مشاهدات بغدادية 2 لماذا تحول العراق الى مسخرة ؟

اسماعيل شاكر الرفاعي
Kitab333@hotmail.com

2013 / 2 / 1

مشاهدات عراقية

ــ 2 ــ.

لماذا تحوّل العراق الى مسخرة ؟

في حديثه الى قناة العراقية في 28 / 12 يرى دولة رئيس مجلس الوزراء بان [ تبادل الاتهامات والتصريحات بين الساسة في الاعلام جعلت من العراق مسخرة بين دول العالم ] فيما نرى بأن سبب ذلك يعود الى انعدام الشفافية في آليات عمل مجلس الوزراء . وانعدام الشفافية مرده الى عدم أخذ السلطة بمبدأ التخطيط في عملها . اذ الشفافية هي المرآة التي تعكس للمواطنين الخطوط البيانية الصاعدة أو الهابطة في انجاز هذا الوزير أو ذاك . تُعد الخطة واحدة من بين أهم أدوات المدنية الحديثة في النهوض والتقدم . تتطلب الخطة اول ما تتطلب وضع أهداف واضحة محددة يتم الوصول اليها عن طريق جدولة الاولويات وتوزيعها على سنوات الحكم الاربع ، هي بمثابة التطبيق الفعلي للبرنامج الانتخابي الذي أوصل السلطة القائمة الى الحكم . برنامج السلطة القائمة { دولة القانون وشركائها } الانتخابي واضح الهدف ، اذ يقوم على تدعيم الركائز الاساسية لسيادة القانون . ولا طريق أمام السلطة من أجل تحقيق هذا الهدف ، غير القيام بوضع خطط فورية لأهدافها البعيدة والقريبة ، من أجل ترسيخ بناء مؤسسات دولة ، رسم الدستور خطوطها العامة ، لا أي مصدر آخر ، اذ ان مهمة التأسيس لدولة جديدة ، هي المهمة الاخطر من بين مهمات سلطة الشراكة الوطنية بعد انتخابات عام 2010 ، أو بعد مؤتمر أربيل . بنية الدولة ــ وفقاً للدستور ــ فدرالية لامركزية ، هذا اوّل تعدٍ على شكل الدولة الموروث عراقياً والذي كان يحتفظ فيها المركز { رئيس مجلس قيادة الثورة المنحل } بكل الصلاحيات ، اذ ستستقل الاقاليم والمحافظات بصلاحيات محددة . والتعدي الثاني يتمثل بالهجوم على المركز ذاته الذي كان يقرر كل شئ ، ويدور من حوله كل شئ ، وتوزيع صلاحياته على ثلاث سلطات : التنفيذية والتشريعية والقضائية . أما التعدي الثالث ، وهو أخطرها جميعاً ، فيتمثل بوجود هيئات مستقلة { كالمحكمة الاتحادية مثلاً أو هيئة النزاهة } في آليات عملها وفي قراراتها عن أي سلطة خارجية ، أكانت هذه السلطة الخارجية سلطة حزب ، او سلطة رئاسة الوزراء ، او رئاسة الجمهورية أوغيرها من السلطات . تتبادل هذه السلطات الرقابة على بعضها خوفاً من طغيان احدها واستبدادها بالقرار . ما هو هام في هذا التقسيم ، يتمثل بنزع الطابع الشخصي نهائياً عن الحكم في العراق ، الذي غالباً ما ينحو منحى تأليه الحاكم . يعزز من هذا المسار نحو جعل الحكم ممارسة بشرية غير موحى بها من قبل قوى غيبية : آلية دورية الانتخابات ، التي تُسقط في تكررها كل أربع سنوات ، أي نوع من أنواع الحقوق الموروثة التي تتذرع بها عوائل أو قبائل أو طوائف أو فئات اجتماعية اخرى . لكأن البشرية اكتشفت بأنه من غير تقسيم السلطات وتوزيعها ، ستعود مجدداً حكاية الاصل السماوي للحاكم ولتشريعات حكمه ، وهو ما حدث ويحدث في البلدان العربية ، فكل طغاتها نسبوا لأنفسهم صفات سماوية مثل : القائد الضرورة والزعيم الاوحد والملهم من السماء ، وفوّضوا أنفسهم بالأستيلاء على مراكز القوة والقرار والتملك الشخصي للثروات.. تعود فكرة تفكيك مركزية الدولة وتقسيم الصلاحيات الى عقول مفكري عصر الاستنارة ، التي كانت تراقب ما يجري في التاريخ البريطاني من نزع تدريجي لصلاحيات الملك ولمجلس الشيوخ . وعملياً الى العقول الفذة التي كتبت الدستور الامريكي وأسست في سبق تاريخي دولة الولايات المتحدة الامريكية الفيدرالية ، التي أثبت نظامها صلاحيته في ازاحة الطائفية ثم العنصرية وتحقيق مبدأ المواطنة ، فاستحق مؤسسيه من شعبهم لقب الآباء المؤسسين . فشلنا نحن في الاخذ بنظام نجح فيه غيرنا . وهذا هو الفشل الثاني لنا ، اذ سبقته تجربة متماسكة دستورياً في العهد الملكي ولكن رموز المجتمع السياسية لم تنجح في تبيئتها واستنباتها . هل يعود سبب الفشل المتكرر الى ان ثقافة الشعوب لا تتقبل المفاهيم السياسية الوافدة عليها كمفهوم التعددية وتقسيم السلطات ، بالسرعة نفسها التي تتقبل بها الابتكارات التكنولوجية كالسيارة والكومبيوتر، قبل ان تصطنع هي بنفسها هذه المفاهيم كتعبير عن حاجة داخلية اساسا ؟ لا استطيع القطع بأجابة حاسمة على هذا السؤال ، ونحن نقرأ ونسمع عن شعوب تنتمي الى قارات مختلفة نجحت في تبيئة مبدأ تقسيم السلطات ، وحولت مفهوم التعددية الى ممارسة سياسية حقيقية عبر مفهومي الاكثرية والاقلية والتداول السلمي للسلطة . تشير أحداث الربيع العربي في تونس ومصر تحديداً ، الى ان الثوار فيهما ، رفعوا شعار التعددية المتلازم في التطبيق مع آلية تنفيذه التي هي : دورية الانتخابات ، ولم يتجاوزوا ذلك ــ في اشارة ذات دلالة تاريخية ــ الى رفع شعارات تتطابق في ايحاءاتها التشريعية مع مفهوم الديمقراطية في أبعاده الفلسفية وفي خلفيته الحضارية . فظل الثوار يراوحون في منطقة الاحتجاجات التي ستتكثف في شعار : أرحل . وحتى في الموجة الثانية من الاحتجاجات ظلت الجماهير مدفوعة في شعاراتها بالهاجس الاخلاقي الذي يربط التغيير بالافراد لا بالتشريعات ، ولهذا لم يتجذر لدى المحتجين في البلدين منطق الثورة الذي هو : منطق حقوق وتشريعات ، وهو ما حدث في الثورات الكلاسيكية في التاريخ : الثورة الفرنسية 1789 ، الروسية 1917 ، الايرانية 1979 [ استوحت الثورة الايرانية في تشريعاتها حق العائلة العلوية بالخلافة ، وجعلت من الفقيه الرافعة الاجتماعية لهذا الحق { الذي سيلي من الناس ما كان الرسول " ص" يلي من أنفسهم . كتاب : الحكومة الاسلامية ، للأمام آية اللّه العظمى الخميني } فتشريعات الثورة الايرانية قامت على اساس بعث ثقافة سياسية موروثة ، وهي تختلف في ذلك عن الثورة الفرنسية التي استلهمت في تشريعاتها : حق طبقة اجتماعية جديدة في التاريخ من حيث تماسكها النظري والعملي ، التي هي البرجوازية ، وجاءت الثورة الروسية في تشريعاتها بحق طبقة اجتماعية جديدة هي الاخرى في التاريخ التي هي البروليتاريا . أما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي فقد تحولت دوله في تشريعاتها من حق السيادة التشريعية العمالية والعودة مجدداً الى الحق البرجوازي : حق الملكية الخاصة ، وتعبيره السياسي : الديمقراطية ] هل يعود سبب فشلنا في النجاح ببناء دولة الفصل بين السلطات الى الاختلاف بين اداة البناء { اي احزاب حكومة الشراكة الوطنية } وبين الهدف { بناء دولة تقوم على مبدأ الفصل بين السلطات } ؟... تولت الحكم في العراق أحزاب سياسية تنطوي خلفيتها الفكرية على مقولات سياسية موروثة ، تنطلق في جملتها من مفهوم الفرقة الناجية { الحديث المنحول على الرسول : ستنقسم أمتي الى 73 فرقة ، واحدة منها هي الناجية } والعجيب ان الفرق الاسلامية الميتة منها { وهي أكثر عدداً من الفرق التي ما زالت حيّة } تكذب كل منها الاخرى في ما ترويه من احاديث نبوية عن طريق آلية الجرح والتعديل ، ولكنها تتفق جميعاً على صحة هذا الحديث الذي يثير الفرقة والشقاق والذي لا يبيح توزع الجماعة على طوائف مختلفة بل يحرمه ، ويعتبر العمل من اجل ازاحة المختلف طائفياً ، او اجباره على الرضوخ لتنظيماتها ، نوعاً من الجهاد والعمل المقدس الذي سيثاب عليه اعضاء الحزب في الآخرة . بينما فكرة تقسيم السلطات مقولة سياسية حديثة ، تشكلت في خضم النضال ضد شرعية فكرة المركز الواحد في الدولة الذي يمسك بكل السلطات ، أياً كان مصدر تلك الشرعية الذي اتنسب اليه ملوك ذلك الزمان وبنوا حقوقهم في الحكم عليه شرقاً وغرباً . ذلك يعني ان الناس { المجتمع او الشعب او الامة } في الدول التي تقوم على مبدأ الفصل بين السلطات اصبحوا ، وهم يبنون دولتهم الجديدة ، مصدر شرعيتها ، وهي شرعية ارتبطت بحاجتهم للتخلص من الاستبداد ، الذي نظروا اليه نظرتهم الى قيود تحد من انطلاقتهم وتقدمهم ، فأصبحوا من خلال اكتشافهم للنظام الذي يلبي حاجتهم الانسانية الى الحرية هم المصدر والشرعية للدولة الجديدة في التاريخ البشري التي ولدت تطبيقاً لمقولات سياسية جديدة اكتشفها ووضعها بشر لا آلهة ، ولم يتكامل بناؤها بين ليلة وضحاها ، بل اسقطت مسيرة بنائها بعض تشريعاتها الاولى واستعاضت عنها بما يعزز مسيرة تحرر مواطنها وحريته ، الى بلغت شأواً انسانياً عظيماً مع مفهوم : المواطنة ، وهو مفهوم بشري ينظر الى المواطنين بالتساوي على اختلاف عرقياتهم وطوائفهم الدينية وثقافاتهم ، ضداً على المفهوم الطائفي الذي كانت تقوم عليه دولة الولاء الطائفي التي عادة ما تكون شديدة المركزية . أما المحور الحضاري لهذا النوع الجديد من الدول في التاريخ الانساني فيقوم على حل معضلة التحديات الطبيعية والاجتماعية والتكنولوجية { كتيارات التراب مثلاً ، والكهرباء والمجاري والفساد ...الخ } وسد حاجات الانسان الاخرى التي يتطلبها العيش في الدنيا ، ويترك للانسان ان يسد حاجاته الروحية التي تتطلبها الآخرة مصداقاً لقول الامام علي " ع " : اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً . وتتنافس الاحزاب في هذا النوع من الدول لا يقوم على اساس من التوتير الطائفي والعرقي كما هو جارٍ في العراق الآن ، بل على أساس برامج تشير الى خطة كل حزب في سعيه الى تحسين شروط الحياة المعيوشة ، والأرتقاء منها الى مستقبل الطريق اليه فيه الكثير من الوضوح ، يتبدى ذلك في دعم كل السلطات { المتغيرة } لمجال البحوث والتجارب المختبرية والدراسات المستقبلية ، بتخصيص الاموال الطائلة ، اذ ان ديمومة وجودها كدولة مرتبط بتطورها الاقتصادي الذي لا تتمكن من جعله في مقدمة الاقتصادات العالمية من غير الاحاطة التامة بحاضره ، واكتشاف ميوله المستقبلية .. هل يعود السبب في فشلنا المتكرر في تبيئة هذا النوع من الدول الى اهتمامنا بوضع الخطط لما بعد الموت لا للحياة ؟ وهل كان غرق بغداد بعد زخة مطر لا بعد عاصفة من وزن سدني ، أو من وزن تسونامي ، يعود الى عدم الاكتراث بتحسين شروط الحياة ، فتتحول المفاهيم السياسية الحديثة في ممارستنا لها الى ما يشبه الفضيحة ، أو على حد تعبير السيد نوري المالكي الى { مسخرة بين دول العالم } ؟
30 / 12 / 2012



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن