القرآن العربي نص مترجَم إلى العربية

محمد علي عبد الجليل
mabdeljalil2003@yahoo.fr

2013 / 1 / 15

عندما وجدْتُ في القرآن بعضَ الكلمات الغامضة التي اختلفَ فيها أئمةُ التفسير واللغة، تساءلتُ للوهلة الأولى لماذا هي غامضة؟ ولماذا لم يفهمْها معاصرو القرآن الذي "أُنزِلَ" بلغتهم؟

فإذا كتبَ فلانٌ رسالةً فلا بدَّ أنْ يفهمَها القارئون من متكلِّمي لغة مرسِل الرسالة أو بعضٌ منهم، إلَّا إذا كان الكاتبُ قد "أَنْـزَلَ" معانيَ رسالتِه من لغةٍ لا يعرفُها المتلقُّون ووضعَها في قالب لغتهم فـ"أنزلَ" فيها كلماتٍ وصيَغاً لم يألفوها. فإذا أشكلَت بعضُ الكلمات على جميعهم أو على أكثرهم فهذا يعني أنها مقترَضة حتماً، أيْ "مُـنْــزَلة" من لغة لا يعرِفونها، أيْ مترجمة حرفياً.

سنحاولُ توضيحَ الفكرة على ضوء التحليل السوسيولوجي للترجمة (الترجمة الصاعدة والترجمة "النازلة") الذي تطرَّقَ إليه ديــﭭــيد بيلُّوس (David Bellos) (في كتابه Le poisson et le bananier: une histoire fabuleuse de la traduction [السمكة وشجرة الموز: قصة رائعة عن الترجمة]) وعلى ضوء ما قاله القرآنُ عن نفسه وعلى ضوء نظرية التكافؤ الديناميكي لـ"يوجين نايدا" (Eugene Nida) (1914 - 2011) المعروفة أيضاً بالتكافؤ الوظيفي.

أولاً، الكلمةُ، كأيِّ شيءٍ، لا تأتي من العدم. أصلاً لا شيءَ يأتي من لا شيء. الكلمةُ لا تأتي من فراغ، بل تولَد كأي كائن حي، من خلال عدة أنواع من عمليات التوليد: الاشتقاق والنحت والترجمة. فالمقولة المنسوبة إلى الكيميائي الفرنسي أنطوان لاﭬـوازييه (Antoine Lavoisier) (1743 – 1794) ("لا شيءَ يَضيع ولا شيءَ يُخلَق، كلُّ شيء يتحوَّل")، والتي ليست سوى صياغةٍ أخرى لمقولة الفيلسوف اليوناني أناكسوغوراس (Anaxagore) (500 ق. م. – 428 ق. م.) ("لا شيءَ يولَد ولا شيءَ يفنى، ولكنَّ الأشياء الموجودة أصلاً تتَّحِــدُ ثم تنفصل مرةً أخرى") تنطبق على الكلمات أيضاً. وبالتالي فكلُّ كلمةٍ جديدة هي إما مشتقة أو منحوتة (من اللغة نفسِها) أو "مُنزَلة" من لغة أخرى، أيْ مترجَمة حرفياً. لا يمكنُ أنْ نتصوَّرَ كلمةً لم تولَد من شيء، مثلما أنه لا يمكنُ أنْ نتصوَّرَ إنساناً لم يولَد. فالكلمةُ لا "تنزِل" من السماء ولا تَــنْــبُــتُ من الأرض، بل تولَـد من كلمات أخرى، تبعاً لحاجاتهم.

يميِّــز ديــﭭــيد بيلُّوس (الصفحة 181 وما بعدها من الكتاب المذكور) بين نوعين من الترجمة:

1)-ترجمة باتِّجاه "صاعد" أو ترجمة صاعدة ("ascendant", amont) (وهي الترجمة الهدفية cibliste التي تترجِم المعنى متمسِّكةً باللغة الهدف التي يُترجَم إليها)، وتكون هذه الترجمةُ من ثقافة مهيمَن عليها (خاضعة) إلى ثقافة مهيمِنة (مسيطِرة، سائدة)، حيث لا نجد في هذا النوع من الترجمة أيَّ أثر للنص المَصْـدَر (الأصلي)؛
2)-ترجمة باتِّجاه "نازل" أو ترجمة نازلة ("descendant", aval) (وهي الترجمة المَصدرية sourcière التي تتقيَّد أكثر بالمعنى الحرفي متمسِّـكةً باللغة المَصْدَر التي يُترجَم منها)، وتكون هذه الترجمةُ من ثقافة مهيمِنة (مسيطِرة، سائدة) إلى ثقافة مهيمَن عليها (خاضعة)، حيث نجد في هذا النوع من الترجمة آثاراً من النصوص المَصْدَرية (الأصلية) ومن الثقافة المهيمِنة.

في النص القرآني نجد كلماتٍ كثيرةً غامضةً أو من أصل غير عربي (اقتراض لفظي). وعدمُ فهمِ معاصري القرآن لها يدلُّ على أنها ليست من لغتهم بل مقترَضة من لغات وثقافات أخرى مهيمِنة (كالسريانية والعبرية واليونانية والفارسية).

وجودُ كلمات غامضة يُظهِرُ أنَّ القرآن نصٌّ مترجَم من ثقافات مُهيمِنة إلى ثقافة خاضعةٍ محليةٍ ناشئة. ولهذا نشاهد آثاراً للغات المَصْدر (المترجَم منها) في النص الهدف (المترجَم). أيْ أنَّ الكلماتِ والعباراتِ الغامضةَ أو غيرَ العربيةِ الأصل تُشير إلى أنَّ النصَّ القرآنيَّ مترجَـمٌ ترجمةً "نازلة" أو مَصْدرية. فهو "مُـنْـزَل" إذاً من لغات أخرى. لغوياً، يَحمِـلُ كلٌّ من الأفعال ("أنزلَ" و"نزلَ" و"تنزَّلَ") معنى "النزول"، أي الاستضافة في مكان. فالفعلُ "نَزَلَ" يعني: "حلَّ ضيفاً"؛ وما الترجمةُ، كما يصفها پول ريكور Paul Ricœur (1913 – 2005)، سوى تجسيدٍ لمبدأ حُسْنِ الضيافة اللغوية (Hospitalité langagière). وبالتالي فإنَّ "تنزيل" القرآن يعني "ترجمته" من ثقافة مهيمِنة سائدة إلى ثقافة محلية ناشئة. إذا أردنا أنْ نقدِّمَ صياغةً لغوية حديثة أخرى للآية رقم 2 من سورة يوسف من هذا الكتاب "المبين" [أي: الموضَّح بلغة أخرى هي العربية، أيْ: المترجَم إلى العربية]، وهي: "إنَّا أَنزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِياً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" فيمكن أنْ نقول: "نحن جماعةٌ قُـمْنا بترجمة هذا الكتاب ترجمةً نازلةً فـــ"أنزلْناه" ضيفاً على لغتكم لكي تقرؤوه بلغتكم العربية لكي تفهموا معانيه وتدركوها." وبما أنَّ هذه الجماعة، التي وضَعَت تلك الترجمةَ المسمَّاة بالقرآن من نصوص دينية متفرقة أكثرُها لم يكنْ معترَفاً به من السلطات الدينية الرسمية المسيحية واليهودية وغيرها، كانت تدرك أنَّ هذا النصَّ هو ترجمةٌ وأنه ليس هناك من ترجمة واحدة للنص، فقد وردَ عن أحد أعضائها أنه أشارَ إلى جواز الحرية والتصرف في قراءة النص بشرط ألَّا يعطِيَ القارئُ معنىً مضاداً. قال السيوطي في الإتقان: (1/168) عن أبي هريرة من حديث عمر: "إن القرآن كلُّه صواب ما لم تجعل مغفرة عذاباً أو عذاباً مغفرة".

بالإضافة إلى الأثر اللفظي والنحوي للغات المَصْدر في النص القرآني الهدف، هناك إشارة في القرآن نفسه إلى أنه نصٌّ مترجَم وهي الآية: "تنزيل من الرحمن الرحيم, كتابٌ فُصِّــلَتْ آياتُه قرآناً عربياً لقوم يَعلَمون وبشيراً ونذيراً." (فُصِّــلَت، 3).

إنَّ أحد معاني الأساسية للفعل "فَصَّلَ" هو: "بيَّنَ" و"أوضحَ". الترجمة هي تفصيلٌ في لغة أخرى وتفضيلٌ لمعنى على آخر. نلاحظ أنَّ الفعل "فصَّل" قد استُخدِمَ في سياق القرآن بمعنى "ترجَمَ".
لنلاحظْ سياقَ الآية التالية: "ولولا جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا: لولا فُــصِّــلَـتْ آياتُه" (فُصِّلَت، 44). فالتفصيلُ هنا يعني النقلَ أو "التنزيل" من ثقافة أو ثقافات أعجمية [غير عربية] مهيمِنة سائدة (الثقافة المَصْدر) إلى الثقافة العربية المحلية الناشئة (الثقافة الهدف).

ومما أوردَ الطبري في تفسير هذه الآية:

"قوله: (فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) قال: بُــيِّــنَـتْ آياتُه. وقوله: (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يقول: فُصِّـلَتْ آياتُ هذا الكتاب قرآناً عربياً لقوم يَـعْــلَمون اللسانَ العربي."

ومما قاله ابن كثير في تفسير الآية:

"وقوله: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) أي: بُــيِّــنَتْ معانيهِ وأُحكِمَتْ أحكامُه. (قُرْآناً عَرَبِياً) أي: في حال كونه لفظاً عربياً، بيِّناً واضحاً، فمعانيه مفصَّلة، وألفاظُه واضحة غير مشكلة. (...) وكذلك لو "أُنزِلَ" القرآنُ كلُّه بلغة العجم لقالوا على وجه التعنُّت والعناد: (لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ)، أي: لقالوا: (هلَّا "أُنزِلَ" مفصَّلاً بلغة العرب)، ولأنكروا ذلك وقالوا: (أعجمي وعربي؟)، أي: كيف ينزل كلامٌ أعجميٌّ على مخاطَب عربي لا يفهمه؟"

لندقِّق في تفسير الطبري وابن كثير للآية السابقة. أليسا يريدان أنْ يقولا بأنَّ القرآن قد تمَّ وضعُه باللغة العربية لكي يتمكَّن الناطقون بها من فهمِه ويستغنوا عن سؤال أهل الكتاب (إلاَّ إذا أرادَ أحدٌ منهم التوسُّعَ أو التحقُّقَ من صحة ما جاء فيه)؟ أليس هدفُ أي ترجمة هو أنْ تحلَّ محلَّ النص المَصْدر فلا يضطرُّ القارئ الذي لا يعرِف لغةَ النص الأصلي إلى تعلُّم هذه اللغة أو إلى سؤال عارف بها؟

يبدو من أسلوب القرآن أنه نقلَ المعنى بتصرُّف مع الاحتفاظ بآثار النص المَصْدر لكي يعطيَ للنص قيمةً وهيبةً أكثر. والترجمةُ بالمعنى هي ما يسميه يوجين نايدا بـ"التكافؤ الديناميكي" أو "التكافؤ الوظيفي"، أيْ ترجمة مقاصدِ النص المَصْدَر لا كلماتِه. إنَّ فكرة نايدا في التكافؤ الديناميكي تشبه فكرةَ عمر ابن الخطاب في قراءة القرآن بشرط ألَّا يعطيَ القارئ معنىً معاكساً ويستبدلَ المغفرة بالعذاب أو العذابَ بالمغفرة؛ فالاثنان يدافعان عن حرية القارئ والمترجِم وحقِّهما في ألَّا يكونا حَـــرْفِـــيَّــينِ، مما يجعل النصَّ المقدَّسَ في متناول الجميع.

لقد جمعَ مترجمو القرآن بين التكافؤ الديناميكي (ترجمة المعنى في قالب عربي) وبين الترجمة المَصْدرية (النازلة). فبدت فيه عباراتٌ واضحة وعباراتٌ وكلماتٌ غير واضحة احتار في تفسيرها أكابرُ المفسرين واللغويين. فظهر فيه آياتٌ بيِّنات وآياتٌ متشابهات. ويُرجَّحُ أنَّ المترجمين كانوا يتمسَّكون باللغة الهدف التي يترجمون إليها (أي العربية، فتكون ترجمتُهم هدفيةً) عندما كانوا يعرِفون معنى العبارة التي يريدون ترجمتَها ويجدون لها المكافئ الديناميكي أو الوظيفي فيضعونها في قالب عربي واضح ويَـنتُــج عن ذلك آياتٌ بيِّنات. ولكنْ كانوا بالمقابل يتمسَّكون باللغة الأصل (لغة الثقافة المهيمِنة) فتكون ترجمتُهم مصدريةً عندما لا يعرفون معنى العبارة أو الكلمة التي يريدون ترجمتَها أو عندما لا يجدون لها مقابلاً في اللغة الهدف أو لكي يُضْفُوا قيمةً وسِحراً على النص المترجَم فيَــنتُـج عن ذلك آياتٌ متشابهات وأحرف مقطَّعة وعباراتٌ غامضة.

إنَّ محمداً كان صادقاً فعلاً عندما لم ينسبِ القرآنَ إلى نفسه ولم ينسبْه أيضاً إلى أحد آخر غيره، ذلك لأنَّ النصوص المصدرية (الأصلية) ليس لها مؤلِّف واحد ولا مؤلِّف معروف. مؤلِّفها الحقيقي هو المجتمع بكل تناقضاته، أيْ الخافية الجمعية، أي الله. ويبدو أيضاً من خلال معاني النص القرآني وتأثيره أنَّ النبي محمداً والذين معه كانوا صادقين فعلاً في مشروعهم الترجمي القومي، مما جعل لنتاجهم أكبرَ الأثر في قومهم خلال عدة قرون وإلى يومنا هذا.

فترجمةُ عدة نصوص من عدة ثقافات مهيمِنة وجمعُها في ما سُمِّيَ بـــ"القرآن" قد أعطى الثقافةَ العربية الناشئة غنىً وقوةً ودفعاً جديداً لتصبحَ ثقافةً مهيمِنة. ولم يقمْ واضعو القرآن بترجمة العناصر المركزية والأساسية في التيارات الدينية الرسمية المهيمِنة، لأنَّ هدفَهم كان معارضَتَها ومواجهتَها والانقلابَ عليها، بل ترجموا كلَّ ما أهملَــتْه تلك التياراتُ، على غرار ما فعل الأُسقفُ والمترجِمُ السرياني سيــﭭــيروس [سِفيروس] سيبوخت (ساويرس سيبخت) (Sévère Sebôkht) (575 – 667)، أيْ أنهم ترجموا العناصرَ الهامشيةَ أو المهمَّشة، كالنصوص الأبوكريفية [من اليونانية: apókryphos: مُـخَــبَّـأ] (غير القانونية أو غير الرسمية التي لم تَعترِفْ بها الأكثريةُ أو التيارُ المهيمِن فتمَّ إخفاؤها، والتي كانت تسمَّى بالمنحولة)، وجعلوها في مركز ثقافتهم، مما رفدَ هذه الثقافة بمياه جديدة غيَّرَتْ مجرى النهر الثقافي العربي وأحدثَت طوفاناً في المنطقة والعالَم مازلنا نعاني من طَـمْــيِــه حتى اليوم.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن