وأنا مختبئٌ في نونٍ". يقول النفريُّ في مخاطباته:" الحرفُ يعجز عن أن يخبر عن نفسه، فكيف يخبر عني." لكن الشهاوي، المسكون بالتراث الصوفي، يشتغلُ على الحرف ليستقطر منه الدلالة والطاقة الشعرية والرؤى. وحرف النون يشغل في الأبجدية العربية مكانةً مرموقةً، يتوسطها لأنه الرابعُ عشر من أصل ثماني وعشرين. وفي الإرث الإسلاميّ يرمز إلى "الحوت" وهو المعنى الأصل لكلمة "نون"، ولذا دُعي النبي يونس (يونان) "ذا النون" إذ مكث في بطن الحوت بمعجزةٍ. وفي الموروث الهندوسي الحوتُ هو "السمكة المخلِّصةُ" ويحلّ محل سفينة نوح في المنقول الإسلامي. إذًا النون لدى الشاعر هي "ظلمة" بطن الحوت أو رحم الأم، وفي الوقت ذاته، رجاء الخلاص وقارب النجاة من الطوفان. في كتابه " رموز العلم القدسي" يقول رينيه غينون (1886-1951)، الباحث الفرنسي الذي اشتغل على أسرار الحروف الروحية عبر الموروث الطاويّ والهندوسيّ والمسيحيّ والإسلاميّ، إن رسم النون كنصف دائرة تعلوها نقطة، تمثل هيئة فُلْكٍ سابحة، والنقطة تمثل بذرة الحياة التي تتوسط مركز الدائرة أو نواتها التي تكمن بالداخل آمنةً من عوامل الإفناء الخارجية. إذًا يتوسل الشهاوي النونَ كرحم أمٍّ أو كشرنقة حماية من العالم. ولأن خروج يونس من ظلمته يعدّ نشورًا وقيامة جديدة، فإن النون لدى الشاعر هنا تمثل ولادة متكررة من رحم الأم الراحلة، يستدعيها، كلما تاق إلى ولادة جديدة، بأول حروف اسمها فتأتي إليه، فينجح أن يهزم الفقد والعدم عن طريق الشعر، وتلك أولى وأهم رسائل الشعر للشاعر وللقارئ. وفي مستهل سورة القلم قولُه تعالى: "ن والقلم وما يسطرون"، وفسّر العلماء النونَ بقنينة الحبر، والنقطةَ في وسطها برأس القلم المغموس في المداد الذي هو مادة العلم، وهو أصل الحياة الروحية. ومن هنا كانت النون معينَ المعرفة للشاعر أي أصل ومنتهى الحياة.
يقفُ الشاعرُ في غربته على خط الضياع في اللازمن، المشدود في منطقة وسطى بين الوجود وبين العدم. "المحذوف من الذاكرةِ/المحذوفُ من النسيانِ/المكتوبُ بشكٍّ في سيرة مائه/يبحث حتى عن شاهد قبرٍ..." لم تحذفه الذاكرة من دفاترها وحسب، بل إن سيرته مكتوبة بغير يقين وعلى صفحة ماء لا يستقر، وحين يستدعيه الموتُ، وهو المطلق والثابت الوحيد، يغيب القبرُ والشاهد. تحيلنا معظم قصائد الديوان إلى حال الفقد في كل صوره، فقد الأم وفقد الحبيبة وفقد اليقين وفقد الزمن وفقد الهُوية.
يعتمد الشاعرُ تقنيات شعرية حداثية مثل القافية المقلوبة في القصائد الأُوَل من الديوان بأن استخدم كلمةً أو حرفًا يتكرر في بداية كل سطر شعري، مثل "ألاّ" يتلوها فعل مضارع في القصيدة الأولى، أو حرفٍ ناسخٍ مثل "لستَ" يتلوها اسم فاعل أو اسم مفعول مثلما في القصيدة الثانية الخ. إن نشدان الموسيقى الشعرية لا يكون عبر الوزن الخليلي وحده، لكن إيقاع الكلمة وتراكيبها واللعب على اشتقاقاتها وجذورها، وطرائق التقطيع السمعي، واستحلاب الطاقة الموسيقية المخبأة في النحو والصرف التي هي، بزعمي الخاص، المفتاح الأول والأهم في موسيقى اللغة العربية، تُعدُّ وسائل ذكية بوسع الشاعر السابر أسرار لغته أن يطوّعها من أجل إنتاج موسيقى شعرية جديدة وطازجة. ورغم أن الشهاوي قدّم لنا ديوانا موزونا، إلا أن الموسيقى اللافتة لديه نبعت من مناطق أخرى اعتمدت اللعب على اللغة أكثر مما لعبت على التفعيلة. في قصيدة بديعة (تذكرنا بمواقف النفريّ)بعنوان "قالت امرأة": وقالت/غُصْ/وعُمْ/فالماءُ إشراقٌ/ولذةُ عارفٍ/ودموعُ مِئذنةٍ/وبيانُ لمْ"، النغمُ هنا لم يتجل من (مفاعيلن) بقدر ما طفر من جراء جزم فعل الأمر وحُسن توقيع القافية. وفي قصيدة "ريح عاطلة" يقول:" كي أنسى في مرآة يديكِ/أكونُ الوصلَ الفصلَ الآخرَ .." نجد أن موسيقى السطر الثاني تفوقت على الأول ليس بـ (فعلن) بل من طريق اللعب على نصب (المفعول به) المتواتر وسجع الكلمتيْن ورنين حرف الصاد.
يعمد الشاعر في بعض قصائد الديوان إلى بناء صور شعرية متوازية وغير متنامية أو متراكمة. تلك الصور لا تشكّل في كثير من الأحيان صورة كليّة بوسعها تشكيل حالٍ شعرية واحدة يخرج بها القارئ بعد إتمام قراءة القصيدة، أو لنقل إن القارئ يجد شيئا من الصعوبة في تمثّل حال واحدة منها، بل مجموعة من الحالات المتشظية عبر القصيدة، كأن يقول: " المعتوم بنقشٍ/الداخلُ في جوفِ الشمسِ بلا معجزةِ نبيٍّ/السكران بكأسين من الضوءِ/المحتفلُ وحيدًا بالفقد ... الخ". وعلى الجانب الآخر يحفل الديوان في أواخره بمجموعة من الأبيجرامات التي تذكرنا بتوقيعات العرب الأقدمين أو قصائد الومضة شديدة التكثيف والشعرية والثراء وإن وقعت في أحيان قليلة في شرك الحكمة أو القول المأثور. " وأنا معكِ/ما أشبهني بتويجٍ/يعتمُ/و/يضيء".
لكَمْ صدَقَ كوكتو حين تكلّم عن ضرورة الشعر للشاعر وللوجود. الشِّعرُ، ذلك الساحرُ الذي يهزمُ الموتَ والغياب، فالأم التي خطفها الموتُ من الطفل، سيكون بوسعه حين يكبر أن يستدعيها كلما أرهقه الحنينُ إليها، إذ هي على مرمى (حرفٍ) من قلمه. يناديها بأولى حروف اسمها فتلبي، لينطلقا معا في "رحلةٍ مقدسة"، تحيلنا إلى رحلة المسيح ومريم، يقول :" جهزي الزيتَ والزيتون والخبزَ المقدسَ/فالرحلةُ ابتدأت". وعبر قصيدتيْن عنوانهما " ألف" و "دال"، هما بداية اسمه ونهايته، يمضي الشاعرُ في رحلته وحيدًا، باحثًا عن هُويته عبر معراج الكشف حتى إذا ناداه الشعرُ انطلق من أسْرِ الحرفيْن ليعرّجُ في رحلة أخرى صوب المعرفةِ التي هي منتهى الحياة وسدرة المنتهى فإذا بها "لسان النار".



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن